إبادة "أونروا"... والذاكرة الفلسطينية

إبادة "أونروا"... والذاكرة الفلسطينية

06 فبراير 2024
+ الخط -

يضع قرار الولايات المتحدة وعدة دول مانحة بوقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) مخاطر ستصيب أهالي غزّة والمخيّمات في دول الجوار ومن بينها لبنان.
إنه عدم احترام حقّ الحياة، وتجاهل ملايين الفلسطينيين والأكثر ضعفا منهم، ومنعهم من العيش بحرية وأمان والحؤول دون تعرّضهم للخوف أو الموت بانقطاع المساعدات الغذائية والأدوية عنهم، أو قتلهم بطريقة غير مباشرة حيث يقيمون ويعيشون.
كانت وزارة الخارجية الأميركية قد فتحت باب وقف تمويل "أونروا" في اليوم نفسه، بالتزامن مع صدور القرارات التنفيذية عن محكمة العدل الدولية بدعوى جنوب أفريقيا، ودعوة إسرائيل إلى وقف جرائم "الإبادة الجماعية" في غزّة، والتخلي عن التهجير القسري للفلسطينيين في قطاع غزّة، والسماح للسكان بالحصول على المساعدات الإنسانية، فأعلنت الأخيرة أنها "ستعلّق مؤقّتا التمويل الجديد لوكالة أونروا"، وأبدت  شعورها بالقلق إزاء المزاعم بأن 12 موظفا  قد يكونون متورّطين في الهجوم الذي شنته حركة حماس في 7 أكتوبر، وحذت حذوَها دول عديدة في  قرار واسع ربطا بالرواية الإسرائيلية ودلالاتها في الاستهدافات السياسية. 
في أعقاب الصراع العربي الإسرائيلي عام 1948، تمّ تأسيس أونروا بموجب القرار 302،  الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 ديسمبر/ كانون الأول 1948 بهدف تقديم برامج الاغاثة المباشرة والتشغيل للاجئيين فلسطينيين، وبدأت عملياتها في الأول في شهر مايو/ أيار 1950. تتولى أونروا التي تضم 30 ألف موظف في غزّة أكثر من 80% من أعمال الإغاثة، ويؤثر عملها  الحيوي في حياة أكثر من مليون وأربعمائة ألف فلسطيني، وتمثل الآلية الأكثر فعالية وامتدادا في توزيع الغذاء والدواء.

ينطلق الموقف الإسرائيلي من اعتبار وجود المفوضية الأممية شاهدا على جريمة النكبة الفلسطينية

تسعى إسرائيل منذ مدة طويلة لإنهاء عمل الوكالة، وتعتبر أن خدماتها تقدّم للجيل الثالث من ضحايا النكبة (1948) والجيل الثاني لنكسة 5 حزيران (1967)، والحل المناسب لها، هو في توطين الفلسطينيين خارج أراضي فلسطين التاريخية، وتعتبر أن تمويل إغاثة وتعليم سكان مخيمات الضفة والقطاع وفي دول الطوق، الأردن وسورية ولبنان، الذين يبلغ تعدادهم نحو خمسة ملايين لاجئ أمر لا ضرورة له. وينطلق الموقف الإسرائيلي من اعتبار وجود المفوضية الأممية شاهدا على جريمة النكبة الفلسطينية. وقد أدى عداء إسرائيل التاريخي لوجود "أونروا" إلى تقليص مساهماتها التمويلية ودورها.
تختلط الأبعاد السياسية والمخاطر الأمنية والتهديد السياسي فيما ينطوي عليه قرار وقف التمويل في محاولة فرض التوطين، وتحويل المخيّمات إلى "قنابل موقوتة" مع قطع الشريان الذي يمدّ اللاجئين الفلسطينيين بالاحتياجات الضرورية، فيتفاقم الفقرُ والعنفُ والفوضى إلى محاولة شيطنة "أونروا" بشكلٍ مخالفٍ لصورتها الحقيقية. 
إجراء خطير يتصل بأهداف اسرائيل في حرب "الإبادة الجماعية"، التي تشنّها ورغبتها بتفكيك حركة حماس وتقويض نصرها، وضمان عدم تكرار عملية طوفان الأقصى، وجعل أرض غزة أرضا لا يمكن العيش فيها من خلال تدمير كل مقوّمات الحياة وخدماتها فيها، وتنفيذ جريمة الإجلاء القسري للسكان واقتلاعهم من أرضهم، إضافة إلى أن الآلاف من الفلسطينيين في الضفة الغربية الذين يعملون في إسرائيل وجدوا أنفسهم عاطلين من العمل بعد إلغاء السلطات الإسرائيلية تصاريح العمل في تدمير القوة الاقتصادية والشرائية لسبعين ألف عامل فلسطيني، فزادت البطالة فوق 40% وفق منظمّة العمل الدولية وسط توقّعات باستمرار الحرب.

محاولة للعودة بأوضاع اللاجئين إلى الوضع الذي كان قائما قبل الاعتراف بقضيتهم والطلب منهم الاستسلام نهائيا

أن لا يسمع العالم معاناة الفلسطينيين واحتياجاتهم ومخاوفهم، وأن يقطع المساعدات عنهم، ويتنصّل من وعوده، بدل أن يساعد في إيجاد حلول لقضية اللجوء المركزية، انفصام عن الواقع وتباين في المعايير للغرب يقطع مع أي جهدٍ تبذله الأمم المتحدة لتأمين المساعدات الإنسانية، ووقف إجراءات عقاب وضرر محسوبة ستطاول الأهالي وموظفي الوكالة في القطاع (30 ألفا)، قضى منهم 128 موظفاً. 
وقف عمليات التمويل، مع أنها بالأصل مهدّدة بالانقطاع مع ضرب خطط تأمين أفضل معايير التنمية للاجئين الفلسطينيين محاولة للعودة بأوضاع اللاجئين إلى الوضع الذي كان قائما قبل الاعتراف بقضيتهم والطلب منهم الاستسلام نهائيا. وتعليق المساهمات ينسف الدور الأوروبي وسيطاً محتملأ، والنأي قدر الإمكان عن الموقف الأميركي، ورؤية أن الأمم المتحدة منظمّة دولية نافعة. هذا وتوفر المساعدات مساحة علاقات وتفاعل وميدانا لمراقبة الأوضاع الميدانية والنشاطات، التي توفر إجماعا على طبيعة القضية الفلسطينية. 
يعلن العالم الغربي عدم قدرته على رؤية حجم المعاناة المتراكمة، ولطالما كان لائتلافه السياسي مع إسرائيل أثرٌ سلبيٌّ محتوم، الأمر، الذي لا يساعد في احتواء الأزمات الدولية والتاسيس لمبادئ توجيهية مستقبلية تمنح الناس حقوقاً ومبادئ متساوية. والانفصام العالمي واضحٌ بحيث يمكن للجميع رؤيته وتحديده رغبة في تحقيق أمن دائم لدولة الاحتلال، وهي تهاجم وتدهم وتقتل وتدمر وتقصف وتهجر في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وبدون التفكير بأي خطوات لحلّ سياسي.

تتراوح قيمة مساعدات "أونروا" في لبنان بين 80 مليونا ومائة مليون دولار سنويا

تعمل إسرائيل على نسف الوضع الراهن الذي عرفه الفلسطينيون خلال الثلاثين عاما الأخيرة، فتقتصر القضية على لاجئين، وليس مسألة فلسطين. سيتغيّر الوضع بشكل جذرياً في غزّة، و"أونروا" شريان الحياة  للفلسطينيين ولإيصال المساعدات وتعليق أعمالها عامل مستجدٌّ على بقاء الفلسطينيين في أرضهم وانتظار إعادة عمليات الإعمار. قرار يستهدف غالبية الموارد الحيوية في المجتمعات، التي يتم تدميرها بحيث لا يمكن إصلاحها، فلا ماء ولا غذاء ولا دواء ولا مواصلات ولا وقود ولا مدارس وكتاب.
ويضع وقف التمويل دول الجوار ولبنان (نموذجا) تحت الخطر، ويضاعف المسؤوليات عن مخيّمات عين الحلوة والرشيدية والبصّ والبرج الشمالي والميّة الميّة والبداوي، وعدد منها، وكانت تعرّضت للإبادة مخيّمات تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، والتدمير (نهر البارد) والتشتت (برج البراجنة)، ويمهد القرار لوقف الخدمات العامة في العيادات الطبيّة والكشف المجاني الصحي في المستوصفات وتأمين الأدوية مجانا، ومتابعة شؤون تقليح الأطفال ومعالجة أصحاب الأمراض المزمنة وتطبيقات مواعيد المعالجة والدواء واستقبال المرضى، وفي التعليم وتأمين رواتب الأساتذة وتزويد الآف التلاميذ (37 ألف طالب في 61 مدرسة) بالكتب والقرطاسية والألبسة، وفي مواضيع البناء وترميم الأبنية المتصدّعة، وفي جمع النفايات. إضافة إلى التهديد السياسي والمتمثل في محاولة فرض التوطين، وربما تتطوّر الأمور إلى احتجاجات شعبية واحتكاكات مع الجيش اللبناني والقوى الأمنية، ما يصيب الدولة المنهارة أصلاً وليس الفلسطينيين فقط. 
تتراوح قيمة مساعدات "أونروا" في لبنان بين 80 مليونا ومائة مليون دولار سنويا. وقد أبلغت جهات مسؤولة في المفوضية المعنيين في المخيّمات بتوقف خدماتها عن نحو 500 موظف متعاقدين مع الوكالة، اعتبارا من الشهر المقبل مع تحقيقاتٍ تجري مع موظفين تتعلّق بخرقهم قوانين "الحيادية" على شبكات التواصل الاجتماعي، ومسألة ترشيد الإنفاق وتصويبه مع تسرّب الفساد بأشكاله المختلفة، ومن خلال إعطاء الأولوية لمسألة تأمين حياة لائقة للاجئين، وتعزيز الأمل في العودة من خلال ارتباط "أونروا" بالذاكرة التاريخية والواقع.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.