استعادة مقاربة عزمي بشارة صعود الصهيونية ـ الدينية

استعادة مقاربة عزمي بشارة صعود الصهيونية ـ الدينية في إسرائيل

18 نوفمبر 2022
+ الخط -

شكّلت الانتخابات الإسرائيلية التي انتظمت أخيرا (الخامسة والعشرون) ذروة الانزياح الحزبي ـ السياسي ـ الاجتماعي نحو اليمين الراديكالي، بشقّيه الديني والصهيوني، مع لمساتٍ فاشية. حصل معسكر بنيامين نتنياهو على 64 مقعدا: "الليكود" بقيادته نفسه حل في المرتبة الأولى بحصوله على 32 مقعدا. قائمة حزب "الصهيونية الدينية" الفاشي حلت في المرتبة الثانية بحصولها على 14 مقعدا، وهي مكونة من ثلاثة أحزاب: حزب "تكوما" أو الاتحاد القومي برئاسة بتسلئيل سموطريتش بـ7 مقاعد، تأسس عام 1999، بعد انشقاق بعض المستوطنين المتطرفين عن حزب "المفدال"، لأنهم اعتبروه مهادنا وغير ثوري بدرجة كافية. حزب "قوة يهودية" أو عوتسما يهوديت، برئاسة إيتمار بن غفير بستة مقاعد. حزب "نوعم" برئاسة آفي معوز بمقعد واحد. أما حزب "شاس" بقيادة أرييه درعي فحلّ في المرتبة الثالثة بحصوله على 11 مقعدا. وحزب "يهدوت هتوراه" حلّ في المرتبة الرابعة بحصوله على سبعة مقاعد.

أما المعسكر المعارض، فيتضمن "يوجد مستقبل" 24 مقعدا بزعامة يائير لبيد. قائمة "المعسكر الوطني" بقيادة بيني غانتس، والتي حصلت على 12 مقعدا، وهي مكونة من: حزب "أزرق أبيض" بقيادة غانتس. حزب "أمل جديد" بقيادة جدعون ساعر. أما حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان فحصل على ستة مقاعد.

من الملاحظ في خريطة الكنيست الجديدة أن الانزياحات الحزبية الحاصلة جرت داخل معسكر اليمين، بشقّيهن الديني والعلماني، وإذا ما نظرنا إلى الخريطة الحزبية، باستثناء الأحزاب العربية ذات المقاعد العشرة، وحزب العمل بمقاعده الأربعة، نجد أن باقي الأحزاب تراوح بين وسط يمينية، يمينية تنقيحية، يمينية متطرّفة، يمينية استيطانية، وتعتبر ائتلاف الصهيونية ـ الدينية أحد أهم أركان اليمين الإسرائيلي اليوم.

لم يعد الانزياح الاجتماعي ـ السياسي ـ الديني نحو اليمين الراديكالي ظاهرة عابرة في إسرائيل، بقدر ما هو ظاهرة وجودية تعبر عن الكينونة الدينية ـ السياسية للمجتمع، والتي كان من نتائجها الصعود القوي للصهيونية ـ الدينية.

لم يعد الانزياح الاجتماعي ـ السياسي ـ الديني نحو اليمين الراديكالي ظاهرة عابرة في إسرائيل، بقدر ما هو ظاهرة وجودية تعبر عن الكينونة الدينية ـ السياسية للمجتمع

ومن عوامل الانزياح نحو اليمين، تراجع اليسار التاريخي وتماهيه مع اليمين في الأصعدة كافة: على صعيد الأحزاب الدينية، أصبح الموقف منها مرتبطا بمتطلبات السلطة والبقاء فيها، وعلى صعيد الاقتصاد، يدفع اليسار واليمين باتجاه اقتصاد السوق الرأسمالي، وعلى صعيد التسوية السياسية مع الفلسطينيين، طمست الحدود بين التيارين.

وإذا كانت ظاهرة الانزياح نحو اليمين تبدو طبيعيةً في ظل التحوّلات التي شهدتها إسرائيل والديانة اليهودية عقب إقامة الدولة، فإن لصعود الصهيونية ـ الدينية عوامل تاريخية فرضتها الطبيعة اليهودية والصهيونية لإسرائيل، كـ"دولة ذات خصوصية تاريخية"، تشكّلت في رحمها تياراتٌ تجمع بين متناقضات أيديولوجية لا يمكن لها أن تجتمع في أي دولةٍ خارج إسرائيل، ومن هذه الخصوصية نشأت الصهيونية الدينية التي حقّقت فوزا مهما في الانتخابات أخيرا، لم تعرفه الانتخابات السابقة في مجملها. هذا هو الجديد في الانتخابات أخيرا، من حيث حصول الصهيونية الدينية على المرتبة الثانية بعد الليكود بحصولها على 14 مقعدا، ما يجعلها قوةً مؤثرةً في الحكومة الإسرائيلية الجديدة.

ثمّة عوامل عديدة لصعود الصهيونية ـ الدينية، منها: انتقال مقاعد من أحزاب يمينية متطرّفة خسرت وجودها الحزبي في الكنيست الحالية بسبب قبولها الائتلاف مع حزب عربي في الكنيست قبل الأخيرة، وحدث هذا مع حزب "البيت اليهودي" بزعامة إيليت شاكيد، حيث خسر جميع مقاعده في الكنيست لصالح الصهيونية ـ الدينية.

تركز القاعدة الاجتماعية لحزب الصهيونية الدينية بين المستوطنين في الضفة الغربية، حيث وصل عدد المستوطنين عام 2021 إلى نحو 465400 مستوطن، وفي القدس الشرقية تجاوز عدد المستوطنين 200 ألف، في وقت يزداد فيه عدد المتدينين الحريديين في إسرائيل (1175000 نسمة)، وهم يمثلون نحو 12.6% من سكان إسرائيل، ونسبة التكاثر الطبيعي بينهم تصل إلى 4.2% في السنة.

تتشكّل الصهيونية ـ الدينية حاليا من تحالف التيار الاستيطاني بزعامة سموطريتش، وهو أكثر التيارات الاستيطانية تطرفا، يدمج ما بين التزمت الديني والتزمت القومي، وما بين التيار الكهاني الذي يتزعمه إيتمار بن غفير وحزب "نوعم" المتشدد. ولكن، لا يمكن، بأي حال، رؤية هذا الصعود للصهيونية ـ الدينية من منظار ديمغرافي محض، ولا من منظار تكتيكاتٍ وتحالفاتٍ حزبية ـ سياسية، وإنما يجب النظر إليه ضمن سياق تاريخي، كانت المتغيّرات الجغرافية فيه الفاعل الرئيسي في حدوث المتغيرات الفكرية، الدينية والسياسية معا. ولذلك، لم يكن الصعود القوي للصهيونية ـ الدينية مفاجئا بالنسبة لعزمي بشارة الذي توقع قبل نحو عقدين حدوث هذا الصعود في كتابه "من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية"، الصادر في طبعته الأولى عن دار الشروق في القاهرة عام 2005.

منذ تسعينيات القرن الماضي، بدأت تنتشر في إسرائيل مدارس دينية ـ علمانية لدراسة التلمود كنوع من إعادة صياغة هويتها العلمانية كهوية يهودية علمانية، وليس فقط إسرائيلية علمانية

كتب بشارة ما يلي: "المثل الوحيد الذي عثرت عليه لتوجهات قومية متطرّفة تتطابق في بعض الحالات مع اتجاهات دينية سلفية أو أصولية متطرّفة تستخدم المصطلحات والتعابير نفسها، هو المثل الإسرائيلي"، والسبب في ذلك يكمن، في رأي بشارة، في أنه لم تجر عملية علمنة حقيقية في جوهر المفاهيم داخل الحركة الصهيونية.

ويعتبر حزب "المفدال" تاريخيا المُعبر الفعلي عن الصهيونية الدينية، وقد تحالف مع الماباي ثم المعراخ، أي مع اليسار الصهيوني حتى عام 1977، ليبدأ بعدها في التلاقي مع اليمين الصاعد.

الخلفيات التاريخية

نشأت معارضة بالغة الشدّة من الأوساط الدينية اليهودية ضد الحركة الصهيونية عند نشأتها في أوروبا، لأن الحركة الصهيونية وضعت نصب أعينها، أولا، إحلال الفكرة القومية عاملا موحّدا لليهود، بدلا من التزام تعاليم التوراة التي حافظت على الهوية اليهودية عبر التاريخ، ولأنها حاولت إحلال نهاية التاريخ بوسائل دنيوية ثانيا، فخلاص اليهود لا يكون إلا بقدوم المسيا وجمعه لشتات اليهود، وهي عملية إلهية لا إنسانية وفق المقاربة الدينية اليهودية.

بعد نشوء إسرائيل دولة عام 1948، طرأ تغير على العلاقة بين الصهيونية والحركات الدينية، وبدأت تيارات دينية تقبل بوجود دولة إسرائيل كأمر واقعي، لكن من دون اعتبارها خلاصا لليهود أو بداية الخلاص لهم، في حين اعتبرت قيادات دينية أخرى أن الاستيطان اليهودي في أرض إسرائيل هو بداية الخلاص، وأن الهجرة إلى إسرائيل هي بمثابة فريضة على جميع اليهود في العالم.

مثل التيار الأول الواقعي الحاخام اليعيزر شاخ، الذي خضع لتوجهاته حزبان دينيان، هما "شاس" و"ديغل هتوراة"، بعد انفصاله عن مجلس كبار التوراة، السلطة الروحية لـ"أغودات يسرائيل"، في حين مثل التيار الثاني الحاخام أبراهام إسحق هكوهين كوك.

وشكّلت حرب عام 1967 انعطافة أيديولوجية ودينية بالغة الأهمية في الأوساط الدينية، فقبل هذا العام كانت المواقف الدينية من الصهيونية تنبع من الفارق بين دولة إسرائيل وأرض إسرائيل كما هي في التوراة، لكن حرب الـ67 أدّت لأول مرة في التاريخ إلى حدوث تطابق بين دولة إسرائيل وأرض إسرائيل، يقول بشارة. هنا، حدث انزياح علماني نحو الدين، قابله حدوث انزياح ديني نحو القومية باعتبارها فكرة علمانية.

غياب مفهوم الأمة الإسرائيلية في الذهن اليهودي لصالح مفهوم الأمة اليهودية، فدولة إسرائيل هي دولة اليهود فقط

انتصرت في هذه المرحلة مقولات الراف (الحاخام) يتسحاق كوك، الذي أعطى المشروع الصهيوني طابعا خلاصيا دينيا، فاعتبر أن الصهيونية حتى في صيغتها العلمانية هي تعبير وجزء من الخطة الربانية لتحقيق الخلاص المسياني. ومنذ هذه اللحظة بدأ التلاقي بين التيارات الدينية والصهيونية اليمينية لرفض أي برنامج سلام معراخي يتنازل عن الأرض، وكان من شأن هذا التلاقي أن حدثت عملية تديين للقيم الصهيونية القومية حول الخلاص وقداسة الأرض.

ولاحظ بشارة أنه منذ تأسيس إسرائيل كان هناك دائما تيار ديني وصهيوني، لكن لم ينشأ تيار ديني ـ صهيوني، بمعنى أنه لم يحصل تطابق بين الدين والصهيونية كما يحصل منذ صعود موجة الحركات الاستيطانية في الضفة الغربية. وقد ظهر سياسيون إسرائيليون يمثلهم أساسا الحزب الديني القومي "المفدال"، وهم متدينون وصهيونيون في الوقت ذاته. لكن، ما ميز التيار الديني ـ الصهيوني الذي خرج من رحم حركة الاستيطان في الأراضي المحتلة، هو المطابقة بين الدين والصهيونية، سيما بعد حرب 1967، حيث حصل تطابق بين أرض إسرائيل التوراتية ودولة إسرائيل، ما أدّى إلى تنامي النزعات الدينية القومية ونشوء الحركات الدينية ـ الصهيونية.

لم يتبادر إلى أذهان ممثلي التيارات الدينية وهم تحويل إسرائيل إلى دولة شريعة، لأن دولة الشريعة الدينية ستقوم بمجيء المخلص المسيا، لكن الغريب أن القوى الدينية التي وضعت نصب أعينها تحويل إسرائيل إلى دولة شريعة، هي القوى الدينية الصهيونية، وهذا طبيعي، فمن المنطقي (والكلام لبشارة) أن تطرح الصهيونية الدينية مثل هذه المهمات، لأن الدولة بالنسبة إليها هي مقدمة مجيء المخلص، وللدولة معان دينية ميسانية، لذلك من الأصح إطلاق اسم السلفية على الحركات الدينية الصهيونية التي تتوق إلى إعادة ربط الدين بالدولة فعلياً وواقعياً، لا جوهريا فقط، فيما لا يصح إطلاق اسم السلفية على الأحزاب الدينية لأنها تمر أصلاً بعملية علمنة.

الأصولية هي نتاج الفصل بين الدين والدولة، والدين والدولة لم ينفصلا بالنسبة إلى هذه الحركات الأخيرة التي ما زالت تنتظر وحدتها في نهاية التاريخ عند قيام الدولة اليهودية بقدوم المخلص.

يقول عزمي بشارة إن إسرائيل هي الحالة الوحيدة في العالم التي يمارس فيها التطابق بين الدين والقومية بشكل كامل، ويتم الانتماء فيها إلى القومية ثم المواطنة عبر تغيير الدين

افتقدت الديمقراطية الإسرائيلية هنا جذرها الأساسي، وهو العلمنة التي تفصل بين الدين والدولة، ثم بين الدين والأمة، وهذا الفصل هو أهم سمة من سمات الدولة الحديثة، بل يمكن القول إن هذا الفصل هو الذي يحدد الحداثة في المجال السياسي، لأن العلمنة تدفعنا إلى البحث عن مبادئ معينة لا تستند إلى أسس ميتافيزيقية، وإنما على أسس سياسية، تحدد في نهاية المطاف مفهوم العدالة والمساواة. وعليه ليست كل دولة قومية دولة ديمقراطية، وفق بشارة، ذلك أن الدولة القومية هي التي تقوم بعلمنة رموزها الدينية، فتجعل من المواطنة أساس الانتماء للدولة ـ الأمة، وتجعل من الأمة مدخلا للحصول على المواطنة الكاملة، وهو عكس ما يحدث في إسرائيل، فليس كل إسرائيلي هو جزء من الأمة اليهودية.

الدين اليهودي وحده هو الذي يعطي جواز المرور إلى الأمة. ومن هنا، يمكن فهم غياب مفهوم الأمة الإسرائيلية في الذهن اليهودي لصالح مفهوم الأمة اليهودية، فدولة إسرائيل هي دولة اليهود فقط.

يتابع بشارة تحليله العميق بالقول إن إسرائيل هي الحالة الوحيدة في العالم التي يمارس فيها التطابق بين الدين والقومية بشكل كامل، ويتم الانتماء فيها إلى القومية ثم المواطنة عبر تغيير الدين، إنها دولة يهودية تهدف إلى تجميع الهجرات الصهيونية، وما يترتّب على ذلك هو أساس الديمقراطية، إنه أساس الانسجام الذي يعوّض فقدان التاريخ الديمقراطي وفقدان البنية القومية: الصهيونية، لا المواطنة، هي وعاء الديمقراطية اليهودية، وهي عائق تطورها في آن، فهي في ساعات الأزمة لا تعدو كونها ديمقراطية داخل القبيلة.

لقد تغيّرت خريطة المواقف اليهودية من الصهيونية بعد نجاحها في إقامة الدولة، وظلت الصهيونية حركة أقلية بين يهود العالم حتى عام 1967، ولكن التغيير الأهم، برأي بشارة، حصل في إسرائيل ذاتها، إذ إن واقع الدولة غير الفكرة والحركة، وربطها بالمصالح والتناقضات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، والسياسات والتحالفات الداخلية والخارجية، وقضايا الصراع في المنطقة والعالم، والمسائل الجيوستراتيجية.

ارتبطت أحزاب دينية كثيرة بالخدمات التي تقدّمها الدولة، وتصهينت بانخراطها في الوطنية الإسرائيلية خلال الصراع ضد العرب، ونشأ صراع على طابع الدولة العلماني. وهكذا، تشكّلت الصهيونية ـ الدينية من عنصرين، علماني وديني من دون أن تخلط بينهما، فالصهيوني يستطيع أن يكون متدينا والمتدين يستطيع أن يكون صهيونيا، من دون أن تكون الصهيونية بذاتها قيمة دينية.

الاندماج الصهيوني ـ الديني

تميز عقدا الثمانينيات والتسعينيات بصهينة الخطاب السياسي لدى غلاة المتدينيين (الحريديم)، يقابله تدين الخطاب السياسي اليميني العلماني في ما يتعلق بقضايا أرض إسرائيل، ونشأ عن ذلك معسكر سياسي ـ ديني يكاد يكون عضويا في تركيبته. ويعطي بشارة أمثلة عديدة لهذا التداخل والتلاحم، منها الصراع الذي دار داخل المعسكر الديني بين الأرثوذكس والإصلاحيين.

الحكومة الإسرائيلية المقبلة ستكون أكثر الحكومات تطرفا حيال مسائل الاستيطان والأماكن المقدّسة

أصر التيار الإصلاحي على صلاة النساء مع الرجال، بما في ذلك أمام حائط البراق/ المبكى، كما طالب بتمثيل النساء في المجالس الدينية، وضمن هذا الجدال، دخل حزب "ميرتس" العلماني بالوقوف إلى جانب التيار الديني الإصلاحي، وهو إذ فعل ذلك، قام عمليا بإصلاح ديني، وهذا ما فرض عليه تبرير ذاته ضمن اليهودية أو بتعبيرات دينية، وهنا يقول بشارة، بدأ التنظير العلماني حول الثقافة اليهودية والتعددية الدينية داخل اليهودية. ومنذ تسعينيات القرن الماضي، بدأت تنتشر في إسرائيل مدارس دينية ـ علمانية لدراسة التلمود نوعا من إعادة صياغة هويتها العلمانية كهوية يهودية علمانية، وليس فقط إسرائيلية علمانية.

لم تساهم هذه الجدلية بين العلمانية والتدين فقط في صهينة الأحزاب الدينية فحسب، بل أيضا في تهويد الأحزاب العلمانية ثقافيا، وذلك بتعريف اليهودية من جديد في كل مرحلة. كان من نتائج هذا التلاحم، كما لاحظ بشارة، ليس تأثيره على عملية صنع القرار فحسب، بل أيضا من حيث عدم اكتفاء الأحزاب الدينية بالتعبير عن مصالح فئة معينة من سكان إسرائيل، وإنما رغبتها في التأثير على طابع الحياة في الدولة والمجتمع. ويعتبر إيلي سدان، مؤسس المعاهد التمهيدية التي تجهز الشبان المنتمين إلى الصهيونية الدينية للخدمة الإلزامية في صفوف الجيش الإسرائيلي، أحد أهم النماذج لهذه الصيغة الجديدة، بدفعه نحو تعزيز سيطرة أتباع الصهيونية ـ الدينية على مختلف مؤسسات الدولة وتضييق الخناق على العلمانيين، والأهم من ذلك الترويج أن التوراة هي دستور إسرائيل.

ترى المديرة العامّة للمركز الفلسطيني للشؤون الإسرائيلية (مدار)، الباحثة الفلسطينية هنيدة غانم، أن عام 2009 شكّل مرحلة أخرى في تطور الصهيونية ـ الدينية مع وصول نتنياهو إلى الحكم، وصعود قوة الصهيونية الدينية الاستيطانية وتحولها نحو مزيد من التطرّف بعد هيمنة تيار الحردلية بزعامة سموطريتش، وهو تيار يدمج بين التزمت الحريدي الديني والتطرف القومي الاستيطاني، وبتحول الحريدية التي كانت إجمالا خارج المشروع الصهيوني إلى تيار يميني ـ قومي، وبعودة الكهانية إلى قلب المشهد السياسي من خلال حزب "عوتسما يهوديت" بزعامة إيتمار بن غفير بعد إقصائه إلى خارج حدود القانون إثر مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994.

انتهى زمن اليسار واليمين التقليديين، لصالح يمين فاشي شعبوي

ويتوازى هذا الصعود مع ظهور عشرات الجمعيات اليمينية والاستيطانية الجديدة التي تعمل على وضع السياسات ومتابعة تطبيقها وصياغة مشاريع القوانين التي ترسخ الفوقية اليهودية وتقوم بمراقبة النخب الأكاديمية والثقافية ونشر التقارير عنها وملاحقتها في الحيز العام.

وهكذا، حصل قلب أيديولوجي للمفاهيم، فسبب النفور الديني من الصهيونية في مرحلة ما قبل الدولة، تحول لاحقا، في مرحلة ما بعد الدولة، مصدرا لتعزيز ارتباط الحركات الدينية بالصهيونية، باعتبار أن الخلاص ذاته هو الرابط، كتب بشارة.

أجندة الصهيونية ـ الدينية

مع تشكيلة الكنيست الحالية الحاكمة، ستتشكل حكومة يمينية أكثر تطرفا من الحكومات اليمينية السابقة، بسبب وجود حزب فاشي هو الصهيونية ـ الدينية. وفي مثل هذا الوضع، ستغيب القضايا العربية عن أجندة الحكومة، سواء تعلق الأمر بحقوق عبر الداخل، أو في ما يتعلق بالتسوية السياسية مع الفلسطينيين. غير أن الأكثر أهمية أن الحكومة المقبلة ستكون أكثر الحكومات تطرّفا حيال مسائل الاستيطان والأماكن المقدسة، بحيث يكون التصعيد هو العنوان الرئيسي والوحيد للمرحلة المقبلة. وبحسب مدير عام مركز مدى الكرمل للدراسات الاجتماعية التطبيقية، مهند مصطفى، تقود الصهيونية ـ الدينية الانتقال من فرضية أن وظيفة الوجود الإسرائيلي في 1967 الحفاظ على أمن إسرائيل في 1948 إلى فرضية جديدة، أن وظيفة إسرائيل في 48 الحفاظ على الاستيطان في أراضي 67. وتنوي الصهيونية الدينية الضغط من أجل اعتبار البناء غير القانوني للفلسطينيين عملا معاديا، والعمل بطرق مختلفة لزيادة نجاعة إنفاذ القانون وزيادة الرقابة على البناء غير القانوني.

وفق المقاربة الصهيونية ـ الدينية، لن تكون أمام الفلسطينيين سوى ثلاثة خيارات: أن يتركوا البلاد، أو أن يعيشوا في إسرائيل كرعايا، ويكونون بحسب الشرائع اليهودية أقل مكانة من اليهود، أو أن يقاوموا، وهذا الخيار الأخير سيرد عليه بالقوة. .. لقد انتهى زمن اليسار واليمين التقليديين، لصالح يمين فاشي شعبوي، سيكون فيه حزب الليكود المعتدل الذي يحاول التخفيف من اندفاعة الصهيونية الدينية، على الأقل في القضايا المتعلقة بالدولة والمجتمع، وهذه إحدى معالم أو آخر حلقات الانزياح اليميني المتطرّف الحاصلة في إسرائيل.