نهب المخطوطات التونسية... تهريب واتجار بالموروث الثقافي
نهب المخطوطات التونسية... تهريب واتجار بالموروث الثقافي
بسمة بركات
تفقد تونس مخطوطاتها التي تُهرب وتٌباع في دور مزادات ليقتنيها هواة جمع التراث بعدما تُخرج عبر مسارات التهريب النشطة منذ عهد نظام بن علي، لكن الفوضى الأمنية في المنطقة فاقمت الظاهرة التي تستنزف تاريخ البلاد.
- يرصد العميد السابق لكلية الآداب والفنون والإنسانيات في منوبة ومدير مخبر التراث فيها البروفيسور الحبيب القزدغلي تكرار الإعلان عن ضبط محاولات نهب للمخطوطات والتراث التونسي، عبر مسارات البضائع المهربة إلى تونس أو منها باتجاه ليبيا، موضحا، من خلال عمله واطلاعه على المضبوطات التي تمكن الحرس الوطني من مصادرتها، أن المهربين يستغلون فترات عدم الاستقرار الأمني والفوضى في البلدين لنهب تاريخهما.
و"لطالما كانت الحدود التونسية- الليبية المعبر الرئيسي للاتجار غير المشروع بالسلع والبشر"، بحسب دراسة منشورة على موقع مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط (مقره في بيروت)، في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2018، بعنوان "الحدود التونسية- الليبية: بين أُمنيات الأمن والحقائق الاجتماعية - الاقتصادية".
وتنشط المليشيات المتنافسة على طول الحدود في ليبيا (يُقدر عددها بنحو 15 مليشيا) من أجل إحباط جهود تعزيز أمن الحدود منذ عام 2011، وتزداد ضراوة من أجل التنافس على أرباح التهريب، مثل ما جرى بين مليشيات من بلدتي زوارة والزاوية الليبيتين المجاورتين واللتين خاضتا غمار اشتباكات متّصلة للسيطرة على نقطة عبور حيوية في رأس جدير (معبر حدودي على الحدود الليبية مع تونس) بحسب الدراسة، والتي تؤكد ما جاء فيها سعاد التومي، محافظة التراث في المتحف الوطني بباردو التابع لوزارة الشؤون الثقافية، مشيرة إلى أن أغلب مسارات تهريب المخطوطات تمر عبر المناطق القريبة من الحدود الليبية التونسية، مثل معتمدية بن قردان الواقعة في ولاية مدنين الحدودية مع ليبيا (يبلغ طول الحدود الليبية التونسية 461 كيلومترا)، وولاية قفصة على الحدود مع الجزائر (تتشاطر الجزائر مع جارتها الشرقية تونس حدوداً بطول 1034 كيلومترا).
و"انخرط سكان المناطق الحدودية المهمّشة بالجزائر في التهريب منذ عام 1962، ونسجوا شبكات لهذا الغرض مع أقارب يعيشون على الجانب الآخر من الحدود في تونس، ونمت هذه الشبكات الزبائنية على نحو كبير، وتعد أكبر من يوفر فرص العمل في المنطقة"، بحسب دراسة للباحثة في التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية بالجزائر داليا غانم، بعنوان "المناطق الحدودية في الجزائر: بلد قائم بذاته"، نشرها موقع مركز مالكوم كير- كارنيغي في 18 سبتمبر 2020.
ويعرّف المرسوم عدد 43 لسنة 2011 المؤرخ في 25 مايو/أيار 2011 والمتعلق بتنقيح وإتمام مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية، التراث الأثري أو التاريخي أو التقليدي بأنه كل أثر خلفته الحضارات أو تركته الأجيال السابقة كما يكشف عنه أو يعثر عليه برا أو بحرا، سواء كان ذلك عقارات أو منقولات أو وثائق أو مخطوطات ويتصل بالفنون أو العلوم أو العقائد أو التقاليد أو الحياة اليومية أو الأحداث العامة وغيرها مما يرجع إلى فترات ما قبل التاريخ أو التاريخ والذي تثبت قيمته الوطنية أو العالمية. ويعد التراث الأثري أو التاريخي أو التقليدي ملكا عاما للدولة باستثناء ما أثبت الخواص شرعية ملكيتهم له.
مسؤولية نظام بن علي
"يهرب موروث تونس الثقافي إلى مزادات الفنون والآثار الأوروبية، أو لهواة الجمع كما حدث مع المصحف الأزرق، إحدى أقدم نسخ القرآن (مكتوب بخط ذهبي على رق أزرق)، والذي عرضت منه صفحتان للبيع بمزاد علني في بريطانيا عام 2017"، حسب دراسة "الاتجار غير المشروع في الممتلكات الثقافية: دراسة حالة تونس والجزائر"، الصادرة عن ENACT (مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي يهدف إلى تحليل نطاق الجريمة المنظمة وتبعاتها على الأمن والحوكمة والتنمية في أفريقيا) في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، موضحة أن "باحثين في المعهد الوطني للتراث في المتحف الإسلامي بالقيروان، أبلغوا في عام 2009 عن سرقة 53 صفحة من هذا المصحف".
و"نقلت المخطوطات والقطع الأثرية عبر يخوت خاصة إلى أوروبا، لكون الرقابة الجمركية التونسية أضعف"، بحسب الدراسة السابقة، والتي توضح أن "الصحاري والجبال على الحدود التونسية مع ليبيا والجزائر تسهل التداول غير المشروع للبضائع.
ما سبق يؤكده الدكتور زهير بن يوسف، أستاذ اللغة والحضارة العربية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة تونس الحكومية، والذي عثر على نسخة من مخطوطة المشرع الملكي في سلطنة أولاد علي تركي (تاريخ تونس في العهد العثماني) للمؤرخ التونسي محمد الصغير بن يوسف (توفي في 1772 ميلادية) في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالسعودية، تحمل الرقم 5012 ق.ب والثانية في مكتبة الملك عبدالعزيز، تحمل رقم 628. كما عثر في مكتبة الملك سعود على مخطوطة "لباب التأويل في معاني التنزيل" لمؤلفها علي بن محمد بن إبراهيم الشيحي المعروف بالخازن (توفي في 1341 ميلادية)، نسخها المؤرخ محمد الصغير بن يوسف في نوفمبر 1762، ويقول بن يوسف الذي له مؤلفات، منها "كيف نحمي تراثنا المخطوط؟ مخطوطات تستور مثالا"، أن المخطوط تملّكه محمد بن حمودة صدام القيرواني بالشراء من يد السمسار المؤدب محمد المساكني البصير أوائل يناير/كانون الثاني 1831" أي بعد حوالي 49 سنة من وفاة المؤرخ مَحمد الصغير بن يوسف (إبريل/نيسان 1772) المشهور باسم الصغيّر بن يوسف، متسائلا عن كيف خرج المخطوط من تونس ومن المسؤول؟
و"ارتبط الاتجار بالتراث الثقافي التونسي بشكل وثيق بأعضاء نظام زين العابدين بن علي، ليؤدي ضعف جهاز أمن الدولة بعد ثورة يناير 2011 إلى زيادة التهريب عبر الحدود للمخطوطات والآثار"، حسب دراسة "الاتجار غير المشروع في الممتلكات الثقافية".
وعلى الرغم من خروج العائلات المتورطة في نهب الموروث الثقافي للبلاد من دائرة حكم بن علي من دوائر السلطة منذ سنوات، إلا أن عمليات السرقة لا تزال متواصلة، وفق ما رصده مشروع حلول (مبادرة أطلقها باحثون في المعارف الخاصة بالحوكمة في تونس) في دراسة نشرها في 12 ديسمبر/كانون الأول 2022، موضحا أن "ما تم حجزه خلال الفترة من 2015 حتى نهاية عام 2022، بلغ 3078 قطعة أثرية ومخطوطة وتحفة وقطعة نقدية وآلة حفر وآنية فخارية، وبلغ عدد المتهمين 376 متهماً".
تجارة مزدهرة عبر "فيسبوك"
في الأول من يونيو/حزيران 2020، عُرضت 114 قطعة تراثية للبيع في دار مزادات دروو Hôtel Drouot (مختصة في تسويق التحف والآثار بباريس)، قبل أن تتولى وزارة الشؤون الثقافية التونسية مراسلة كل من وزارة الشؤون الخارجية والمندوب الدائم للجمهورية لدى "يونسكو"، من أجل جمع كل المعطيات حول الملف وتكليف المعهد الوطني للتراث (حكومي) ودار الكتب الوطنية بالمتابعة والتنسيق مع مختلف المصالح المعنية، لاتخاذ جميع التدابير الدبلوماسية والقانونية لاسترجاع أو اقتناء القطع المعروضة للبيع، حسب بلاغ وزارة الشؤون الثقافية التونسية في الثاني من يونيو 2020. وفي الحادي عشر من يونيو 2020، تم سحب 105 من تلك القطع التراثية، وفق بلاغ ثان صادر عن وزارة الشؤون الثقافية.
لكن بالرغم من محاولات المواجهة، تزدهر تجارة التراث التونسي والمخطوطات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفق توثيق معدة التحقيق، التي رصدت إعلانات في صفحة سوق العرب على موقع "فيسبوك" (مختصة في بيع مخطوطات تونسية ويتابعها 2493 شخصا) عن مخطوطات للبيع، وعبر الصفحة، عرضت في 4 ديسمبر 2022 مخطوطة قديمة مكتوبة على جلد ماعز وعليه طوابع قديمة للبايات للبيع في مدينة بنزرت الواقعة على الساحل الشمالي لتونس، وطلب صاحب الإعلان 4 آلاف دينار تونسي (1313 دولارا)، ومنشور ثان لعقد قديم يضم طوابع بريدية، عرض في 2 أكتوبر 2022.
كما نشر إعلان على صفحة بيع نفائس المخطوطات (مجموعة على فيسبوك تضم 5509 أعضاء) في 31 يناير 2022، يمنح من يضيف 20 شخصا من أصدقائه إلى المجموعة "نسخة رقمية لمخطوطة نادرة من المصحف الشريف". وتساءل أحد المتابعين في صفحة بيع نفائس المخطوطات عما إذا كان أحد الباعة يملك مشجرة الأنساب للشيخ محمد الطاهر شوشان بن عمارة الجريدي التوزري التونسي، والتي يبلغ طولها 6 أمتار وعرضها 60 سنتمتراً (نسخت بخط يده في عام 1318 هجرية الموافق 1900 ميلادية، وأعيد نسخها في سنة 1330 هجرية، بزاوية الشيخ سيدي إبراهيم بن أحمد الشريف في نفطة بتونس.
وفي 27 أغسطس/آب 2022، عرض أحد المتابعين في ذات الصفحة مخطوطات لأحمد بن أبي محمد هارون بن عات (توفي في سنة 609 هجرية)، المشهورة بـ"طرر ابن عات" للبيع. ولاستقصاء حقيقة ما يجري، كتبت معدة التحقيق على صفحة بيع نفائس المخطوطات، متسائلة:"من لديه مخطوطة تونسية للبيع"؟ فرد أحدهم، وحسابه باسم محمد ويعيش في ليبيا، بأن لديه مخطوطات نادرة للبيع من عدة دول عربية كـ"تونس، المغرب، الجزائر، ليبيا والعراق"، وزودها بصور لصفحات من مخطوطة عبرية قال إنه يريد بيعها بخمسين ألف دينار ليبي (10411 دولارا أميركيا).
مخطوطات عبرية تهرب إلى إسرائيل
تُنهب دور عبادة يهودية بعد مغادرة القائمين عليها من تونس، مثل معبد الغريبة في مدينة الكاف شمال غربي تونس والذي نُهب في عام 2011، فضلا عن نهب مخطوطات من مقامات أولياء تونسيين، كمقام الولي يوسف المعرابي في مدينة حامة بولاية قابس جنوب شرقي البلاد، وفق تأكيد القزدغلي لـ"العربي الجديد".
وتصل المخطوطات اليهودية عبر ليبيا أو الجزائر إلى فرنسا، بحكم وجود يهود ممن غادروا تونس، قبل أن تنقل إلى إسرائيل لاحقا، حسبما يقول يوسف العبدلي، أحد مؤسسي جمعية صيانة مدينة تستور (مستقلة تعنى بالتراث)، مضيفا لـ"العربي الجديد" أن اليهود لا يتركون مخطوطاتهم، خاصة إذا كانت عن شخصيات دينية، لاحتوائها على بعض الطقوس الخاصة بهم.
يتجلى ذلك مع ديوان شعر بالعبرية لرجل الدين اليهودي فراجي شواط (توفى في عام 1700)، الذي هُرب إلى إسرائيل، وطبع في مطبعة القدس في عام 1974، بحسب الدكتور بن يوسف، الذي توصل إلى عدم وجود ديوان شواط في تونس، رغم أنه جزء من التراث التونسي، مضيفا أن المخطوطات العبرية ظلت حكرا على اليهود ولم يكن هناك أي اهتمام بها، ما سهل تهريبها إلى إسرائيل.
سرقة 3078 قطعة أثرية ومخطوطة وقطعة نقدية منذ 2015 وحتى نهاية 2022
ما سبق يؤكده لـ"العربي الجديد" المتفقد الجهوي للتراث بالقيروان جهاد صويد، مشيرا إلى وجود شبكات بين تونس وليبيا مختصة في عمليات التهريب، إذ تواترت بعد ثورة 2011 عمليات تهريب المخطوطات العبرية من أناجيل وكتب، بعضها ملكيات خاصة وأخرى تم نهبها من المعابد اليهودية سابقا.
ويجب أن تخضع المخطوطات العبرية التونسية لما تخضع له المخطوطات التونسية العربية كونها من التراث، ولكن لا يوجد رصد لها ولا ترجمة من العبرية إلى العربية، لأن التركيز اقتصر على المخطوطات التونسية العربية المتاحة، حسبما يقول الدكتور بن يوسف لـ"العربي الجديد".
و"سبق لمخبر التراث تقديم مبادرة لتكوين متحف وطني للتراث اليهودي وجرى الإعلان عنها في جزيرة جربة جنوب شرقي تونس في عام 2017، من أجل تأسيس متحف خاص بتاريخ التونسيين اليهود من أجل حفظ هذا التراث"، كما يقول القزدغلي، مشيرا إلى عرض هذا المقترح على وزارتي الشؤون الثقافية والسياحة ورئاسة الجمهورية في عام 2018، ولكن المشروع لم ير النور بعد رغم أنه مهم في دعم التراث وحماية الإرث الثقافي المتنوع ومحاربة الاتجار بالتراث وتهريبه.
عُرضت 114 قطعة تراثية للبيع في دار مزادات Drouot في باريس
استعادة 500 مخطوطة
تنص الفقرة السادسة من الفصل 83 من المرسوم عدد 43 لسنة 2011 المتعلق بتنقيح واتمام مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية على أنه "يعاقب بالسجن لمدة عشر سنوات وبخطية قدرها مائة ألف دينار تونسي (32247 دولارا أميركيا) كل من يهرّب المنقولات المنصوص عليها بالفصل 5 من هذه المجلة أو غيرها من المنقولات التي تكتسي قيمة وطنية تاريخية أو علمية أو جمالية أو فنية أو تقليدية في بلدها الأصلي". ويقول رفيق السايح، المكلف بتسيير إدارة التنمية الثقافية بوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية بوزارة الشؤون الثقافية، لـ"العربي الجديد" إن مخطوطات سرقت تمت إعادتها، مضيفا أن الجهات الأمنية تقوم بمجهود كبير للمحافظة على التراث.
وخلال الفترة من 26 إبريل/نيسان 2022 وحتى 27 مارس/آذار 2023، أحبطت فرق الأبحاث والتفتيش التابعة للحرس الوطني في صفاقس وسط تونس، وسوسة (وسط شرق)، والمنستير ونابل (شمال شرق) 6 عمليات تهريب لـ 8 مخطوطات عبرية، وألقت القبض على 40 شخصا، بينهم تونسيون وليبيون وفق تأكيد الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني العميد حسام الدين الجبابلي لـ"العربي الجديد".
وجرى استعادة 500 مخطوطة خلال الفترة من 14 يناير 2011 وحتى أغسطس/آب 2023، حسب تأكيد التومي لـ"العربي الجديد"، موضحة أن فرق الحرس الوطني والديوانة (الجمارك) ضبطتها. وتضيف: "عند حجز مخطوطة، تُجرى معاينتها من قبل المتحف الوطني بباردو، للتثبت إن كانت أصلية أم لا، وهل هي ذات قيمة تاريخية؟ ثم تحفظ ضمن المتاحف التابعة لوزارة الشؤون الثقافية، لتجنب عمليات ضياعها أو تلفها أو سرقتها"، مضيفة أن من بين المحجوزات التي وصلت إليهم التوراة، ولفافات مكتوبة بماء الذهب وكتب نادرة مخطوطة بالعبرية تضم رموزا وصورا، وصل سعر بعضها إلى 3 ملايين دينار تونسي (675 ألف دولار).
