اختلاف حول التهجير واتفاق على دعم الحرب

اختلاف حول التهجير واتفاق على دعم الحرب

16 يناير 2024
+ الخط -

تتواتر منذ الأسبوع الثاني للعدوان على قطاع غزّة، أحاديث ومقترحات للتهجير، متعدّدة المصادر، تبحث عن حلول لإسرائيل على حساب الفلسطينيين، تريح الاحتلال مستقبلا، وتنقذه من تكرار ورطته في الحرب، والتي ظهرت بشكل عميق مع الغزو البرّي، الساعي إلى هزيمة خيار المقاومة أساسا، ويرتكز التهجير وإقصاء المقاومة أولا على تسليمٍ بأن الصراع محسوم، بنهاية تفرض فيها دولة الاحتلال ممارساتها وعقيدتها، السيطرة على الأرض بعد حرقها، والاستيطان، وتغير التركيبة وملامح الجغرافيا السياسية، هدف إسرائيلي يتبنّاه مسؤولون في حكومة نتنياهو، وآخرون في المعارضة ليسوا أقلّ إجراما، وتتشارك في النقاش دوائر التطبيع، المساهمة في أحد المشاريع، دول معتدلة، وتعكف على صياغة مشروعات التهجير، وتقديم مراكز أبحاثٍ عربيةٍ وغربيةٍ مقترحاتٍ بشأنه.
وتنطلق مواقف الأطراف المتواطئة، من ثقافة الاستسلام، في مقابل مواقف بالبقاء والتمسّك بالأرض شكلا من المقاومة، رغم كل أشكال الحصار والتجويع والقهر الذي يتعرّض لها أهل القطاع، ويبدو أن الإبعاد لقوى سياسية وعناصر المقاومة، هو الهدف الأوضح الذي تتحد بخصوصه نخبٌ إسرائيلية وغربية، ويتفق مع توجهاتٍ لقوى الثورة المضادّة عربيا، بغرض تسوية بعد الحرب، واستكمال مسار التطبيع بدمج إسرائيل بالمنطقة ومواصلة التعاون معها مستقبلا، ضمن مخطّطات طويلة الأمد، حول المراكز والأدوار الإقليمية عبر التعاون مع الاحتلال، لذا يراد إبعاد الفصائل الفلسطينية وبينها حركة حماس عن أي عملية سياسية مستقبلا أو تهجير بعض عناصرها، ويأتي هذا الهدف شكلا من النفي تمارسه قوى الاحتلال تاريخيا، وسبق ونشرت وسائل إعلام عن مقترح مركز الخليج للأبحاث (سعودي) قدّم للخارجية الفرنسية، يتضمن إبعاد المقاومة إلى الجزائر مع وجود قوة عربية مشتركة في القطاع، وهناك مقترح توني بلير بالوساطة مع دول لاستقبال المبعدين والمهجّرين، بجانب أوراق مراكز أبحاث إسرائيلية عن التهجير، ومنها إعادة التوطين في مصر والأردن.

الهدف الأساسي هو كسر إرادة الغزّيين، بآلة الحرب والمجازر والإعدامات، وغياب سبل الحياة، نقص الغذاء والمياه والطاقة، والعلاج

يُطرح التهجير إسرائيليا، من جانبين، الأجهزة الاستخباراتية والأمنية، والواضح تركيزها على القضاء على كل الفصائل المسلحة وإبعادها، بجانب شلّها سياسيا، وحرمانها الحاضنة الشعبية، والإجهاز عليها خلال الحرب. ويرتبط هذا الهدف بمخطّطات مستقبلية، أهم مضامينها، إخلاء القطاع من أي مقاومة مسلحة، وكل الفاعلين السياسيين، وتسليم حكم القطاع لوكلاء في مرحلة تالية يضمنون أمن إسرائيل، بالتعاضد مع تشديد الحصار على القطاع، والقيام بإجراءات أمنية ووجود عسكري على حدود القطاع برّا وبحرا، يتّصل، في جانب منه، بسعي إسرائيلي إلى تأمين محور فيلادلفي، لمنع وصول أي مواد تساعد في أعمال مقاومة مستقبلا، وفي ذلك مشاورات وضغوط وابتزاز.
بينما يعيد وزراء في حكومة نتنياهو، منهم وزيرا الثقافة والتراث، إنتاج أطروحات قديمة عن الاستيطان وتهجير أهالي القطاع طوعيا، حفاظا على الاستقرار في جنوب إسرائيل، لكن اختلاف تعاطي نخب دولة الاحتلال حول التهجير، والتباين بين الأطروحات، قديما وحديثا، من داخل إسرائيل أو خارجها، لا يخفي الهدف الأساسي، كسر إرادة الغزّيين، بآلة الحرب والمجازر والإعدامات، وغياب سبل الحياة، نقص الغذاء والمياه والطاقة، والعلاج، وكلها أسبابٌ تدفع إلى النزوح داخليا أو الهجرة، وهي إجمالا جرائم حرب، تتضمّنها عريضة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية لمحاسبة إسرائيل على الإبادة الجماعية.
أمام ذلك، استشعرت السلطة الفلسطينية الخطر من تسريبات عن وساطة بلير مع دول عربية وأفريقية لإعادة التوطين، واعتبرته تجديدا لوعد بلفور، كما تحفّظت على عرض قبرص بتنسيق فرنسي إسرائيلي (ضمن مؤتمر باريس) توفير منفذٍ بحري، في غياب ضمانات، وخشية استخدامه بشكل مزدوج، أداة للتهجير، ضمن مساع لفصل قطاع غزّة عن الضفة الغربية التي تشهد اعتداءات متكررة بالتزامن مع الحرب، وخطط توسّع الاستيطان الذي لم يوقفه التطبيع كما زعم الموقّعون على اتفاقية أبراهام.

طرح مساومة لإنهاء الحرب مقابل إبعاد المقاومة عن العملية السياسية وطرح تهجير عناصر منها، في تكرار لتجارب سابقة

ما يدفع إلى الارتياب، أيضا، أن مركز بلير البحثي، الذي جاء ذكره بخصوص مشروعات توطين، يقدم استشارات لدول عربية، تنشط في الساحة الأفريقية، بينها الكونغو، بجانب تشاد (أغلبيتها مسلمون) وأوغندا وروندا، والأخيرة، سبق واستقبل لاجئين من إسرائيل، مقابل برنامج مساعدات (رحل بعضُهم إلى أوغندا). وأخيرا، مرّر مجلس العموم البريطاني اتفاقية لترحيل مهاجرين من بريطانيا إلى رواندا، وهي الخطوة التي أثارت تحفّظات حقوقية.
كما يصادف طرح التهجير وجود اتصالات مكثفة وتوقيع اتفاقيات شراكة اقتصادية مع سبع دول أفريقية مع إحدى الدول العربية خلال الشهرين الماضيين، وهو ما أشعر السلطة الفلسطينية بالتوجّس، ودفع ملك الأردن، عبدالله الثاني، إلى زيارة إلى روندا، 7 يناير/ كانون الثاني الحالي، تناولت الأوضاع في الشرق الأوسط، كما أعلن رسميا.
في بحث إسرائيل عن مراكز للتوطين، تنفى الدول الأفريقية ضلوعها، كما نفي مركز بلير نفسه، مناقشة التهجير أصلا في مقابلة رئيسه مع نتنياهو. بجانب ذلك، أعلنت واشنطن وعواصم أوروبية، رفضها "التهجير القسري" على حد تعبير وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، "يجب ألا يُجبروا على الرحيل".
وتوضح تصريحات قادة جيش الاحتلال، وبينهم وزير الحرب غالانت، تصوّراتهم عن حكم القطاع بعد الحرب، باستبعاد الفصائل الفلسطينية، ومساهمة دول الإقليم المعتدلة في هذا التصور، هذا يعني، مستقبلا، طرح مساومة لإنهاء الحرب مقابل إبعاد المقاومة عن العملية السياسية وطرح تهجير عناصر منها، في تكرار لتجارب سابقة.

طرح مسألة التهجير الطوعي، وسط مواقف عربية بهذا الشكل، يجعل خيار إبعاد المقاومة، مرشّحا ضمن مشاورات إقليمية

كما يكرر حلفاء إسرائيل، واشنطن وقوى أوروبية، إعلان مساندتهم حربها على القطاع، بدعوى الدفاع عن النفس، ومواجهة خطر "التنظيمات الإرهابية" في إشارة إلى عملية 7 أكتوبر، وحركة حماس تحديدا، وكأن الصراع بدأ من هذا التاريخ، بجانب تكرار الأكاذيب عن اغتصاب النساء وإساءة معاملة الرهائن، وما ورد في كلمة وزيرة الخارجية الألمانية، في مؤتمر صحافي بالقاهرة مع نظيرها سامح شكري، كان كاشفا، عن الموقف الأوروبي، المرتكز على تشويه المقاومة، والقضاء عليها، لضمان أمن إسرائيل، ما يعنى عمليا، استمرار حصار القطاع، وتجويع سكانه، في ظل الحرب.
ومع اعتبار وضع الفصائل المغاير اليوم في غزّة، وقوتها وتأثيرها، والتكاتف معها شعبيا، إلا أن طرح مسألة التهجير الطوعي، وسط مواقف عربية بهذا الشكل، يجعل خيار إبعاد المقاومة، مرشّحا ضمن مشاورات إقليمية، حتى وإن كان قادة جيش الاحتلال لا يستطيعون تحقيق السيطرة الكاملة على القطاع، وكسر إرادة الغزّيين، الذين تظهر شهادات عدة، تمسّكهم بأرضهم، وتمثيل فصائل المقاومة بالنسبة لقطاع كبير من الفلسطينيين، راية الدفاع عن عدالة قضيتهم، كما تفيد استطلاعات رأي أجريت في الضفة الغربية (وقطاع غزة في أثناء الهدنة) ارتفاع تأييد خيار المقاومة بعد عملية 7 أكتوبر.
وتظهر الحرب، رغم وحشيتها، ثبات الفلسطينيين ووحدتهم، ورفضهم الخضوع، في موقف يمثّل تحدّيا ظاهرا وبطوليا، يكمل خيار فصائل المقاومة، ويقوّيها، وهي التي تخوض معاركها بإمكاناتٍ محدودة، لكنها تملك من خزائن البطولة والعزّة والكرامة ما يجعلها نموذجا مشرّفا واستثنائيا، يُراد أن يكسر، ضمن أطروحات الإبعاد والتهجير ووصم المقاومة بالإرهاب ومناصبتها العداء كما الموقف الأوروبي والأميركي الذى تتماهى معه أطراف عربية.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".