اكتشف المحقّقون الفرنسيون هذا المعطى الجديد، عندما استمعوا مطوّلاً إلى شريط صوتي مسجل بالفرنسية بُثّ عبر الإنترنت، وتبنى فيه تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) اعتداءات باريس. أدرك المحققون، أن الصوت الذي يتلو البيان، يعود إلى شخص يدعى فابيان كلان.
فابيان أو عمر
يتمتّع كلان، الملقّب بـ"عمر"، بسجلّ طويل في أرشيف المخابرات الفرنسية. كان أحد أهم عناصر الشبكات الإسلامية المتشددة في مدينة تولوز الفرنسية، كما كان مقرباً من محمد مراح الذي قتل سبعة أشخاص بينهم ثلاثة أطفال يهود عام 2012. كلان، البالغ من العمر 35 عاماً، وشقيقه جان ميشال ينحدران من جزيرة "لارينيون"، ونشأا في تولوز واعتنقا الإسلام، ثم انتقلا إلى التديّن مطلع عام 2000.
تقرّب الأخوان من مجموعة إسلامية متشددة يتزعمها إمام فرنسي من أصل سوري، يدعى أوليفييه كوريل ويُلقّب بـ"الإمام الأبيض"، كما أنّه يعتبر المرشد الروحي للجماعة التي اشتهرت لدى المخابرات الفرنسية باسم شبكة "آرتيغا". سبق لمحمد مراح أن خالط الإمام كوريل واستمع إلى دروسه المحرّضة على "الجهاد". كما يُشتبه أن يكون كلان، أحد منظمي شبكة تجنيد لقتال القوات الأميركية في العراق. حكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات عام 2009. خلال سجنه، ضبطت السلطات رسالة، كان وجهها إلى محمد مراح الذي تعرّف إليه قبل ذلك الوقت، ببضع سنوات.
سجّلت المخابرات الفرنسية، أنّ كلان وشقيقه استقرا لبضعة أشهر في بلجيكا ابتداء من يناير/كانون الثاني 2003، وتمكّنا من ربط علاقات وطيدة باسمَين أساسيَّين من روّاد "الجهاد البلجيكي"، وهما فاروق بنعباس، بلجيكي من أصل تونسي وحكيم بنلدغم، وهو عسكري فرنسي سابق من أصل جزائري قتلته الشرطة البلجيكية عام 2013، بعد مطاردته بتهمة تدبير هجمات ضد مراكز شرطة في بروكسيل.
اقرأ أيضاً: منفّذو اعتداءات باريس... أصحاب سوابق يسرحون في مدن أوروبا
توجّه كلان إلى سورية برفقة العديد من أفراد المجموعة المتشدّدة في تولوز بعد الإفراج عنه. ظلّ هناك على اتصال مع قادة "جهاديين" في فرنسا. تشكّ الأجهزة الفرنسية في كونه أحد المحرضين على الاعتداء الفاشل في أبريل/نيسان ضد كنيسة في "فيلجويف" في الضاحية الباريسية الذي قاده الجزائري سيد أحمد غلام.
يتبيّن من خلال المعطيات، أنّ فابيان كلان كان على علاقة وطيدة بمحمد مراح الذي قُتل وعمره لا يتجاوز 24 عاماً، وأيضاً بسيد أحمد غلام البالغ أيضاً 24 عاماً. ومن خلال التحقيقات مع غلام، تأكدت الأجهزة الفرنسية أنّه كان على علاقة منتظمة بشخص مجهول في سورية، وأن هذا الشخص هو من أعطى غلام الأوامر باستهداف الكنائس اليهودية، وأرشده إلى طريقة تنفيذ العملية.
الأخوان كواشي
يرجّح المحققون أن هذا الشخص المجهول ليس سوى الجهادي الفرنسي سليم بن غالم المطلوب للعدالة الفرنسية بسبب تورطه في احتجاز وتعذيب الرهائن الفرنسيين السابقين لدى تنظيم "داعش"، وهم ديديه فرانسوا، ونيكولا هينان، وإدوار إلياس، وبيار توريس إيلي، إذ كان مكلفاً بالتحقيق معهم، واستنطاقهم خلال احتجازهم شمالي سورية ما بين يونيو/حزيران 2013 وأبريل/نيسان 2014. وظهور بوجه مكشوف في شريط فيديو دعائي نشره التنظيم في 12 فبراير/شباط الماضي، وهو يشيد بالاعتداء الذي ارتكبه الأخوان كواشي في باريس ضد هيئة تحرير مجلة "شارلي إيبدو".
كما يتضح من خلال ربط هذه الوقائع، أنّ بن غالم يعرف، وإنْ بشكل غير مباشر، الأخوين كواشي اللذين كانا على علاقة وطيدة بشبكة أخرى شهيرة في سجلات المخابرات الفرنسية وهي "بوت شومون" التي كان أفرادها يلتقون في الدائرة 19 في باريس، ومن بين أفرادها الآخرين حامدي كوليبالي ومحمد العيوني الذي كان أيضاً على علاقة وطيدة مع بن غالم.
هذه هي خيوط النشاط الجهادي، متشابكة معقّدة، لكن التمحيص الدقيق لهذه الخيوط يقود التحقيقات المنفصلة من اسم إلى آخر، ليتبيّن في النهاية أن الأمر يتعلق بعائلة كبيرة وأنّ نظرية "الذئاب المنفردة" مجرد وهم صنعته وسائل الإعلام وبالغت في تضخيمه.
اقرأ أيضاً: مولنبيك ــ بروكسل... عاصمة أوروبية لـ"جهاديي" العالم
محور فرنسا بلجيكا سورية
كل العمليات التي شهدتها فرنسا، سواء تلك التي نجحت في مراميها أو تلك التي أُجهضت، هي في الواقع منظّمة بشكل محكم عبر شبكة معقّدة، أفرادها موجودون في سورية، وبلجيكا وفرنسا. وبحسب مصادر استخباراتية فرنسية، فإن بن غالم كان على علاقة بالأخوان كواشي، وأيضاً مهدي نموش الذي كان وراء الاعتداء على متحف يهودي في بروكسيل، في 24 مايو/أيار 2014، والذي أسفر عن سقوط أربعة قتلى.
ويرجح المحققون، أن يكون بن غالم يشغل عملياً منصب "مدير الموارد البشرية، فرع الجهاد الأجنبي"، ومسؤول عن تجنيد وتدريب الجهاديين الفرنسيين و"الفرنكوفونيين"، كما أنّه على علاقة بعشرات الشبان في حي مولنبيك في بروكسيل وأيضا بخلايا أخرى نائمة في الضواحي الفرنسية.
وبات مؤكداً أنّ بن غالم يعرف من دون شك شخصية أخرى من زعامات "الجهاد الفرنكفوني" ويتعلق الأمر بالشاب الجهادي البلجيكي، من أصل مغربي، عبد الحميد أبا عود، المنحدر من حي مولنبيك، والتحق عام 2013 بتنظيم "داعش"، وتعتبره الأجهزة الأمنية الفرنسية والبلجيكية، "العقل المدبّر" لاعتداء 13 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي في باريس، بعدما رصدت اتصالات بينه وبين صلاح عبد السلام المشتبه به الأول في هذه الاعتداءات وشقيقه إبراهيم عبد السلام.
وترجّح المعلومات الأمنية أن يكون صلاح عبد السلام الذي كان ينفذ تعليمات أبا عود، وهو المسؤول عن المجموعة التي نفّذت مجزرة مسرح "باتكلان"، الذين فجروا أنفسهم أثناء الاعتداءات، أي شقيقه إبراهيم عبد السلام، وعمر اسماعيل مصطفاي، وسامي عميمور، وبلال حدفي، وأحمد المحمد (اسم مستعار)، هؤلاء جميعهم التقوا واجتمعوا في حي مولنبيك، بإشراف مباشر من أبا عود.
اقرأ أيضاً: كشف هوية فرنسي سجل شريط تبني "داعش" اعتداءات باريس