"دوك خبارك" خصوصية عُمانية

23 اغسطس 2021

(حسين عبيد)

+ الخط -

من السلوكيات اليومية التي اختفت من أروقة الدوائر الحكومية في عُمان، بحكم التطوّر الحتمي وتقدّم الزمن، ناهيك عن حكم كورونا الذي فرض العزلة، وكشف لنا عن "فضلة" أمور كثيرة كنا نظنها ضرورية ومن صميم الحياة؛ عادة المصافحة الصباحية، والتي كانت أشبه بواجب عُرفي، يضاف إلى واجبات العمل. يمارسها الجميع تلقائيا، وحتى من دون معرفة السبب، لأنها أمر يجري في العروق، استقرّ وقرّ عبر العادة. وللتوسع أكثر في التفسير، يمكن القول إنه ربما يكون جزءا أصيلا في ما درج على تسميتها الخصوصية العُمانية.
كان الموظف الذي يأتي قبل الجميع محور هذه المصافحة. عليه أن يقف في جلسته، كل مرّة، مصافحا كل داخل جديد. وإذا تأخر قليلا، عليه، بدوره، أن يمرّ مصافحا من جاءوا قبله. وكلما تأخر أكثر صعبت مهمته، وازدادت خريطة مصافحته، إذ ليس مطالبا فقط بأن يمرّ على المكاتب لمصافحة الموظفين، بل الغريب أنه إذا لم يجد أحدَهم في مكتبه سيبحث عنه في كل مكان، بين الأروقة أو في الكافتيريا أو في مكاتب أخرى. ولن يهدأ له بال، حتى يجده ويقول له "دوك خبارك". وكلمة "دوك" تعني خذ، و"خبارك" تعني المصافحة، أي خذ مصافحتك. وبذلك يكون قد أراح ضميره، ففي هذه الحالة فقط سيؤدي عمله ببالٍ خال.
هذه العادات ذات الصبغة الحميمية، مع ما يظهر عليها من تكلّف، تضمر روح النكتة وتجمع المتفرق في العمل. سيبحث عنك الموظف، ولن يهدأ له بال حتى يسلّمك الأمانة بـ"دوك خبارك" لا علاقة لهذا برتبة الموظف، فالجميع يجب أن يتساووا في الخبار و"دوكه".
وكانت تتشكل عن الموظف، إذا غاب في إجازة مثلا ثم ظهر في مكان عمله، حلقة من زملائه وزميلاته. وبعد أن يسلمّوا عليه سيسألونه عن أخباره وعلومه. والرد دائما واحد وسهل: "ما شي أخبار وما شي علوم". فحتى لو كان هناك أخبار وعلوم فلا يجب أن تُقال، إلا في ظلال الجملة النافية السابقة. لا يمكن، مثلا، أن تقول "نعم، هناك أخبار وعلوم"، حتى لو كان لديك ما تقول إذا لم تنف وجودها بداية (الأخبار والعلوم) فلن يكون ثمة أرض انطلاق لما ستقول. النفي هنا بمثابة تنظيف لأرض انطلاق الأخبار والعلوم وفرش ساحة وفيرة لها. .. والآن، في ظل تفشّي جائحة كورونا اختلف الأمر، لن يبحث عنك أحد للسلام عليك و"إعطائك خبارك"، وبالتالي لن يصافحك أحد. وحتى إذا غبت في إجازة أو غيرها لن تجد من يهتمّ بـ"علومك وخبارك".
مثل هذه العادات متوارثة، ولها سياقاتها التاريخية وأسبابها. وحين كنا صبية نأنف منها، بل نتلعثم حين تضعنا المصادفة في موقف "مناشدة"، والمناشدة تعني السؤال عن "الأخبار والعلوم". وهذا لا يتم إلا ضمن ترتيبات بروتوكولية صارمة. مثلا، إذا كنت في جماعة وصادف ذلك وجود شخص جديد على المشهد فإنك بعد أن "تخابره" عليك أن "تناشده" إن كان وافدا على المكان، أو يناشدك هو، إن كنت الوافد. ولكن حتى هذه "المناشدة" لن تتم من دون أن تستشير كل من معك، وتؤثرهم على نطق سؤال الأخبار والعلوم. وبدورهم سيسمحون لك بذلك، خصوصا إن كنت الأكبر سنا بينهم، إذ جرت العادة على أن الكبار هم من يُؤثرون في ذلك، وأحيانا بدون حتى أن يستشيروا من هم أصغر منهم .
سلوكيات تقليدية جميلة، تحلو أكثر في عين الغريب. وأتذكّر أن سعيد يقطين حريصا حين كان يلتقيني يسألني، مبتسما، عن "العلوم والأخبار"، انطلاقا من التقاطاته حين زار عُمان. ولأنه غريب ووافد، فلا شك في أنه التقى من سألوه عن "أخباره وعلومه".
----
تنويه: ورد في مقال الأسبوع الماضي "راهنية غسّان كنفاني" أن الكاتب الفلسطيني المعروف كان يكتب زاوية ساخرة باسم مستعار، هو فارس فارس، في مجلة الهدف؛ والصحيح أنه كان يكتبها في ملحق صحيفة الأنوار الثقافي.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي