Rain Dogs... حلم الطبقة العاملة يضحك في المصحات والملاجئ

Rain Dogs... حلم الطبقة العاملة يضحك في المصحات والملاجئ

06 مايو 2023
يتطرق العمل إلى قضايا حقوق المرأة والتوجّهات الجنسية المختلفة (إتش بي أو)
+ الخط -

ليس Rain Dogs اسمًا لواحد من أشهر ألبومات الموسيقي الأميركي توم ويتس فحسب، بل هو عنوان لمسلسل جديد من إنتاج "إتش بي أو" بالتعاون مع "بي بي سي ون". بدأ عرض المسلسل البريطاني في السادس من مارس/آذار الماضي، وقد امتد الموسم الأول منه على مدار ثماني حلقات قصيرة، يقع كل منها في ثلاثين دقيقة، تمزج بين الدراما والكوميديا السوداء، على أن يُتبع بموسم ثان قريب تؤكده نهاية المسلسل المفتوحة.

عندما سُئل ويتس في مقابلة له عام 1985 عن معنى عنوان ألبومه، قال إنه يرى فيه استعارة عن البشر الضالين المتألمين بلا أي وجهة. الأشخاص الذين ينامون على العتبات وليس لديهم أي مكان اجتماعي أو فيزيائي ينتمون إليه. لا يبتعد مسلسل Rain Dogs عن تلك الصورة القاتمة التي رسمها ويتس عن مجتمع القلوب المحطمة والأكباد المتآكلة من فرط الكحول، بل يكاد يكون اقتباسًا مرنًا لموضوعاتها ومحاكاة مؤلمة لذات العالم السفلي الذي صوره المغني الأميركي، لكن في أحياء لندن الشاحبة هذه المرة، حيث يتدبر السكان ثمن مشاريبهم حتى طلوع الغد الذي يتهربون فيه من دفع إيجاراتهم، ويجاهدون للحصول على وجبة فطور متأخرة.

نلتقي مع أولى الحلقات بكوستيلو (ديزي ماي كوبر)، ونرافقها في رحلتها الممتدة على طول المسلسل لإيجاد مأوى لها ولابنتها آيريس (فلور تاشجيان)، وهي رحلة تتشاركها الأم العزباء مع صديقها المثلي المنحدر عن أسرة ثرية فلوريان سِلبي (جاك فارثينغ) بعد خروجه حديثًا من السجن. يقرر الثنائي غير المألوف بدء حياة جديدة في الريف، لكن اليأس يطاول عائلتهما حديثة العهد. ينهار بيت العنكبوت الهش، وينتهي حلم الطبقة العاملة باحتجاز سِلبي في مصحة لإعادة التأهيل النفسي وانتقال كوستيلو إلى ملجأ متدين للنساء، تغادره بعد حادثة هدم يسببها الجيران الأثرياء، إلى درب جديد قد يكون سِلبي ملجأ آمنًا فيه، أو سببًا للهروب منه.

يلقي المسلسل الضوء على العائلات غير البيولوجية، أي تلك التي لا تربطها صلة القرابة والدم، بل التجربة والمصير المشتركين، كما تشرح كاتبة العمل كاش كاراوي، وهي مؤلفة عرفت بكتاب السيرة الذاتية Skint Estate الذي يوثق تجربة الأمومة في أحياء معدمة، تعتاش فيها الأمهات العازبات وصغارهن على بنوك الطعام والإعانات الحكومية وتقديم الخدمات الجنسية.

في Rain Dogs، تركيز خاص على الأمهات العازبات أيضًا، ليس بوصفهن ضحايا التمييز الجنسي ووصمة العار المجتمعية فحسب، بل بحرمانهن من الدعم المؤسساتي الممنهج وفرص العمل المتساوية، خاصة في المناطق التي يعيش قاطنوها أسفل الهرم الاقتصادي، عقب سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية التي ضربت بريطانيا خلال العقود الماضية، ومنها خفض الإنفاق الحكومي والوجود البريطاني المسلح في أيرلندا الشمالية، وسباق التسلح النووي، وغيرها من الأزمات الطارئة التي خطت العقد التاتشري وما تلاه بعيد انهيار دولة الرفاه، وجعلت الفقر موضوعًا راهنًا وعامًا في الدولة الحديثة.

يتمحور المسلسل حول علاقة كوستيلو وسِلبي وآيريس؛ ذبذبات عاطفية يتقن صناع المسلسل تصويرها على هيئة نوبات متقطعة من الحب والكراهية والأنانية والمصلحة. علاقة من نمط "لا يمكنني العيش معك... أو من دونك". يتلاقى كوستيلو وسِلبي، ثم سرعان ما يفترقا ككرتين في البندول، شدة الاصطدام بينهما تولد القوة التي ستجمعهما من جديد. صحيح أن سِلبي يساند صديقته في المواقف الحرجة، لكنه يجلب معه جنونًا يجعل وجوده كارثيًا في حياتها أيضًا، فتحفظ رقمه في سجل هاتفها "لا تجيبي، إنه سِلبي". هما صديقان منذ أيام الدراسة الجامعية، يتشاركان حس الدعابة المرير وتاريخًا من العنف الأسري والحب النقي والصافي لآيريس، توقًا لبناء أسرة لم يحظيا بها، أو تعويضًا عن طفولة ضائعة يتركها صناع العمل مبهمة إلى حد بعيد، حالها حال طبيعة العلاقة بين هذين الاثنين، إذ لا يجيب العمل عن أسئلة الفضول الزائد. لا تعريفات مسبقة، لا أدوار نمطية ولا شخوص باهتة أو عادية، خاصة سِلبي بمعطفه الطويل وشعره المنسدل ونزعاته السينيقية. حضوره الحاد وسخريته الوحشية يذكرانا بشخصية جوني في فيلم مايك لي الشهير Naked. إلا أنه، خلافًا لهذا الأخير، لا يتغذى على كراهية النساء أو حبهن، لكنه عنيف بشدة أيضًا. نعرف أنه كان في السجن على خلفية ارتكاب فعل عنف جسدي يجعلنا نشكك في تكوينه الأخلاقي والنفسي وقدرته على خلق مناخ مناسب لتربية طفل. ليس غريبًا أن يسأل بعض المشاهدين أنفسهم عما إذا كان من الضروري الاتصال بخدمات حماية الأطفال لإنقاذ آيريس ممن يحيطون بها. تلك الشكوك حول استحقاق الأبوة والأمومة تغدو سؤالًا لا يفضي إلى جواب واضح عبر المسلسل.

كوستيلو أم، لكنها امرأة أيضًا وابنة لعائلة محطمة ومواطنة همشها النظام لصالح دافعي الضرائب. تخفق أحيانًا، وتفلح أحيانًا أخرى، لكنها محبة دائمًا. قد لا تجسد بعلاقتها مع آيرس مثالًا عن مبادئ التربية الحديثة، إلا أنها توضح أزمة الإنجاب في مجتمع تحكمه السطوة البطريركية، جاعلة كسر حلقة الفقر المفرغة أمرًا شبه مستحيل للنساء العازبات اللاتي يحاربن إلى جانب العوز المفترسين الجنسيين وأرباب العمل المتعجرفين.

يتطرق Rain Dogs إلى قضايا حقوق المرأة والمثليين، ملمحًا إلى حساسية الهوية البريطانية السوداء، ويستند إلى الصدمة والعنف واللغة البذيئة للتأكيد على عدم المساواة الطبقية والجنسية، من دون أن يبدي كثيرًا من الاهتمام بمفردات الصوابية السياسية، إذ يقيم النكات على موضوعات الانتحار متجاهلًا النقاشات بالغة الجدية حول أزمة الصحة النفسية العالمية. 

تخبرنا والدة سِلبي المتحجرة أن الانتحار هواية لابنها، فيسخر منها الأخير بحجة أن كثيرين يموتون وهم يفعلون ما يحبونه. تلك ليست إلا شذرة من وابل من العبارات "المسيئة المضحكة" التي يتسلح بها سِلبي في وجه تعاسة المشهد، معيدًا الكوميديا إلى منطقتها غير الآمنة، خاصة للكوميديين الصاعدين.

التلصص بكافة أشكاله (Voyeurism) يعد واحدًا من أضخم موضوعات المسلسل وأكثر استعاراته قوة، خاصة مع وضع البطلة الرئيسية العاملة في أحد استعراضات التلصص (Peep show)، وانخراط سِلبي في نشاط جنسي مشابه عبر ما يُعرف بثقب المجد في دورات المياه والأكشاك المتنقلة. يحضر التلصص أيضًا في سعي كوستيلو إلى نشر كتاباتها شريطة تلصصها على ذاتها هذه المرة من خلال سرد قصة حياتها ككاتبة ناشئة وعاملة في مجال الجنس. تبحث دور النشر وصناعات الترفيه عن نشوة من نوع خاص، متعة لا تنجم إلا عن "حكاية أصيلة" من قلب مستنقعات الفقر المدقع، ترضي الجمهور المتعطش للتعاطف مع الآخرين وإلقاء نظرة رومانسية من ثقب المفتاح على حياتهم المثيرة للشفقة.

لا ترى الصحافة في كوستيلو سوى "أوليفر تويست بأثداء كبيرة". مساومة تقبلها كوستيلو على مضض، موقنة أنها "ضحيتهم الليبرالية" لهذا الأسبوع. ما إن يعلو صوت الطبقة العاملة، حتى تكشف النخبة المنعمة عن نواياها وتخسر كوستيلو فرصتها مع ناشر كتابها "لعدم التصرف كمؤلفة".

يتتبع المسلسل الآثار النفسية للفقر، ومنها اللامبالاة أو التشتت في الرؤية والهدف، بوصفها سمات عامة يعبق بها هواء الأحياء الفقيرة في لندن. ففي ظلال الثلاثي الرئيسي، شخصيات متنوعة ومتباينة في أعمارها وتوجهاتها، ينشد معظمها مفعول المخدرات أو الخمر أو الجنس. قد لا يحل ذلك مشاكلهم، ولكنه يكفي لتأجيلها إلى حين.

لا تمانع صديقة كوستيلو غلوريا أخذ سيلفي مع جثة رجل ميت وسيم، ثم الدخول مع ابنه الأقل وسامة في علاقة غير مستقرة. نراها للمرة الأولى مغمى عليها في كابينة هاتف، لا نعرف شيئًا عن ليلتها السابقة، لكننا ندرك لاحقًا أن ما ظنناه حدثًا استثنائيًا ليس إلا ليلة سبت اعتيادية عندها. هناك ليني، الفنان التشكيلي المريض، الذي يجد في صحبة كوستيلو وجسدها ملاذًا آمنًا. أما العائلات، فهي في غالبها عقيمة، مفككة، تثقل أبناءها بصدمات مؤسفة وتدفعهم في رحلة هرب تكلفهم الكثير.

تتناثر تلك الصورة المغرقة في الواقعية المحلية مع بداية الحلقة الرابعة، مؤكدة أن صناع العمل لن يتهاونوا في بذل كل ما هو مطلوب لإبقاء روح العمل حية. تضمحل الواقعية المسيطرة على المشهد، وتنزاح الأحداث نحو مزيد من التقلبات الدرامية المشبعة بنغمة استعارية ومسرحية، تُعلن بدايتها مع عشاء يسير على نحو خاطئ تمامًا في منزل سِلبي وكوستيلو الريفي الجديد، ويذكرنا إلى حد كبير بانهيار القصر الفيكتوري الزوجي في فيلم Mother لدارين آرنوفسكي.

يعيد إلينا مسلسل Rain Dogs مزاجًا افتقدناه بشدة، مضيفًا إليه روح كلاسيكيات ديكنز وزولا، حيث الفقر هو مرادف للظلم، وسوء طالع الشخصيات قدر لا مفر منه، لكنه يرفض تصوير الطبقة العاملة بشكل مقيت. هناك دومًا متسع للضحك، وإن كان ذلك للأسباب الخاطئة تمامًا.

دلالات

المساهمون