أميركا في قلب الاتفاق السعودي الإيراني

14 ابريل 2023
+ الخط -

تتظاهر الولايات المتحدة بأنها سعيدة باتفاق الرياض - طهران المعلن في 10 من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، حسب تصريحات مسؤوليها، كونه سيخفّف حدّة التوتر في المنطقة؛ لكن زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، غير المعلنة، إلى السعودية، تدلّ على انزعاج أميركي من هذا الاتفاق. هذا طبيعي! فالولايات المتحدة معتادة على أن تكون المتحكّمة في كل جبهات التصعيد في الشرق الأوسط، فكيف إذا كانت الصين، منافسها الاقتصادي والتكنولوجي الصاعد، هي راعية هذا الاتفاق، والتي تسعى إلى نفوذ سياسي واقتصادي، وطموح عسكري أيضاً، في الشرق الأوسط، مستغلّة تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة.

يحقّق الاتفاق مصلحة للطرفين، إيران والسعودية، وللوسيط الصيني، ولقاء بكين الثاني الأسبوع الماضي يعني أن هناك نيّات جدّية، من حيث المبدأ، لدى الأطراف الثلاثة، بخصوص تجاوز عقباته، رغم الصعوبات التي تتبدّى للوهلة الأولى، بسبب حجم الخلافات بين طهران والرياض، وبعد سبع سنواتٍ من القطيعة. بالنسبة للصين، بوصفها قوة اقتصادية وتكنولوجية واستثمارية صاعدة، ومقبولة من دول الشرق الأوسط كونها غير متورّطة عسكرياً في حروبٍ خارج حدودها، هي مهتمة باستيراد النفط والغاز من إيران والسعودية بأقصى حد، وتصدير منتجاتها التكنولوجية إلى أسواق الخليج الحيوية؛ وتطمح إلى تحقيق نفوذٍ في الشرق الأوسط من بوابة تهدئة التصعيد، وحلحلة بعض الخلافات. ويبدو أن الملفّ اليمني في طريقه إلى تلك التهدئة، فيما يحتاج الملفّان السوري واللبناني إلى جولاتٍ متعدّدة، مع تعقيدات تداخل مصالح الأطراف الأخرى، خصوصا أميركا وإسرائيل، إضافة إلى روسيا وتركيا. أسّست زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية، نهاية العام الماضي، لشراكةٍ استراتيجيةٍ مع الرياض، وفتحت على نفوذ دبلوماسي للصين في الشرق الأوسط، يرافقه تصاعد في حجم العلاقات التجارية، وتقديم التكنولوجيا المتطورة، واهتمام صيني بسدّ حاجات المنطقة، خصوصا السعودية والإمارات، للسلاح الصيني بديلا عن السلاح الأميركي الذي بات محظوراً من الكونغرس، بسبب انتهاكات السعودية في اليمن. وبالتالي، تشعر واشنطن بالفعل بخسارة كبيرة، ومفاجئة، من تصالح السعودية وإيران بوساطة صينية؛ رغم أن ذلك حصل نتيجة طبيعية للاستراتيجية الأميركية، منذ عهد أوباما ثم ترامب وبايدن، بتقليص الاهتمام بالشرق الأوسط.

اتفاق التطبيع الإيراني السعودي نقطة تحول هامة في سياق الصراعات الدولية، باتجاه إضعاف الهيمنة الأميركية

الضربة القاسية للولايات المتحدة أن الاتفاق، إذا ما كُتب له الاستمرارية، وإن لم يحقق إنجازاتٍ كثيرة، لكنه ينسف المخطّطات الأميركية في المنطقة، عن بناء "ناتو عربي" وشرق أوسطي، تقودُه إسرائيل، بحجّة مواجهة الخطر الإيراني في المنطقة، والذي كان قد طرحه الرئيس الأميركي خلال زيارته للمنطقة العام الفائت. إيران متحمّسة للمضي بالتصالح مع السعودية أكثر من أي وقتٍ مضى، لأن علاقاتها مع الغرب باتت متوتّرة إلى درجة كبيرة بعد فشل العودة إلى الاتفاق النووي، وهناك نقاشٌ بشأن معاقبتها بالوسائل العسكرية، كما أن العقوبات المفروضة عليها خنقت اقتصادها، وهي تبحث عن مخارج لأزماتها الداخلية، والأهم أن الاتفاق المزعوم يشكل صفعةً قويةً لواشنطن، باعتبارها العدو الأكبر في الاستراتيجية الإيرانية، وخسارة كبيرة لإسرائيل عدوّها الإقليمي، وهذا ما دفع إلى تصعيد إسرائيلي مكثف في سورية ضد المواقع الإيرانية، وإرسال واشنطن الغواصة النووية إلى الشرق الأوسط رداً على الهجمات الإيرانية على مواقعها في شرق الفرات؛ بالتالي بات التصعيد الأميركي والإسرائيلي ضد إيران عنواناً لتوتّر متصاعد في المنطقة، ومن مصلحة طهران تحييد دول الخليج عن هذا الصراع. قبل ذلك، كانت هناك تقاربات أمنية واقتصادية وتعاون مالي جرت بين إيران والإمارات، وتعهّدت الأخيرة بأنها لن تسمح باستخدام أراضيها قاعدة لضرب المنشآت النووية الإيرانية، مقابل ضماناتٍ بعدم تهديد الصواريخ الباليستية والبرنامج النووي الإيراني للإمارات، والحفاظ عليها مركزا آمنا للتجارة العالمية.

لا ترغب الرياض بترك الساحة لمنافسها الإماراتي، وتسعى إلى استعادة مكانتها العربية والإقليمية من بوابة تهدئة التوترات في المنطقة والتصالح مع طهران، لأن هذا يلائم التحديثات التي يسعى إليها ولي العهد محمد بن سلمان، "رؤية 2030"، وأن تكون السعودية قوة اقتصادية في الشرق الأوسط. اهتزّت علاقتها بالولايات المتحدة منذ تراجع اهتمام الأخيرة بالنفط السعودي، بعد تفضيلها النفط الصخري الذي تملكه، ثم خلافات بشأن ملفات حقوق الإنسان، وتخفيض السعودية إنتاج النفط ضمن أوبك +، وتجميد واشنطن صفقات التسليح المقدّمة للرياض، وعدم التزامها بحماية أمن الخليج من تهديدات الحوثيين؛ هذا دفع الرياض إلى البحث عن مزيد من الاستقلالية عن واشنطن. لكن علاقة التبعية السعودية لأميركا بنيوية، وليس من السهل تغييرها، ولا ترغب السعودية في تجاوزها، بقدر ما ترغب في الضغط على الولايات المتحدة للعودة إلى معاهداتها القديمة مع الرياض وسياساتها الداعمة لها. مع استمرار تفضيل الأخيرة الحليف التقليدي الأميركي، يصبح مقدار نجاح الاتفاق مرهوناً بما سيتغير في السياسة الأميركية تجاه السعودية.

لا ترغب الرياض بترك الساحة لمنافسها الإماراتي، وتسعى إلى استعادة مكانتها العربية والإقليمية من بوابة تهدئة التوترات في المنطقة والتصالح مع طهران

لم تعد واشنطن في حال جيد اليوم، فتركيزها العسكري على شرق آسيا، قرب الصين، بات في أولويات سياساتها منذ أكثر من 12 عاماً، وليس من السهل عليها تغيير هذه الاستراتيجية، وعودة التركيز على الشرق الأوسط، رغم أنها لم تنسحب منه، كما أن تضرّر سلاسل التوريد بسبب أزمة كورونا، ثم الحرب الروسية على أوكرانيا، تسبّبا بأزمة تضخّم وركود اقتصادي عميقة يجعل مواجهتها أولوية. ويزيد على ذلك وعود بايدن بمعاقبة محمد بن سلمان، وعداء الكونغرس للسعودية على خلفية أوضاع حقوق الإنسان، ما يصعِّب الاستجابة الأميركية للمطالب السعودية، رغم تعالي أصواتٍ من دوائر صنع القرار الأميركي تقول بضرورة مراجعة العلاقة مع المملكة، والاعتراف بمكانتها في الشرق الأوسط.

يشكل اتفاق التطبيع الإيراني السعودي نقطة تحول هامة في سياق الصراعات الدولية، باتجاه إضعاف الهيمنة الأميركية، والاعتراف بدور ممكن للقوى العظمى الصاعدة، التي تمثلها الصين. هناك تحدّيات جمّة أمام البلدين للتقدّم في ملفات شائكة بينهما، وهناك أيضاً صعوباتٌ تواجه أميركا وإسرائيل في إيجاد وسائل ضغط أو ترغيب، لتعطيل الاتفاق. تستغلّ الصين الفراغ الأميركي في الشرق الأوسط، لكن الكرة الآن في الملعب الأميركي؛ سننتظر ردّات الفعل، إلى أن تقود الصراع في عالم متفجر مليء بالتوترات.