التهجير المجاني… والمدفوع

التهجير المجاني… والمدفوع

18 فبراير 2024
+ الخط -

مع التحضيرات الإسرائيلية لاجتياح مدينة رفح التي تضم أكثر من مليون من النازحين الفلسطينيين الذين فرّوا من مناطقهم إلى الجنوب بحثاً عن الأمان غير الموجود، عاد الحديث عن سيناريو تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وعادت الأصوات والمواقف لتنبري رفضاً لمخطّط التهجير، خصوصاً بعد التقارير الغربية وصور الأقمار الاصطناعية التي نشرتها شبكة سي إن إن، وأظهرت بناء القاهرة مخيّماً ضخماً في سيناء.

ورغم نفي محافظ شمال سيناء الأمر وتأكيده أن الأعمال الجارية هي "جزء من محاولة لجرد المنازل التي دُمّرت خلال الحملة العسكرية المصرية الماضية ضد تنظيم داعش في المنطقة"، لن يكون هناك مفرٌّ أمام الفلسطينيين العالقين في رفح إلا التوجّه إلى سيناء في حال أصرّ رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، على تنفيذ العملية العسكرية في رفح، مع رفضه القاطع عودة الفلسطينيين المهجّرين من الشمال إلى منازلهم. أما الحديث عن فتح الطريق لخروج الفلسطينيين من رفح إلى خانيونس ودير البلح فأثبت عدم نجاعته في ظلّ استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على المنطقتين المحاصرتين والمقطوع عنهما الماء والغذاء والدواء.

من حقّ الجميع الخشية من مخطّط تهجيرٍ جديدٍ للفلسطينيين مماثلٍ للذي نُفذ على دفعتين في عامي 1948 و1967، وغيرهما من الحروب التي دفعت الفلسطينيين إلى مغادرة منازلهم. وفي الوقت نفسه، لا بد من النظر إلى وضع الفلسطينيين العالقين في رفح وغيرها من المناطق، والراغبين في الخروج بسلام من المقتلة الإسرائيلية المستمرّة منذ أكثر من أربعة أشهر، والتي يبدو أن لا نهاية قريبة لها، مع تعنّت نتنياهو في المفاوضات الهادفة إلى تحقيق هدنة طويلة نسبياً. لا يمكن لوم الراغبين في الهروب من الموت والبحث عن أمانٍ في مكانٍ ما، بعد كل الأهوال التي عايشوها. يجب ألا يٌنظر إلى الغزّيين، رغم ملاحم الصمود التي سطّروها ويسطّرونها، على أنهم أبطال خارقون، أو أنهم بشر منذورون للموت. هم بشر عاديون، ليسوا راغبين في الموت، لهم أحلامهم التي يرغبون في العيش لتحقيقها. من المؤكّد أنهم أيضاً غير راغبين في التشرّد مرّة أخرى، وهم في معظمهم من اللاجئين الذين أتوا إلى قطاع غزّة بعد النكبة هرباً من البطش الإسرائيلي.

عشرات المناشدات تخرج يومياً من قطاع غزّة، وعبر وسائل متفرّقة، تطلب المساعدة للخروج من القطاع بأي طريقةٍ ممكنة. وهذا من حقوق الحياة، ولا يمكن لوم أحدٍ عليها، ومن المؤكّد لو أن أيّاً من المحذِّرين من سيناريو التهجير كان في مكان العالقين في قطاع غزّة اليوم، لكان فكّر بالطريقة نفسها. صحيحٌ أن مخطّط التهجير حقيقي، ومواجهته لا تكون إلا بإيقاف الحرب، لكن لا يبدو أن هذا متاحٌ حالياًِ، بل على العكس، إذ إن نتنياهو عازم على مدّ العدوان إلى أطول فترة ممكنة، وربما انتظار الانتخابات الأميركية.

ولننظر إلى الواقع من زاوية أخرى، أليس "التهجير" قائماً فعلياً اليوم بأشكالٍ مختلفة؟ خمسون ألف فلسطيني من غزّة خرجوا حتى الآن إلى القاهرة، ومنها انتشروا في أماكن مختلفة من العالم، ولا يشمل هذا العدد الفلسطينيين من حملة الجوازات الأجنبية الذين كانوا مقيمين في قطاع غزّة وخرجوا، بفضل جوازاتهم، في الأيام الأولى للحرب. تجّار الحروب، بالتواطؤ مع جهات رسمية مصرية، استغلوا غريزة البقاء عند الفلسطينيين الذين دفعوا آلاف الدولارات ثمن تنسيق الخروج من القطاع. تنسيق وصلت تكلفتُه في بعض الأحيان إلى أكثر من عشرة آلاف دولار، قبل أن تُنظّمه الدولة المصرية رسمياً ليصبح السعر خمسة آلاف دولار. وكثير من الفلسطينيين اضطرّوا إلى تأمين المبلغ عبر بيع ممتلكاتهم، أو ما تبقى منها، بأثمان بخسة.

الفرق ربما بين "التهجير" القائم حالياً وما يمكن أن يحصل مستقبلاً أن الأول مدفوع والثاني سيكون مجّانياً.

حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".