أنت منزلي... وطن أول للحلم

أنت منزلي... وطن أول للحلم

28 سبتمبر 2023
+ الخط -

أيّ علاقة تربطنا بمنازلنا؟ أي بالجدران التي تحتوينا غرفاً ونوافذ وممرّاتٍ وأبواباً؟ وبغضّ النظر عما إذا كانت هذه المنازل ملكٌ لنا أم أنها مستأجرة، فبمجرّد أن نقرّر السكنى فيها أو نجد أنفسنا نعود إليها في نهايات اليوم لتحتوينا فهي منازلنا، فأيّ علاقةٍ يمكن أن تتكوّن بين المرء والجدران التي تحتويه بكل حالاته؟ وفي كل الجغرافيات التي يمرّ بها إنسانيا وعاطفيا؟ مكانيا وزمانيا أيضا؟

في كتاب الكاتبة الكويتية الشابة سارة العسكر "أنت منزلي" (دار صوفيا للنشر والتوزيع، الكويت، 2022) وجدت إجاباتٍ كثيرة على هذه الأسئلة. والكتاب رحلة جمالية بديعة كتبتها سارة بشغف الانتماء للمكان، وإن كان انتماء طارئا، لكنه الانتماء المختار بحرية. يتناول الكتاب قضية هامة في حياتنا اليومية، وهي فكرة الانتماء للبيت باعتباره الوطن الأول، لعلّه الوطن الحقيقي بقدرته على الاحتواء وقدرتنا فيه على الاكتفاء. تستكشف العسكر في كتابها الأنيق مفهوم المنزل بشكل عميق داع إلى التأمّل في ما يشكله المكان الذي نعتبره منزلًا وما يعنيه بالنسبة لنا. عبر سردٍ مفرط الرهافة لتجاربها الشخصية لبلورة مفهوم الانتماء ومفهوم الهوية أيضا بأبسط صورها وبدءا من البيت الأول. ومع هذا، فضّلت الكاتبة أن تمرّر لنا أفكارها عن المفهومين عبر رحلاتها المتنوّعة، والجميلة، إلى المدن التي زارتها وسكنت في بيوتها، فكانت نظرتها في تعريف البيت أكثر موضوعية مما لو كان بيتها الحقيقي وحده.

في ما يشبه التقديم لكتابها، تغني سارة العسكر لحلمها الجميل وهي تضعه بين يدي المتلقّي بحنان الأمهات: "تخرج مقذوفا تصرخ من رحم أمك/ من مكانٍ حميم/ دافئ/ خافت/ إلى عالم شاسع/ محتشد/ غريب./ تهفو في أيامك الأولى إلى حيز يضمّك/ بيت تسكن إليه، وتسكن فيه يدعى حضنا/ تنال حصتك من الحليب/ الحب/ الحلم/ من بيت إلى بيت/ تهفو طوال عمرك/ توهم هذه الغربة الشاسعة/ تشبع ذاكرتك الأولى في الدفء/ الاستقرار/ السكينة/ المسافة الطويلة التي نقطعها من الميلاد إلى الكفن، نسكن بيوتا كثيرة؛ بيوتا تشبهنا أو لا تشبهنا، بيوتنا تختارنا أو نختارها. بيت الطفولة، بيت العائلة الكبير، بيوت الأصدقاء، بيوت الأسفار، بيوتنا الخاصة. في هذا الكتاب ستجرّب السكن في ذاكرة البيوت العربية، كما لو كانت ذاكرتك والبلاد بلادك".

بعدها، يبدأ القارئ رحلته في الكتاب متنعّما بدفء البيوت في مختلف المدن العربية التي اجتهدت الكاتبة في عنونتها بعناوين شاعرية، أضفت على صور الذاكرة التي التقطتها بعدستها جمالا أخّاذا. فهنا دمشق وأحبّ دمشق هواي الأرقا، وهنا تونس معلقة كنجمة القصائد القديمة، وهنا ميناء الحبايب بيروت، وهنا مدن المغرب التي لم يكن الوصول إليها إلا حلما، وهنا بيسان الفلسطينية عبر النداء خذوني، وهنا مصر التي في خواطرنا جميعا بعد أن عادت شمسُها كالذهب، وهنا البيت الأول في الكويت قصةٌ تُروى، وأغنية تغنّى إنعاشا لذاكرة الحب كله.

وفي أصل الهوى الغائم في ذاكرة البيوت العربية تتذكّر سارة وهي تتكئ على عشقها المتعاظم للمكان، فتكتب: "كم سنة مرّت والمدينة العربية تتعاظم داخلي، تأخُذني إلى عوالم ومعانٍ، روائح ومذاقات وذكريات لم أتخيّلها يومًا؟ لقد ذهبتُ في رحلة قدرية إلى دمشق وبعدها لم أعد كما كنت. رسّخت هذه المدينة حضور كل المدن العربية في دمي، صارت هاجسي الجميل وحلمي اليومي. رحتُ أغذّيه بالسفر والكتابة. أعيد الانتماء لأرضي، أوثّق هويتي العربية؛ أَستكشفني. زرت دمشق، بيروت، عمّان، تونس، نابل، سوسة، فاس، مرّاكش، القاهرة، إسكندرية، أسوان وغيرها. حتى تكوّن هذا النص، أنتَ منزلي؛ سفرٌ في ذاكرة البيوت العربية، في أدب الرحلة والبيوت".

قرأت الكتاب كجرعة جمالية خالصة الإتقان، كتابةً وتصويراً، على سبيل إحياء الحلم الكبير بوطنٍ أكبر يتجاهل حدود خريطة العرب السياسية، ليكون انتصارا إنسانيا على فكرة التقسيم، واحتفاء وجوديا بفكرة البيت كوطن أول للحلم.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.