الإنكار الأميركي يؤجّج الصراع في المنطقة

الإنكار الأميركي يؤجّج الصراع في المنطقة

09 فبراير 2024
+ الخط -

يصرّ المسؤولون الأميركيون على نفي وجود أي ترابط بين زيادة وتيرة الصراعات في الشرق الأوسط والحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزّة، ويحاولون تسويق أن الصراعات في المنطقة كانت موجودة قبل هذه الحرب، وأن لا علاقة لموقفهم المنحاز مع الحرب الإسرائيلية بالهجمات التي شُنت على القوات الأميركية في العراق وسورية وفي البحر الأحمر، بما فيها الهجوم على القاعدة الأميركية (البرج 22)، في شمال شرقي الأردن، في 28 من يناير/ كانون الثاني الماضي، وأدى إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين وإصابة نحو 40.

لا يمكن التسليم بالموقف الأميركي القائم على الإنكار، بوصفه نهجاً لا يشير إلى حالة متعدّدة المظاهر والمركبات فقط، بل إلى انتفاء السياسة ومصادرتها، والجنوح إلى نهج شن الحروب، الذي لا يعرف سوى لغة القتل والإيغال في استخدام العنف المنفلت من عقاله، فكل المعطيات على الأرض تؤكد أن الحرب الإسرائيلية على غزّة ساهمت في تأجيج العنف وعدم الاستقرار في المنطقة، على الرغم من محاولات الولايات المتحدة حصر الصراع في غزّة، وعدم توسّعه إلى دولها، فالقصف المتبادل والمناوشات على الحدود اللبنانية الجنوبية لم تكن قائمة قبلها، ولم تشهد القواعد الأميركية زيادة وتيرة استهدافها من قبل، خصوصاً بعد توصل إدارة بايدن إلى صفقة تبادل سجناء ومعتقلين مع إيران في الصيف الماضي. فضلاً عن أن هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر لا تزال قائمة. فواقع الحال يشي بأن الصراع امتد على طول منطقة المشرق العربي، وبالتالي لا يمكن التظاهر بأنه ليست للانحياز الأميركي لإسرائيل عواقب على المنطقة واستقرارها، إلا إذا اعتمدنا منطق التضليل والكذب للتغطية على جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزّة، وجرائم المستوطنين في الضفة الغربية.

قد تكون للمليشيات الإيرانية في كل من العراق وسورية أسبابها الخاصة المرتبطة بالأجندة الإيرانية، لكنها وجدت في الحرب على غزّة فرصة لاستهداف القوات الأميركية، وينسحب الأمر على ما يقوم به حزب الله اللبناني والحوثيون، الذين يريدون تعزيز مواقعهم ومواقفهم، لكن ذلك لا يعني أن عملياتهم العسكرية غير مرتبطة بالحرب الإسرائيلية على غزّة والانحياز الأميركي.

التاريخ يشهد على أن أصل القضية الفلسطينية، وما ترتّب عليها من صراع، هو الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي للأرض الفلسطينية

تستند سياسة الإنكار التي تلجأ إليها الإدارة الأميركية إلى السياسة نفسها التي تنتهجها دولة الاحتلال الاستيطاني للتغطية على ما يرتكبه جيشها ومستوطنوها بحق الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية من جرائم قتل وإبادة بحقهم، الأمر الذي يثير التساؤل عن حيثيات هذا الانحياز الكامل الذي يصل إلى حدّ التغطية على جرائم قصف الأماكن السكنية، ومعها مختلف المرافق المدنية، من مستشفيات ومدارس وأسواق، حيث يمتد الانحياز إلى سعي الإدارة الأميركية لتوفير تبريرات له، وتأمين تمرير مليارات الدولارات إلى حكومة اليمين المتطرّف في إسرائيل، فضلاً عن تزويدها بكل أنواع القنابل والقذائف والمعلومات الاستخباراتية، وبالتالي، يحتاج كل هذا الدعم إلى تبرير أمام الناخب الأميركي. فضلاً عن أن الإدارة الأميركية تريد الإيهام بأن سقوط قتلى أميركيين ليس بسبب دعم الحرب الإسرائيلية، إنما بسبب صراعات أخرى لها علاقة بالعداء لأميركا وللغرب وما شابه ذلك. يضاف إلى ذلك أن الرد الأميركي على الهجوم الذي استهدف قاعدتها في الأردن عكس مدى ارتباك إدارة بايدن وتناقضها، فقد أرادت تأكيد ردّها العسكري على مواقع المليشيات، لكنها لا تريد أن يتطوّر ردّها إلى مواجهة مفتوحة مع إيران، فالرئيس الأميركي جو بايدن لم يفوّت فرصة إلا وتحدّث عن أن بلاده لا تريد اتساع رقعة الحرب في الشرق الأوسط، لذلك جاء ردّها محسوباً ومنزوعاً من أي تداعياتٍ فائضة، وانحصر هدفه في إيصال رسالة إلى الداخل الأميركي بشكل أساسي.

سعي الولايات المتحدة إلى عدم توسيع رقعة الحرب لا يعني تجنّبها الانخراط في صراعات جديدة

لا يبتعد إصرار الإدارة الأميركية على تكرار مقولة "عدم امتداد الصراع" وحصره في غزّة، عن محاولاتها تسويق أن ما يجري هو حرب بين إسرائيل وحركة حماس، وتقوم بها دولة الاحتلال الاستيطاني "دفاعاً عن النفس" وليس بغرض إبادة أهل قطاع غزّة وتهجيرهم. في حين أن التاريخ يشهد على أن أصل القضية الفلسطينية، وما ترتّب عليها من صراع، هو الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، أي أن السياق التاريخي لها يعود إلى نشأة إسرائيل وما قبلها في 1948، في حين أن "حماس" تأسست عام 1987، في سياق رد فعل الفلسطينيين على ممارسات إسرائيل ضدهم. واتسمت نشأة إسرائيل بأنها كيان غير طبيعي، فهي ليست كباقي الدول التي تشكلت وفق سيرورات اجتماعية بين مجموعات بشرية تسكن إقليماً من الأرض، ويجمعها تاريخ وعيش مشترك، بل أنشئت ككيان استعماري استيطاني، يقوم على اقتلاع السكان الأصليين وتهجيرهم بالقوة، وإحلال مجموعات يهودية هجينة ومتعدّدة الأصول والأعراق والثقافات والجنسيات محلهم. وقد أظهرت الحرب على قطاع غزّة حجم التغول الإسرائيلي في قتل الفلسطينيين، الذي لا ينفصل عن سياقه التاريخي، وعن العقاب الجماعي المستمر الذي مارسته على الفلسطينيين طوال أكثر من خمسين عاماً، فضلاً عن ممارسات جيش الاحتلال والمستوطنين وقوات الأمن الإسرائيلية.

المشكلة أن سعي الولايات المتحدة إلى عدم توسيع رقعة الحرب لا يعني تجنّبها الانخراط في صراعات جديدة، كونه لا يترافق مع بذلها أي مساع لوقف الحرب الإسرائيلية على غزّة، باعتبار أن هذه الحرب هي العامل الرئيس في تأجيج العنف وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، على الرغم من أن الولايات المتحدة تسعى إلى سحب قواتها من المنطقة، وبما يقلل من إمكانية استهدافها، وعدم دفع الكلفة، لكنها تتبع سياسة تقود إلى زيادة أجواء التوتر والصراع، مستندة إلى منطق القوة، ليس في المنطقة وحسب، بل على مستوى العالم، حيث رفعت وتيرة عدائها تجاه روسيا، وتسعى إلى معاقبة الصين وسوى ذلك. كما أن ساسة البيت الأبيض يرفضون الاحتكام إلى مرجعية معينة في معالجة مشكلات العالم وقضاياه، بما في ذلك القانون الدولي، ويعتمدون على مرجعيات ذاتية الاعتبار، لا تقبل مقاييس من خارجها، حتى لو كانت تلك المقاييس مما أورثه "الآباء المؤسّسون" الأميركيون أنفسهم.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".