الاستبداد وكورونا وحرية الصحافة

الاستبداد وكورونا وحرية الصحافة

06 مايو 2021
+ الخط -

تتسع رقعة التداعيات التي خلّفتها جائحة كورونا في مختلف مناحي الحياة العامة. وبات ذلك يمثّل، بالنسبة للأنظمة المستبدة، فرصةً لا تعوّض لترسيخ سلطتها، وإحكام قبضتها على مجتمعاتها. وتقع حرية الصحافة في قلب هذا الرهان السياسي غير المسبوق. وبحسب تقرير منظمة مراسلون بلا حدود، الصادر بمناسبة اليوم العالمي للصحافة الذي يصادف 3 مايو/ أيار، فقد توازى تفشّي الوباء مع تراجع حرية الصحافة وتدهور أحوالها، إلى درجة أنّ "73% من دول العالم تعاني مشكلات خطيرة مع الحريات الإعلامية". وبقدر ما تبدو هذه النسبة مرعبةً بالنسبة للمدافعين عن حقوق الإنسان والحريات العامة، إلّا أنّها تعتبر، في نظر الأنظمة المعادية للديمقراطية، مؤشّراً على تغيير واضح في ميزان القوى لصالحها.

ومع تزايد حدّة التقاطبات العلمية والصحية والسياسية المرتبطة بالجائحة، واحتدام حرب اللقاحات، أصبح الصحافيون يواجهون صعوباتٍ بالغة في الوصول إلى مصادر المعلومات والبيانات ذات الصلة، بعدما صارت كورونا ملفاً سياسياً تحتكره الأنظمة، وتُديره وفق حسابات داخلية وإقليمية ودولية، بإجبار وسائل الإعلام المختلفة على تبنّي روايتها بشأن الجائحة وتسويقها داخل الرأي العام.

أخذت هذه الصورة بعداً أكثر دراماتيكية في المنطقة العربية بسبب التردّي الذي تشهده الأوضاع العامة، في ظلّ حالة الانسداد السياسي الذي تشهده معظم بلدان هذه المنطقة بعد إخفاق ثورات الربيع العربي. وفي الوقت الذي احتلت تونس المركز 73 (الأول عربياً) في مؤشّر حرية الصحافة، صنّف التقرير 12 دولة عربية ضمن الخانتين الحمراء والسوداء، بسبب الوضع الصعب والخطير للصحافة فيها، ما يعني في المحصلة عدم حدوث تغييرٍ كبير في هذا المؤشّر في المنطقة.

معظم الأنظمة العربية لا تنظر إلى الصحافة باعتبارها سلطةً رابعةً تسهم في بناء الرأي العام وتوجيهه، وإغناء النقاش العمومي، وتوسيع مساحة الحرية، وتحديث بنيات المجتمع، بقدر ما تعتبرها مصدراً لتهديد سلطتها. ولذلك، لم تتردّد في استثمار الجائحة لإعادة جدولة أولوياتها الأمنية والسياسية والاجتماعية، لا سيما بعدما فشلت القوى الثورية والمدنية في الانعطاف بلحظة الربيع العربي صوب توافقاتٍ سياسيةٍ كبرى تمهّد للقطع مع الاستبداد، وإقامة أنظمة ديمقراطية منتخبة. ولذلك، وظّفت الحقائقَ والشائعات والمزاعم التي واكبت تفشّي الفيروس على مدار السنة الماضية في تشكيل روايتها، وإجبار وسائل الإعلام والرأي العام على تبنّيها، والالتزامِ بمخرجاتها الصحية والأمنية، وقبولِ التعديلات التي تُدخلها عليها بالتوازي مع تطور الوضعية الوبائية، ضمن معادلة أمنية وسياسية بالدرجة الأولى، تتوخّى استخلاص العائد السياسي للجائحة بغاية ترميم شرعيتها السياسية التي كشفت الموجتان، الأولى والثانية، للربيع العربي شروخها المزمنة. ولا شك في أنّ الثورة المضادّة لعبت دوراً لافتاً في إعادة السيطرة على الصحافة والإعلام، بتسخير نفوذها السياسي والمالي، لتجفيف منابع الصحافة الحرّة في المنطقة. ويأخذ الأمر منعطفاً دالاً بالنسبة للصحافة الاستقصائية التي يشنّ عليها الاستبداد الجديد حرباً ضروساً، بسبب جهودها في فضح قضايا الفساد الذي شكّلت مناهضته أحدَ عناوين الربيع العربي. ومع انعدام فاعلية البرلمان، وتراجع مؤسسات الوساطة، وصورية المؤسسات والمجالس التي تُعنى بتنظيم الصحافة، تزداد صورة حرية الصحافة قتامة في المنطقة. وإذا كان الإعلام الرقمي قد أصبح يشكّل تحدّياً جسيماً في هذه المعادلة، فإنّ الأنظمة العربية تحاول، جاهدة، تطويعه وتكييفه مع طبيعتها الاستبدادية، سواء من خلال إصدار تشريعات تحدّ من فاعليته وتأثيره على الرأي العام، خصوصاً داخل مواقع التواصل، أو ممارسةِ الرقابة والتهديد والترهيب إزاء الصحافيين الذين يتجاوزون الخطوط الحمراء.

في الختام، لا تنفصل هذه الصورة القاتمة لحرية الصحافة في المنطقة عن التبدّل الذي طرأ على أولويات القوى الدولية المؤثرة التي لم تعد الحقوق والحريات ضمن انشغالاتها الرئيسة، في ظلّ تركيزها على ملفي مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. وهو ما يعتبره الاستبداد العربي بمثابة ضوء أخضر للمضي في سياساته القمعية إزاء الصحافيين ووسائل الإعلام.