أمير الخراب ... من الحرب إلى الحرب

13 مايو 2023
+ الخط -

"كانت العشيرتان تحرصان على استمرار الحرب. الحرب شقيقتنا الكبرى"

رواية "لا تقولي إنك خائفة"، جوزبه كاتوتسيلا

***

في 30 مايو/ أيار 2019، بعد أقل من شهرين من سقوط نظام عمر البشير في السودان، نشرت وكالة رويترز تقريراً عن نائب رئيس المجلس العسكري الذي يحكم البلاد، قالت فيه "يقول معارضون ودبلوماسيون غربيون إن انخراط قائد عسكري بما يتمتّع به دقلو من نفوذ في السياسة قد يُضعف الجهود الرامية لإقامة نظام ديمقراطي في البلاد ويغيظ ضبّاط الجيش الذين يحترسون من طموحاته".

استطلع التقرير رأي الإعلامي فيصل محمد صالح، الذي سيصبح بعد أربعة أشهر وزيراً للثقافة والاعلام في حكومة عبدالله حمدوك، عن محمد حمدان دقلو (حميدتي)، فقال "لا يوجد ضابط في الجيش لا صغير ولا كبير يقبل بما يفعله حميدتي. وفي الأمد البعيد، قد يتحول الأمر إلى مواجهة".

كان الرجل خطراً منذ اليوم الأول. القائد العسكري الذي يلقبه أتباعه "أمير البلاد" و"السيد النائب" (بحكم منصبه نائبا لرئيس المجلس العسكري، ثم نائباً لرئيس مجلس السيادة) رجلٌ شديد الذكاء، وشديد الطموح، ولا يؤمن بشيءٍ إلا نفسه. جاء من اللامكان بلا أي مبالغة. وصعد بسرعة إلى قمّة السلطة في بلاد فقدت عبر 30 عاماً من الحكم الشمولي روافعها الطبيعية التي تساعد المواطنين على الترقّي السياسي والوظيفي، فما عاد من طريق للصعود إلا البندقية، والقرب من السلطة.

بدأت قصة "الأمير" في العام 2003. يقول في مقابلة صحافية في مايو/ أيار 2016 انه عمل في التجارة منذ 1991 حتى 2003. لم يكن له شأن بالسياسة، حسب تعبيره. اشتغل في تجارة الإبل، وأقام في ليبيا خمس سنوات. كان مجرّد تاجر يعبر الحدود بين السودان وليبيا وتشاد ونيجيريا، مثل كثيرين من أبناء منطقته. يشارك في تجارة أسرية محدودة. لكن في 2003 تغيّر كل شيء. تعرّض اثنان من أسرته لكمينٍ من إحدى الحركات المسلحة وقُتلا. وصل إليه الخبر في مدينة الكُفرة الليبية. بشكل ما، تبدو تلك لحظة درامية، مثل التي غيّرت حيوات امرئ القيس والزير سالم وأخيل. كل منهم كان مشغولاً بحياته بعيداً عن الاضطرابات والحروب الدائرة، ثم وصل الموت إلى بيته، فهبّ للانتقام.

جمع تاجر الإبل، البالغ 28 عاماً وقتها، 200 من أهله وقبيلته، وبدأ تدريبَهم على القتال. قرّر مقاومة ما كانت تسميه الحكومة السودانية "التمرّد". خاض أول معاركه بقوة قوامها 400 مقاتل، وسيارة واحدة، ومدفع أر بي جي وحيد. بعد 20 عاماً، سيكون محمد حمدان دقلو، تاجر الإبل المولود في شمال دارفور عام 1975، نائباً لرأس الدولة، ويقود جيشاً من مائة ألف مقاتل، مسلحاً بأسلحة ثقيلة ومدرّعات خفيفة، وأنظمة تجسّس، ويحمل رتبة فريق أول.

منذ تكوين أول قواته وحتى 2006، ظل الرجل يتعامل مع استخبارات الجيش السوداني. لكنه في ذلك العام قفز قفزته الأولى، حيث حمل مطالبه وذهب الى رئيس الدولة، المشير عمر البشير. وطالب بجعل المليشيا الخاصة به قوّات نظامية، تحمل رتباً عسكرية، وأن تكون قوات دائمة، لا موسمية مثل بقية المليشيات المدنية التي تستعين بها السلطة في حروبها في دارفور. لم ينل حميدتي ما يريده من البشير في اللقاء الأول. لكن البذرة كانت قد زُرعت. وبعد عامين، عندما احتاجه الرئيس السابق مرة أخرى، نال تاجر الإبل السابق ما طلب. وهكذا تحوّل من وصف نفسه بعد سنوات "ابن البادية البسيط، الذي لم ينل من الدولة إلا عنفها" إلى أمير حرب، مشارك في جرائم نظام البشير في دارفور، والانتهاكات ضد المدنيين، وإحدى أهم أدوات عنف الدولة ضد مواطنيها. وبعد عشر سنوات، استطاع الرجل الذي بدأ حياته العسكرية بمائتي متطوّع من قومه أن يجعل لقواته وضعاً قانونياً بموجب قانون خاص أصدره نظام البشير من البرلمان السوداني. وأصبح "اللواء" محمد حمدان حميدتي قائداً عسكرياً موازياً للجيش باعتراف الدولة.

... لكن لماذا يقبل رجلٌ طموحٌ مثلُه بالقليل؟ لقد عرف الطريق، ولم يعد لديه ما يمنعه من التقدّم إلى الأمام. إلى الأمام بلا نهاية. أو إلى النهاية، نهايته ونهاية البلاد.