أيُّ منظومة قِيَمِيّة في العلاقات الدولية اليوم؟

23 مايو 2024
+ الخط -

منذ توقيع معاهدة وستفاليا في عام 1648، التي أنهت حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، حُكِمت العلاقات الدولية بالمنظومة الوستفالية، بعدما وضعت أسس عصر جديد في العلاقات الدولية، مبنيّ على مبدأ سيادة الدول، التي غدت الفاعل الرئيس في العلاقات الدولية، وصَبَغَتْ، من ثمّ، النظام الدولي بقِيَمِها، التي يتقدّمها هدف الحفاظ على بقائها، وتحقيق مصالحها، وفي مقدمّ هذه المصالح الحفاظ على أمنها القومي، الذي يُختزل، في معظم الأحيان، في الجانب العسكري وأمن الحدود.

ولكنّ هذه المنظومة تعرّضت لمراجعة جذرية، مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولا سيّما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتراجع الأيديولوجيا الشيوعية، في مقابل انتشار واسع للديمقراطية الليبرالية، وبروز ظاهرة العولمة، إذ ساد تفاؤلٌ كبير، ولا سيّما في الغرب، بأنّ عهداً جديداً من الاستقرار والسلام قد حلّ، تكفله عقلانية الدول الكبرى والاعتماد المتبادل وتشابك العلاقات في ما بينها، غير أنّ هذا التفاؤل سرعان ما أخذ يتبدّد، بعدما تكشّف للعالم أنّ التغيرات التي حدثت لا تعدو كونها طاولت القشرة السطحية للعلاقات الدولية، وفي العمق، ما زالت هذه العلاقات محكومةً بجدلية القوّة في ظلّ استمرار الدول، ولا سيّما الكبرى منها، بزيادة قوّتها العسكرية، ودخولها سباق تسلّح محموم.

الحرب الهمجية الإسرائيلية على غزّة شكّلت اختباراً حقيقياً للمنظومة القيمية الغربية في العلاقات الدولية، التي ظلّت المجتمعات الغربية تبشّر بها

ما يدعو إلى استحضار هذه المُقدّمة هو الحرب الهمجية الإسرائيلية على قطاع غزّة، التي شكّلت اختباراً حقيقياً للمنظومة القيمية الغربية في العلاقات الدولية، في وقتنا الراهن، والتي ظلّت المجتمعات الغربية، منذ عصري النهضة والتنوير، تبشّر بها، وعلى رأسها الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والأمن الدوليان، والتعاون الدولي، وغيرها. فما يشهده قطاع غزّة، منذ أكثر من سبعة أشهر، من حرب همجية مُدمّرة طاولت البشر والحجر، وعلى مرأى ومسمع المجتمع الدولي، والأُمم المتّحدة، ومجلس الأمن، ومنظّمات حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل، وغيرها، عرّى مفهوم القِيَم والمبادئ والأخلاق الغربية، التي لم يَعد الحديث عنها إلا ديباجة كلاميَّة ليس لها وزن ولا قيمة، لتكون مُجرَّد عبارات لا تستخدم إلا لأغراض آنية، عندما تحتاجها الدول الغربية خدمةً لمصالحها وأجندتها الشخصية، وهيمنتها على الدول الأخرى، كما أنّ الغطاء العسكري والسياسي، الذي ارتكز بشكل واضح على مرتكزات قِيَمِيّة، حاول الغرب التسويق لها من خلال محاولة تبرير الهمجية الإسرائيلية، في مواجهة من يدّعي أنّهم مجموعة من "الإرهابيين"، الذين لا تنطبق عليهم المواصفات التي تؤهّلهم للاحتماء في ظلّ منظومة القيم العالمية، المتمثّلة بالعدالة وحقوق الإنسان، وصولاً إلى الحقّ في العيش بسلام وكرامة، هذا الغطاء، أدّى إلى بروز إشكالية تتعلّق بكيفية تخطّي الفشل، الذي يعتري آليات تطبيق هذه القيم، وهذه إشكالية كبرى، ليس من السهل الوصول إلى إجابات لها، وخصوصاً في ظلّ عالمنا المُعولم، اليوم، الذي على الرغم من بروز الاهتمام المتزايد فيه بحقوق الإنسان ركيزةً أخلاقيةً في العلاقات الدولية، وتبنّي فكر السلوك المعياري، الذي تسعى أبعاد التنمية المستدامة لتجسيده، تبقى فيه العلاقات الدولية غير قادرة على شرح وتفسير سلسلة من الحقائق، التي يمليها تطوّر النظام الدولي، بنائياً وتفاعلياً، وخصوصاً في ظلّ الصراعات والحروب والأزمات، التي تتّسم بالتعقيد، والتي يصبح فيها تحليل موضوع أخلقة العلاقات الدولية أكثر تعقيداً في تصوّر أبرز مقاربات العلاقات الدولية، غير أنّ ذلك لا يمنع من القول إنّ من يقرأ التاريخ يدرك أنّه كلّما تصاعدت حدّة الأزمات، تقلّص الالتزام بالمعايير الإنسانية المشتركة بين الشعوب، على اختلاف مرجعياتها الثقافية والدينية، كما أنّ البشرية كلّما زاد تقدّمها العلمي ورخاؤها المادي، تراجع التزامها بمبادئ العيش المشترك، وازداد، من ثمّ، مستوى الأنانية لدى أفرادها ونخبها. لذلك، يبدو أنّه من المُبكّر التفاؤل بعالم تغيب فيه الرؤية الهوبزية (توماس هوبز)، التي ترى أن الدول مثل الإنسان، شرّيرة وأنانية وتُغلّب مصلحتها في علاقاتها مع غيرها من الدول، لاسيّما أنّ هذه الدول لا تزال تعيش في عالم فوضوي تغيب عنه السلطة المركزية، في مقابل تقدّم الرؤية الكانطية (إمانويل كانط) المُتفائلة ببناء عالم يُشكّل مُجتمعاً أو نظاماً عالمياً تسوده القيم المشتركة المقبولة من وحدات النظام كافّة، بحيث يصبح العالم بكامله موطناً للإنسانية، فغياب السلطة المركزية لا يعني أبداً الصراع، ولا العيش في شريعة الغاب.

فاليوم، تُبرز الحرب الهمجية على قطاع غزّة مدى الحاجة الماسّة إلى تعزيز حقوق الإنسان، واحترام القانون الدولي الإنساني، والعمل بجديّة نحو حلّ سلمي ودائم، غير أنّ ما يحصل يعكس حالة السقوط الأخلاقي التي يعيشها العالَم، والنفوق القيمي، الذي غابت خلاله كلّ المشتركات الإنسانية، وبيعت المبادئ والأخلاق في مساومات علنيّة، وبتواطؤ غير مسبوق من بعض الأنظمة العربية، بلغ درجة الشراكة في الجريمة.