اللغة العربية في قطر... تحدي الأمن الثقافي يواجه الأسر والمجتمع

تحقيق العربية في قطر 1
12 ديسمبر 2021
+ الخط -

تجاهل السوري المقيم في قطر أحمد حدّاد، لسنوات صعوبة التواصل بشكل طبيعي مع نجله الأكبر يوسف والذي أتم للتو عقده الأول، لكنه لا يعرف من العربية سوى كلمات قليلة؛ بينما إنكليزية الأب لا تمكنه من إجراء حوار متصل معه.

يقول حدّاد والذي استقر في الدوحة عام 2005، إنه اختار لطفليه اسمين هما يوسف وآدم رغبة منه في تسهيل حصولهما على فرصة للدراسة والعمل في إحدى دول الغرب مستقبلا، غير أن موقفًا وصفه بالصدمة شكل جرس إنذار لهم كما يقول لـ"العربي الجديد"، إذ اعتاد منذ سنوات على أن أصدقاء يوسف ينادونه بـ "جو"، "حتى صرنا نناديه كذلك في المنزل، ولكن إحدى زميلاته نادته بجوزيف ورد عليها"، وهو ما جعل حداد يقر بأنه تساهل كثيرًا في مسألة عدم إتقان ابنيه للغتهما الأم بل كان يتفاخر بأن طفله الأصغر "آدم" لم يتحدث العربية إطلاقًا منذ تعلم النطق.

حالة طفل حداد متكررة كما وثق معد التحقيق عبر جولة ميدانية شملت ثلاث مدارس دولية؛ اثنتان منها في الدوحة والثالثة في الوكرة (20 كم جنوب الدوحة) إذ يعمد طلاب عرب إلى عدم الحديث بالعربية إطلاقًا سواء في ما بينهم أو حتى مع ذويهم، وهو ما يصفه الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية، بتحد كبير يمر به المجتمع الخليجي للمحافظة على انتمائه العربي، مضيفا في مقال بعنوان "اللغة العربية أمننا الثقافي" منشور في جريدة الشرق المحلية: "نلاحظ هيمنة اللغة الإنكليزية في أكثر من مجال وحتى في مستوى التداول اليومي في الحياة العامة وهو ما يعبر عن مأزق حقيقي ينبغي الانتباه له ووضع خطط لمواجهته".

مسؤولية العائلة

في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عبرت الشيخة موزا بنت ناصر المسند رئيسة مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، خلال مشاركتها في جلسة نقاشية بعنوان "قصص من مؤسسة قطر لم تحك بعد"، عن قلقها من الظاهرة قائلة: "يحزنني لما أشوف بعض الشباب أو حتى أولياء الأمور الذين يتحدثون باللغة الأجنبية مع أطفالهم وكأنه في خجل من اللغة العربية اللغة الأم، إحنا كمؤسسة نقوم بمسؤولياتنا تجاه إحداث التوازن لكن في مسؤولية كبيرة على البيت وعلى المجتمع بصورة عامة، التحدي ما زال موجوداً".

"أبنائي وبناتي يتحدثون اللغة العربية رغم دراستهم في مدارس أجنبية"، تذكر الشيخة موزا أنها وخلال تربيتهم، كانت تركز في البيت على تعليمهم اللغة العربية والتربية الإسلامية.

ويتفق أستاذ تكنولوجيا التعليم بكلية التربية في جامعة قطر، أحمد جاسم الساعي مع الرأي السابق، محملا الأسر مسؤولية فقدان أبنائها للغتهم الأم، قائلا لـ"العربي الجديد": "أرى بشكل مستمر أسرًا سواء قطرية أو من المقيمين العرب لا يتحدث الأب والأم مع أبنائهما العربية مطلقا، كما يترك كثير منهم مسؤولية تربية الأبناء للخادمات. فبذلك يضعون مصير الطفل الثقافي في يد الخادمة دون أي إشراف منهم".

وأردف متبسّما: "أزيدك هنا من الشعر بيتا؛ إنكليزية الأم والأب والخادمة كثيرًا ما تكون غير سليمة فلا يكون الطفل قد حافظ على لغته العربية ولا تعلم لغة إنكليزية سليمة"، مبديًا مخاوفه مما أسماه بـ"الانسلاخ من لغتنا الأم" فيروي عن بعض أصدقائه أنهم لا يستطيعون التواصل مع أحفادهم إذ لا يفهم أي منهم الآخر.

أين دور المدرسة؟

يعتبر الساعي أن المدارس الدولية وإداراتها هي المتهم الأول في انتشار الطلاب العرب غير الناطقين بلغة الضاد، مؤكدًا أن الأسر وإن كان بعضها يهمل في هذا الشأن إلا أن معظمها قد دفعت دفعًا للتماهي مع ظروف التعليم التي فرضتها تلك المدارس على الأطفال وأولياء الأمور.

ويفسر الساعي حديثه مشيرا إلى أن مقررات كالمواد العلمية والرياضيات تدرس بالإنكليزية وبالتالي لا يتعرض الطالب لحصص دراسية عربية سوى في مقررات اللغة العربية والتربية الإسلامية وتاريخ قطر "وهذا غير كاف على الإطلاق"، لكن انتصار المهندي رئيس فريق الإشراف الأكاديمي لشؤون التعليم الخاص بوزارة التربية والتعليم تقول في تصريحاتها لـ"العربي الجديد": "سياسة المتابعة الأكاديمية للمواد الإلزامية تشير إلى أن اللغة العربية تحظى بأهمية كبيرة حيث يتم تدريسها كلغة أولى في المدارس الخاصة للطلبة القطريين والعرب الناطقين بها، وتلتزم المدارس بوضعها كحصص أساسية في جدول الحصص الأسبوعي بواقع (240) دقيقة في الأسبوع كغيرها من المواد الأساسية في الأنظمة التعليمية المختلفة".

4 حصص أسبوعياً في المدارس الدولية لتدريس العربية

وبداية من العام الدراسي الجاري تلزم وزارة التربية والتعليم جميع المدارس بتخصيص 4 حصص دراسية أسبوعيًا للغة العربية ومثلها للغة الإنكليزية، ولتدقيق حديث المهندي، حصل "العربي الجديد" على نموذج جدول دراسي لإحدى المدارس الدولية والتي خصصت بالفعل 4 حصص دراسية لكل من اللغة العربية والإنكليزية اتباعًا لتعليمات الوزارة.

الصورة
تحقيق اللغة العربية في قطر2

ويقترح الساعي على وزارة التربية والتعليم انتهاج سياسة تعيين متخصصين في اللغة العربية وليس مجرد مدرسين لسد الشواغر، مع وضع شروط وسمات شخصية لا بد من توافرها في من يشغل وظيفة مدرس لغة عربية.

"لا بد من تمتع مدرس اللغة العربية بمهارات خاصة من حيث قدرته على التواصل والتعامل مع الطلاب"، يرى الساعي أن شخصية المدرس المتميزة تجعل طلابه يرتبطون بشخصه، ما سيسهل بشكل كبير ارتباطهم بالمادة التي يدرسها وبالأنشطة المدرسية التي يشرف عليها.

ويشدد الساعي على الدور الكبير الذي يمكن للأنشطة والمسابقات المدرسية أن تؤديه إذا ما اعتمدتها المؤسسة التعليمية وسيلة أساسية لإعادة إحياء اللغة العربية في أذهان الطلاب ويقول: "للتعلم 6 مستويات، المعرفة والفهم والتطبيق والتحليل والتركيب والتقييم، لا بد من الاهتمام بالمستوى الثالث (التطبيق) وهو كفيل بغرس القيم والثقافة وتأصيلها بالممارسة".

لكن إدارات بعض المدارس الدولية تفرض تعليمات داخلية شفهية وأحيانًا في مراسلات إلكترونية ترسم من خلالها الصورة التي تراها الأمثل للطريقة واللغة اللتين يستخدمهما المدرس في تعامله اليومي سواء مع الطلاب أو مع زملائه من المدرسين والمشرفين وأعضاء الإدارة، حسب ما أكده المعلم إبراهيم والذي يعمل بإحدى المدارس الدولية.

يقول إبراهيم الذي تحفظ على نشر اسمه كاملًا أو مكان عمله حرصًا على أمانه الوظيفي إن إدارة المدرسة التي يعمل بها ألزمته في بدايات عمله بالتحدث بالإنكليزية فقط داخل قاعة الدرس وحتى في أوقات الراحة، مع المراجعة المستمرة على تطبيق هذه التعليمات.

ويؤكد إبراهيم أنه أنذر شفهيًا في مرة سابقة لحديثه باللغة العربية مع أحد الطلاب داخل أحد ممرات المدرسة، لكن المهندي تشدد على جدية مساعي وزارة التعليم لرفع مستوى الطلاب في اللغة العربية، موضحة أنها مادة إلزامية في جميع الصفوف الدراسية بداية من مرحلة الروضة والتمهيدي وحتى الصف الثاني عشر، مشيرة إلى صدور قرار وزاري آخر يلزم المدارس بتدريس مادة اللغة العربية للطلبة القطريين والعرب في جميع الأنظمة التعليمية مثل: البكالوريا الدولية IB ونظام شهادة الثانوية البريطانية.. وغيرها، ولن تتم معادلة الشهادة الثانوية التي ينالها الطالب عند التخرج إلاّ إذا كانت مادة اللغة العربية كلغة أولى، ومادة التربية الإسلامية ضمن المواد الدراسية للطالب.

لكن بالرغم من ذلك "نصادف في عملنا الكثير من أولياء الأمور يطلبون استثناء أبنائهم من دراسة اللغة العربية واستبدالها بلغة أخرى كالفرنسية والإسبانية"، تقول المهندي إن فريق الإشراف الأكاديمي لا يستجيب مباشرة لهذه الطلبات ويسعى أولًا لمساعدة الطلاب ودراسة حالاتهم ورفع مستواهم في اللغة العربية، منتقدة في الوقت نفسه اهتمام بعض الأسر بتعليم أبنائها اللغة الإنكليزية ولغات أجنبية أخرى وتجاهل اللغة العربية وتتفق مع سابقيها في كون الأمر صار ظاهرة مجتمعية.

"الإشكالية اليوم أن المدرسة ما زالت وحدها التي تتحمل تبعات عملية التعلم مع أن الأسرة لديها مسؤولية كبيرة في تعليم أبنائها اللغة العربية وهم صغار من خلال التنشئة السليمة" تؤكد المهندي أن جزءًا كبيرًا من ضعف مستوى اللغة العربية لدى الطلبة سببها يعود لثقافة الأهل الذين ينمون في أطفالهم حب اللغة الإنكليزية من خلال النظام التعليمي المختار لدراستهم، سواء أكان بريطانياً أو أميركياً وغيرهما من الأنظمة، ولا يشجعون أبناءهم على اللغة العربية والحديث بها في المنزل، فضلا عن الاعتماد على الغير في التربية، وخاصة الخدم من غير الناطقين بالعربية.

ترسيخ ثقافي

يربط الخبير التربوي ومدير مدارس الأندلس سالم البكري، صدق الجهود المتعلقة بإعادة إحياء اللغة العربية بين الطلاب بتنفيذ خطوات عملية من شأنها تقوية كل فروع اللغة العربية، ويرى أن عقول الطلاب "وعاء" يملؤه أولًا القائمون على التربية في المنزل ثم المدرسون في المدرسة.

ويؤكد البكري لـ"العربي الجديد" وجوب وضع خطط طويلة الأمد لترسيخ اللغة العربية والثقافة الوطنية في عقول الأطفال في سن مبكرة جدًا إذ يرى أنه من الصعب تعديل سلوك الكبار، مشيرًا إلى أن الجيل الحالي من المراهقين عايش فترة اعتمد خلالها التعليم اللغة الإنكليزية كلغة علم وشرط من شروط دخول الجامعات والتوظيف والابتعاث، ما جعل الناس تتسابق لتحقيق هذا الشرط على حساب اللغة الأم.

بعض أولياء الأمور يطلبون استثناء أبنائهم من دراسة اللغة العربية

ويرفض البكري توجيه اللوم للمدارس الأجنبية، قائلا: "نحن من استقدم المدارس الأجنبية وكان يمكننا تعريب مناهجها قبل دمج الطلاب العرب فيها ولكننا أحضرناها بغثها وغثيثها"، مستدركا بأن تلك المدارس استجابت لشرط تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية رغمًا لا قناعة، ما يبدو في توظف معلمين لسد الشاغر فقط، لذلك يتخرج الطلاب منها وهم دخلاء على لغتهم لا يستطيعون صياغة وثيقة رسمية أو قراءة سورة من القرآن ويؤكد أنهم نتاج تجربة تعليمية غير موفقة، وغفلة من أولياء الأمور الذين أغرتهم لكنة أبنائهم وتحدثهم بالإنكليزية.

ويصف البكري الإجراءات الأخيرة التي فرضتها وزارة التعليم وتزامن ذلك مع تصريحات الشيخة موزا بنت ناصر بأنها "فرصة ذهبية للعودة عن خطأ ارتكبناه بحق أبنائنا"، وطالب كل القائمين على العملية التعليمية بانتهاز هذه الفرصة والبدء فورًا في تطبيق ركائز هذه الخطة مختتمًا حديثه بقوله: "الناس عطشى للغتنا التي فيها من الإبداع والجمال اللذين إن تعمقت فيهما لن تملهما".

قانون حماية اللغة العربية

في مطلع عام 2019 صدر القانون رقم 7 بشأن حماية اللغة العربية تلتزم بموجبه جميع الجهات الحكومية والهيئات والمؤسسات العامة والخاصة استعمال اللغة العربية في اجتماعاتها ومناقشاتها، وفي جميع ما يصدر عنها من قرارات ولوائح تنظيمية وتعليمات ووثائق وعقود ومراسلات وتسميات وبرامج ومنشورات وإعلانات مرئية أو مسموعة أو مقروءة.

وفي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أحال مجلس الشورى القطري قانون "حماية اللغة العربية" إلى لجنة الشؤون الثقافية والإعلام لمناقشة وسائل تفعيله، ووفق بيان نشرته وكالة الأنباء القطرية فإن تلك الجلسة شهدت حضور الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري، وعدد من الأساتذة والأكاديميين والمواطنين والمُهتمين بدعم اللغة العربيّة.

وأكد عدد من أعضاء الشورى عدم وجود عائق أمام الحكومة لتطبيق بنود القانون، مشددين على وجوب اتخاذ إجراءات رقابية لمتابعة التطبيق، لافتين النظر في الوقت نفسه إلى محورية دور الأسرة في تعزيز اللغة العربيّة وحمايتها.

إلا أن أستاذ تكنولوجيا التعليم في جامعة قطر، أحمد الساعي، يؤكد أن البيئة الاقتصادية وعلى مستوى الشركات الأجنبية العاملة في قطر هي أيضًا أحد أسباب تقليل التعامل باللغة العربية، فتشترط في موظفيها إجادة اللغة الإنكليزية مع عدم الالتفات إلى مستوى العربية لديهم، ويقول إن بعض هذه الشركات تعتمد الإنكليزية فقط في التعامل اليومي بين الموظفين وفي المكاتبات الداخلية والخارجية، وتساءل كيف سمحت الدولة بذلك من الأساس؟

وبفحص محتوى 30 إعلانًا توظيفيًا لشركات أجنبية عاملة في قطر عبر موقع "لينكد إن" تبين أن 19 منها تشترط إجادة الموظف اللغتين العربية والإنكليزية بنسبة تقترب من 63%، في حين 11 منها اشترط فقط إجادة الموظف المتقدم للغة الإنكليزية بين الشروط الواجب توفرها فيه، بنسبة تبلغ 37%.

"ورغم أن الدولة جعلت استخدام اللغة العربية حصرًا على المكاتبات الرسمية إلا أننا حتى الآن في جامعة قطر نتواصل مع بعض الأقسام باللغة العربية ليأتينا الرد بالإنكليزية حتى لو كان المرسل عربيًا، فهو اعتاد منذ سنوات على المراسلات الإنكليزية"، ويؤكد الساعي وجوب المراقبة والمتابعة المستمرة لتطبيق قانون حماية اللغة العربية وفرضه على المؤسسات كافة، سواء تعليمية أو غير تعليمية.

تبصير فئات المجتمع المدرسي بأهمية اللغة العربية كهوية لأفراد المجتمع القطري، هو أحد أهم ركائز مشروع "قيمي ترسم هويتي" الساعي لتعزيز الهوية الوطنية والثقافة القطرية في المدارس ورياض الأطفال الخاصة، والذي أطلقته وزارة التربية والتعليم في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، سبق ذلك قرار آخر في مايو/أيار بإلزام المدارس الخاصة تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية، بدءا من مرحلتي الروضة والتمهيدي، كما تقول انتصار المهندي والتي تعرف فئات المجتمع المدرسي بأنهم كل منتسبي العملية التعليمية؛ طلبة المدارس والمعلمون والقيادة المدرسية، والمشرفون وحتى أولياء أمور.