الاحتلال وأثمان نسخته الجديدة

الاحتلال وأثمان نسخته الجديدة

18 مايو 2021
+ الخط -

تشهد دولة الاحتلال تحوُّلاتٍ إيديولوجية سياسية واجتماعية لافتة، متَّجهة نحو مزيد من التطرُّف الديني. تمثَّل ذلك، أخيرًا، في وصول أحزابٍ دينية عنصرية صريحة إلى الكنيست، ليس هذا فقط، بل إلى تحالُفها مع رئيس حكومة الاحتلال، زعيم حزب الليكود، بنيامين نتنياهو، الذي ليس بعيدًا عنهم، في العمق؛ في رؤاها الإيديولوجية، السياسية التي أفصح عن بعضها في كتابه " مكان تحت الشمس" (1993) حين أعاد بلورة نظريته العنصرية إزاء العرب بالمجمل، باعتبارهم أمة لا نفع منها، ولا يمكن أن تستقيم في نهج الحضارة، إلا من خلال سياسات القوَّة، فتقارُب نتنياهو مع الأحزاب العنصرية، ليس على المستوى السطحي، في احتياجه إليهم لأغراض سياسية وسلطوية، فقط.

جميع العرب محكومون بمواجهةٍ وجودية؛ حياة أو موت، بالمعنى الحقيقي، لا المجازي

هذه الجماعات، مثل منظمة لاهافا التي سبق للمخابرات الإسرائيلية العامَّة (الشاباك) أن أكَّدت وصفها لها بأنها منظمة خطيرة، تتبنَّى أفكار حركة كاخ العنصرية والمحظورة، التي هدفت إلى تهجير فلسطيني الداخل إلى الدول العربية، واليوم تتبنّى "لاهافا" علنًا قتْلَ العرب؛ لمجرَّد كونهم عربًا، وتعمل على طردهم، كما تتبنَّى استهداف المسجد الأقصى؛ بالهدم، وإقامة الهيكل مكانه، مثل هذه الأهداف: المسجد الأقصى، قتْل الفلسطينيين؛ السكَّان الأصليين، وطردهم، أو تهجيرهم، (كما في حي الشيخ جرَّاح) وهدم المسجد الأقصى، مُحرِّكاتٌ لا يمكن أن تتوقَّف عن إثارة مخاوف الفلسطينيين، على اختلاف توجُّهاتهم السياسية، وحتى فيما يتعلق بالبُعْد العنصري الإجرامي، لا يمكنها أن تُبقِي حتى أقرب المتماهين مع دولة الاحتلال، ومن يؤمنون بفُرَص التعايُش معها، خارج المواجهة، هذه الاستهدافات الدموية لغير اليهود في فلسطين تعيد تشكيل وعي العرب وهُويَّتهم المُوحَّدة، بعد أن جهدت إسرائيل، منذ قيامها، على تشتيتها، وَفْق تعريفات أقلويّة طائفية، وعلى أسس متباينة. مرَّة على أسس دينية، ومرَّة على أسس عرقية، ومناطقيّة. أما الآن، فجميع العرب محكومون بمواجهةٍ وجودية؛ حياة أو موت، بالمعنى الحقيقي، لا المجازي. وهنا الخطورة البالغة، الهادمة كلِّ ما تمّ بناؤه من تقاربات، وكل ما تمّ تفعيله من آليَّات الاحتواء، والتهشيم للهوية الفلسطينية، في الداخل، (ولو لم تكن ناجعة على نطاق واسع) عبر عقود.

دولة الاحتلال، بصورتها الجديدة التي تتشكَّل، ليست قادرة على الانخراط في شرق أوسط جديد

هذه الـ "إسرائيل" التي تسمح، بعد أن كانت تحظر، تمثيل مثل هذا الفكر في الكنيست، ليست قادرة على الاستمرار في الرؤى والآليات السابقة الهادفة إلى التعايُش في الداخل، من أراضي فلسطين المحتلة عام 48، أو الهادفة إلى الاندماج في المنطقة العربية والإسلامية، فالمسجد الأقصى ثالث المساجد قدسيَّةُ لدى المسلمين في العالم، وقتل الفلسطينيين لمجرَّد أنهم عرب، أو غير يهود، يُشعِران كلَّ مسلم وعربي أنه الآخر مستهدَف، ومُعادَى، من هذه الدولة التي باتت صورتها الميَّالة بوضوح نحو قيم انعزالية وعنصرية، في العالم أجمع، محلّ نظر، وتشكيل جديد.
دولة الاحتلال، بصورتها الجديدة التي تتشكَّل، ليست قادرة على الانخراط في شرق أوسط جديد، بشِّر به، شيمون بيريز، الزعيم التاريخي في حزب العمل، في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" (1996) .. الذي لا يختلف مع معسكر اليمين الصهيوني في تقديم مصلحة إسرائيل، واستبقاء هيمنتها، ولكن في أساليب تحقيق ذلك، وفي وسائل فرض هيمنتها على المنطقة بأكلمها؛ بالسِّلْم والدبلوماسية والاقتصاد.

فلسطينيو الداخل لم يكونوا في منأى عن أشكال العنصرية، وعن سياسات الاقتلاع والتهجير الجزئي، ولكن الوتيرة العالية أخيرا لم يكن في الوسع التغاضي عنها، والتعايش معها

هذه النظرة الواضحة العِداء التي باتت تتغلَّب على قادة الاحتلال لا تتماشى، في العمق، مع فكرة التطبيع؛ إنها تضربها في أركانها، وتشلّ قدراتها، وتُهِيل المزيد من التراب عليها، فنتنياهو استخدم التطبيع من أجل تمرير أهدافه ورؤيته الاستيطانية، والتهويدية، والأمن وَفْق مفهومه له، كما الاستيطان والتهويد، يتقدَّم على فتح الآفاق لدولة الاحتلال في المنطقة العربية والإسلامية، فشعاره "السلام مقابل السلام"، نقضًا لشعار "الأرض مقابل السلام"، ففي الداخل، عملت إسرائيل، عقودا، على تحييد الفلسطينيين عن الصراع، وحاولت إرباكهم، وإرباك خطابهم بين "الولاء للدولة" والانتصار لشعبهم المحتل في الضفة الغربية والقدس وقطاع عزة، ولكنها الآن تناصر غُلاة المستوطنين المتطرِّفين في مساعيهم إلى استهداف المسجد الأقصى، الذي يرتبطون به، كما أيُّ مسلم، وحتى عربي، في العالم، وفي هذا مساسٌ بهُويتهم التي لم تنجح دولة الاحتلال في محوها، في وقتٍ لا تضع حدًّا لمن يستهدفون أرواحهم وممتلكاتهم، هذا إذا لم توفر للقتلة أشكالًا من الحماية والتغطية.
صحيحٌ أن فلسطينيي الداخل لم يكونوا في منأى عن أشكال العنصرية، وعن سياسات الاقتلاع والتهجير الجزئي، كما فيما تسمَّى القرى غير المعترف، وغيرها، تحت ذريعة "قانون التخطيط والبناء"، ولكن الوتيرة العالية أخيرا لم يكن في الوسع التغاضي عنها، والتعايش معها. وتؤكّد مواقف الاحتلال، أخيرا، من حي الشيخ جرّاح، ومن السماح برفع وتيرة الاستهداف للمسجد الأقصى، فضلًا عن التواني الحكومي الاحتلالي عن حماية المدنيِّين العرب، فيما تسمَّى المدن المختلطة، ما خلص إليه وبرهن عليه المؤرِّخ اليهودي إيلان بابه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" (2006) أن "الترانسفير"، وهذا تعبير ملطَّف عن التطهير العرقي، كان منذ البداية جزءًا من استراتيجيا رُسِمت بعناية ودقَّة، وأنه يكمن في أساس الصراع المستمر في الشرق الأوسط".

إذا قُدِّر لدولة الاحتلال أن تنجح في احتواء موجة المواجهة الأخطر بين اليهود والعرب، فإنها ليست مرشَّحة لنجاحات دائمة

يدرك قادة الاحتلال خطورة هذه الحالة العدائية المكشوفة، بين اليهود والعرب الفلسطينيين، وهم يحاولون احتواءها، إذ لو قُدِّر لها الاستمرار والتوسُّع، فإنها لن تضرّ بصورة إسرائيل في العالم، وحسب، بل ستعمل على نقض الآليَّات المعتمَدة، للتعامُل مع هذا الكم الديمغرافي المتداخل، والبالغ قرابة المليونين، بنسبةٍ تزيد عن 21% من السكّان. وهم يشغلون، بوصفهم الفردي، مواقع ليست هامشيةً في قطاعات مهمَّة وحيوية يصعب على دولة الاحتلال سلخهم منها.
وإذا قُدِّر لدولة الاحتلال أن تنجح في احتواء موجة المواجهة الأخطر بين اليهود والعرب، فإنها ليست مرشَّحة لنجاحات دائمة؛ إذ مؤسّساتها وجهازها القضائي ليس بتلك النزاهة، مثالًا على ذلك، رجوع محكمة العدل العليا عن حظر قوائم ذات خلفية عنصرية صريحة عن الترشُّح لانتخابات الكنيست، ثم سماحها لها، كما ظهر في شرعنة منظمة لاهافا، والتي لعبت دورًا كبيرًا في التحريض على قتل العرب، أخيرا.