الرجل الذي لم ينلْ حقّه

الرجل الذي لم ينلْ حقّه

30 ديسمبر 2021

آخر رؤساء الاتحاد السوفياتي غورباتشوف على كرسي متحرك في موسكو (9/5/2019/Getty)

+ الخط -

يمكن القول، ببعض التبسيط، إن رجلين اثنين رسما منفَردَين حدود القرن العشرين، بدايتَه ونهايتَه. هنالك القليل مما يجمع بين الرجلين والكثير مما يفرّقهما. كلاهما روسي وأصلع وفائق الذكاء، ولكنهما يختلفان في كلّ شيء آخر. الأول فلاديمير لينين، قائد الثورة الشيوعية في روسيا ومؤسّس الاتحاد السوفييتي. الثاني ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، وهو الذي أعلن نبأ سقوطه من مكتبه في الكرملين.

في يوم عيد الميلاد قبل ثلاثين سنة، جلس الزعيم السوفييتي، غورباتشوف، إلى طاولة في أسفل الكرملين، وبدأ يستعدّ لإلقاء خطاب مزلزل. وبينما كان العالم يتوقّع مضمون الخطاب، زُلزِلت الأرض زلزالها، حين أعلن الرجل الأصلع ذو الوحمة الكبيرة على جبهته أنه بعد 74 عامًا كواحدة من أقوى الدول، لم يعد الاتحاد السوفييتي موجودا، وأنه سوف ينقسم إلى 15 دولة مستقلّة.

بشجاعة واكتئاب، قال غورباتشوف: "لقد شاء القدر أن أتسلّم مقاليد الأمور في البلاد، حين كان من الواضح بالفعل أن الأشياء لم تكن على ما يرام، فبينما كان ثمّة وفرة في كلّ شيء: الأرض والنفط والغاز وثروات طبيعية أخرى، ومع أن الله وهبنا الكثير من الذكاء والموهبة، فقد كنا نعيش أسوأ بكثير من البلدان المتقدمة وتزداد الهوّة بيننا اتساعا". والسبب، كما أوضح، هو "نظام القيادة البيروقراطية، المحكوم عليه بخدمة الأيديولوجية وتحمل العبء الرهيب لسباق التسلح. لقد وصلت إلى حدود إمكاناتها. وفشلت كل المحاولات للإصلاح الجزئي، وكان منها الكثير، فشلا ذريعا الواحدة تلو الأخرى. لقد فقدت البلاد منظورها، ولا يمكننا الاستمرار في العيش على هذا النحو. كان لابد من تغيير كل شيء بشكل جذري".

أسّس لينين الاتحاد السوفييتي بانسحابه من الحرب مع ألمانيا وقوّض غورباتشوف الاتحاد نفسه بانسحابه من الحرب الباردة

حين انتهى الزعيم من إلقاء كلمته، خرق مصوّر "أسوشييتد برس"، ليو هيونغ شينغ، الأوامر الصارمة المعطاة له بعدم التصوير، والتقط صورة تاريخية لغورباتشوف، وهو يغلق المجلّد الذي كان يحوي خطابه، وكأنه يعلن انتهاء الإمبراطورية السوفييتية وبداية عصر دولي جديد. تلقّى ليو ضربة هائلة في بطنه من رجل أمن سوفييتي، ولكن الصورة انتشرت في العالم كالنار في الهشيم. لقد انتهت الحرب الباردة وتوقف سباق التسلح والعسكرة المجنونة. لقد انتهى الاتحاد السوفييتي "العظيم".

قبل هذه اللحظة بأربع وسبعين سنة، كان مواطن غورباتشوف، فلاديمير لينين، يؤسّس الاتحاد السوفييتي، ويقيمه على أشلاء العمّال الروس أنفسهم الذين كان يقاتل في سبيلهم. قاتل يمينا ويسارا، ووقف ضدّ الجميع تقريباً لكي يشكّل دولة العمّال والفلاحين، ولم يتردّد في قسم حزبه قسمين، فخرج معظم قادة الحزب، بليخانوف ومارتوف وبوتريسوف، وحتى تروتسكي الذي كان على يسار لينين، اصطفّ ضدّه لأنه كان يخشى سطوته. ولم يأبه أن يكون مناصروه أقلية في الحزب، فالحزب بالنسبة له ليس كمّا، وإنما هو "دزينة من المحترفين الثوريين وجريدة". وعلى الرغم من ذلك، أصرّ على تسمية تيّاره باسم البلاشفة (الأكثرية)، على الرغم من أن الأكثرية الحقيقية كانت في الطرف الآخر (المناشفة). ورفض كلَّ جهدٍ لتوحيد الحزب. وبدلا من ذلك، كان يقول لرفاقه: "إذا أمسكتَ بمنشفي من رقبته، فلا تتركه إلا وقد فارق الحياة". لم يكن يتحمّل قط أولئك الذين يختلفون معه في الرأي، لا خارج حزبه ولا في الداخل. وكما يقول ليف دانيلكين، مؤلف سيرةٍ عن حياة لينين الأخيرة (2017)، كان لينين "انفصالياً محترفاً"، وسياسياً كلْابياً لا يرحم. قاد العمال وهو من ذوي الياقات البيضاء، ولد لعائلة مثقفة، وكان جدّه لأمه إقطاعياً نبيلاً، تعلّم في مدارس غالية، وتعلّم اليونانية واللاتينية والألمانية. ومع ذلك، كان ثورياً على طول الخط، وربما ثورياً أكثر مما ينبغي.

لم يكن غورباتشوف يعرف أن إصلاحه سوف يقوّض الإمبراطورية السوفييتية، بل كان يراهن على إصلاحها وتقويتها

وبسبب ثوريته أيضاً، أوجد دولة قمعية بامتياز، بعد أن قضى على النظام القيصري، ثم على الجمهورية الديمقراطية التي عاشت أشهراً فقط في عام 1917، وبعد أن قتل عائلة القيصر بأكملها رمياً بالرصاص في غرفةٍ مقفلة، أسّس لدولةٍ شموليةٍ قاسيةٍ بلا رحمة تحكم باسم العمال والفلاحين. ولم يكن لدى لينين أي مشكلةٍ أخلاقيةٍ في إبادة خصومه السياسيين، وفي السنوات الخمس الأولى التي تلت الثورة 1917-1922، قتل الرعب الأحمر، وفقًا لتقديرات مختلفة، ما بين نصف مليون ومليون شخص، معظمهم طبعاً من العمال والفلاحين، ما جعل جرائم النظام القيصري، الذي أعدم حوالي ستة آلاف شخص خلال 37 سنة (1875 – 1912)، تبدو شاحبةً بالمقارنة.

وأسّس لينين، ومن بعده ستالين ومعظم قادة الاتحاد السوفييتي، دولةً كانت تعيش في السرّية، يحكم القبضة عليها ثلة من الرجال يتربّعون في قمّة الحزب الشيوعي السوفييتي، يمكثون في مناصبهم حتى وفاتهم، ويُحكمون الخناق على الشعب الذي أنتج تولستوي وتورغينيف وتشايكوفسكي وبوشكين، فصار همّه الحصول على فخذ خروفٍ وقطعة زبدة، وألا يقع في قبضة البوليس السرّي.

في 1985، انتخب غورباتشوف أمينا عاما للحزب الشيوعي السوفييتي، ثمّ رئيسا للاتحاد، وسرعان ما بدأ بحركةٍ إصلاحيةٍ واسعةٍ قامت على مبدأين: البيريسترويكا والغلاسنوست. من خلال البيريسترويكا (إعادة الهيكلة)، حاول غورباتشوف سلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي هدفت إلى إطلاق اقتصاد الثمانينيات الراكد في الاتحاد السوفييتي، وأشرف على أهم التغييرات الأساسية في المحرّك الاقتصادي لبلاده وهيكلها السياسي منذ الثورة الروسية. أما الغلاسنوست (الشفافية) فكانت مدخلا للانفتاح السياسي والإعلامي، وكسرت احتكار الحزب الشيوعي والدولة للمعلومات. كان الغرض من الغلاسنوست سياسيًا بطبيعته، وكان موجّها من الأعلى، إذ اعتقد غورباتشوف ومستشاروه، بصفتهم روّادا سياسيين، أن النظام السوفييتي يمكن أن يجدّد نفسه بعد زمن مديد من الركود من خلال الإدماج النشط للجماهير في العملية السياسية وأن النقاش المفتوح والانتقاد قد يساعد في إعادة الحياة السياسية الحقيقية إلى الدولة السوفييتية عبر مؤسساتٍ منفتحةٍ وإعلام شفّاف. وفتح الإصلاح الباب لانتخابات أكثر حريةً وشفافية، وألغى احتكار الحزب السلطة، وكان على مرشّحي الحزب الشيوعي أن يخوضوا انتخاباتهم في مواجهة مرشّحين مستقلّين لأول مرة في تاريخ الاتحاد السوفييتي. وكانت النتيجة تسليم سلطة الدولة إلى كونغرس نواب الشعب لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، أول برلمانٍ حقيقيٍّ في الاتحاد السوفييتي، على أساس انتخابات ديمقراطية. وفي 15 مارس/ آذار 1990، انتخب مجلس النواب غورباتشوف أول رئيس للاتحاد السوفييتي.

ألغى غورباتشوف احتكار الحزب السلطة، وكان على مرشّحي الحزب الشيوعي أن يخوضوا انتخاباتهم في مواجهة مرشّحين مستقلّين

لم يكن غورباتشوف يعرف أن إصلاحه سوف يقوّض الإمبراطورية السوفييتية، بل كان يراهن على إصلاحها وتقويتها. لكن مفاجأة هذه الإصلاحات أنها أدّت بالعكس إلى اضطراباتٍ قوميةٍ وشعبية. وبدأت النزعة القومية الروسية تظهر إلى السطح، ومعها صعد بوريس يلتسين، السكّير المحبوب من معظم الروس، الذي تحوّل إلى بطل قومي، عندما اعتلى ظهر دبابة، وأفشل انقلابا مضادّا قاده حزبيون وعسكريون محافظون. في المقابل، أعلنت كرواتيا وبيلاروسيا وكازاخستان استقلالها. وفي الخارج، انهارت أنظمة شيوعية عدة، وسقط جدار برلين، وقُتل السفّاح الروماني نيقولاي تشاوشيسكو سحلا بالدبابة. وحانت الخاتمة أخيرا بخطاب الرئيس غورباتشوف في مثل هذه الأيام قبل ثلاثين سنة.

أسّس لينين الاتحاد السوفييتي بانسحابه من الحرب مع ألمانيا (1917)، وقوّض غورباتشوف الاتحاد نفسه بانسحابه من الحرب الباردة. بين هذين الرجلين، رسمت ملامح قرن بأكمله، شهد حالات الانتداب والاستقلال، وتأسّست عصبة الأمم ثمّ الأمم المتحدة، ونشأت حركة التحرّر الوطني التي جاءت بحفنةٍ من العسكر، فحوّلتهم إلى أوليغارشية شعبوية فاسدة، وبُني جدار برلين وهُدم، وانتشرت الاشتراكية انتشار النار في الهشيم، لتحكم ثلثي سكّان العالم، حتى ظننّا أنه المستقبل، ولكنها سرعان ما انحسرت كما تنحسر مياه البحر لحظة الجزر، وبنيت أجهزة المخابرات والغستابو وكي جي بي والسافاك والشاباك. وقتل ملايين الناس في الحروب والثورات والمعتقلات.

بدأ لينين القرن بثورةٍ دموية، وأنهى غورباتشوف القرن نفسه بانفتاح وإصلاح وانتخابات حرّة. أخذ لينين أكثر من حقّه بكثير، بينما لا يزال هذا الرجل الذي بلغ التسعين هذا العام مختبئأ في مكان ما، بعيدا عن السلطة والشهرة والأضواء.

8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح