مهدي أبو سردانة... غزة يا زهرة حنّون

مهدي أبو سردانة... غزة يا زهرة حنّون

18 نوفمبر 2023
في رفح (محمد عبد / فرانس برس)
+ الخط -

لم يكن شيخ الطريقة العلاوية في الفالوجة، حسين أبو سردانة، يدري أن حُبّ ابنه الصغير لحلقات الذكر والتلاوة والإنشاد، التي تقيمها الطريقة، سيتطور حتى يصبح هذا الطفل رمزاً لأغاني الثورة الفلسطينية وألحانها، أو أن أعماله ستُبَثّ من إذاعات القاهرة ودمشق وبغداد. حين وقعت نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، كان الطفل، مهدي، قد بلغ ثماني سنوات من العمر، أي إن وعيه تفتّح على مآسي الاحتلال والقتل والتهجير.

كان حظ الفالوجة من هذه المآسي ساحقاً. فبسبب موقعها الجغرافي المهم لكل الأطراف، دارت فوق أرضها معارك عنيفة، وتحصّنت فيها وحدة من الجيش المصري، قبل أن تتعرض لحصار مطبق، استمر لنحو أربعة أشهر، ولم ينتهِ إلا باتفاقية الهدنة بين الحكومة المصرية وحكومة الاحتلال.

خرج الجيش المصري، وداهمت قوات الاحتلال القرية، وأنذرت أهلها العُزّل بالرحيل عنها خلال عدة أيام فقط (كما فعلت أخيراً مع أهل شمال غزة)، فخرجوا ولم يرجعوا إلى اليوم. كان الذكر الصوفي والإنشاد الأساس الأكبر في التكوين الفني لمهدي أبو سردانة، وكان الاحتلال ومآسيه المؤثر الأكبر في اختياراته وانحيازاته التي وهب لها حياته كلها.

لا يستغرب من يعرف مهدي أبو سردانة، أن تكون أغنيته "بلدي الحلوة غزة" هي الأشهر والأوسع انتشاراً من بين ألحانه. كان الرجل غزياً بالمولد والمهجر، إذ إن الفالوجة كانت تتبع قضاء غزة. وبعد النكبة، هاجر الرجل لفترة قصيرة إلى الأردن، لكن سرعان ما عاد إلى غزة بصحبة شقيقه محمد، الذي سيصبح لاحقاً قاضي قضاة فلسطين. وخلال هذه الفترة، أخذ سردانة في التعرف إلى التراث الموسيقي الغزّي عبر حضور محافل الزفاف.

مع التطورات الأخيرة في قطاع غزة عقب عملية "طوفان الأقصى"، عادت أغنية "بلدي الحلوة" للانتشار، بسبب مطابقة كلماتها للواقع، وسهولة لحنها الذي يجمع بين الحماسة والطرب: "أرض المجد وأرض العزة.. بلدي الغالية الحلوة غزة.. غزة فجري وشروقي.. منها بستلهم شوقي.. لتراب القدس الغالي.. وهو نبضي وعروقي.. غزة يا شجرة زيتون.. غزة يا زهرة حنون.. شطك بحرك ورمالك.. أرض أحلى بلاد الكون".

يمكن لمن يجري بحثاً سريعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، أن يكتشف بسهولة مكانة الأغنية في الوجدان الفلسطيني عموماً، والغزي على وجه الخصوص، ليس فقط لأن الأغلبية الساحقة من مطربي القطاع قد أدوها بأصواتهم، ولكن لأنها تكاد أن تكون نشيداً قومياً للغزيين، وعلى وقع كلماتها ولحنها ينتظم "طابور الصباح" في المدارس، وينشدها التلاميذ بصورة جماعية مؤثرة.

في عام 1958، رحل أبو سردانة إلى مصر، والتحق بمعهد الموسيقى العربية في القاهرة. هناك، بدأ يدرك ميله الكبير إلى الغناء والتلحين. وبالطبع، لم يكن أمامه إلا أعمال الملحنين المصريين الشهيرين؛ فكان يؤديها بين أصدقائه معارفه. انخرط في الحياة الفنية في القاهرة، فكان أول فلسطيني يقف على مسرح دار الأوبرا المصرية، مشاركاً في عرض المسرحية الغنائية "العروسة"، ولم يتجاوز عمره حينها تسعة عشر عاماً.

في هذه الأثناء، تعرف أبو سردانة إلى الإذاعي فؤاد ياسين، الذي أسّس لاحقاً إذاعة "صوت العاصفة" التي خصصت لتكون صوت الثورة الفلسطينية. وبالفعل، طلب ياسين من أبو سردانة أن يلتحق بـ"العاصفة" مطرباً وملحناً، فقَبِل، وشكل التحاقه بتلك الإذاعة محطة فارقة في حياته الفنية، إذ كان هذا العمل سبباً للقائه بالشاعرين الفلسطينيين محمد حسيب القاضي، وصلاح الدين الحسيني، المعروف بـ"أبو صادق الحسيني".

شكل الثلاثة "تحالفاً فنياً" لإنتاج الأناشيد الثورية وتلحينها ونشرها عبر أهم منبر للثورة الفلسطينة "العاصفة"، وكان تعاونهم مثمراً للغاية، وعلى أيديهم ولدت عشرات الأناشيد الحماسية التي انتشرت بين المقاومين الفلسطينيين في كل مكان.

تطول قائمة الأغنيات التي كتبها الشاعران، القاضي والحسيني، ولحنها أبو سردانة، ومن أشهرها: "جر المدفع"، و"لغة البارود"، و"أذن يا رصاص الثورة"، و"العواصف الأسيرة"، و"النصر إلك يا شعب"، و"المعركة"، و"بروس الجبال"، و"حنا ثوارك يا بلادي"، و"طل سلاحي"، و"لا المؤتمرات الدولية"، و"ما بنتحول"، و"مؤامرة"، و"من قلب الخيمة"، و"يا غاصباً حقنا"، و"يا شعبي كبرت ثورتي"، و"عهد الله ما بنرحل"، و"يا جماهير الأرض المحتلة"، وغيرها كثير جداً.

صحيح أن التراث الموسيقي الشعبي الفلسطيني، ولا سيما الأفراح الغزّية، كلها كانت من أهم مصادر إلهام مهدي أبو سردانة، لكنه بعد ذلك وسع اطلاعه على الموسيقى المصرية واللبنانية والعراقية، واستطاع أن يدمج كل هذا في وجدانه، ليخرج بألحان نالت احترام الجماهير، والفنانين، وعبّرت عن الروح الثورية النضالية للشعب الفلسطيني منذ منتصف الستينيات، بسبب تلك الحماسة المتدفقة في تفاصيل الكلمات والألحان.

كان يردد دوماً: "إذا كان الفدائي يقاتل بالرصاصة، فأنا أقاتل بالجملة الموسيقية". ولعلّ دمج هذه الأنواع الموسيقية من مختلف البلدان العربية، ليس سوى تعبير عن رغبة أبو سردانة، وعموم الفلسطينيين، على إشراك العرب في دعم القضية ومساندتها؛ إذ استطاع أن يعي أوجه التشابه بين هذه الأنواع التي جاء كل منها من بلد، وأن يخلق مزيجاً خاصّاً نتلمّسه عبر الأغاني التي لحّنها.

في أكتوبر/تشرين الأول عام 1990، وقعت مذبحة المسجد الأقصى، حين اقتحم متطرفون إسرائيليون ساحة الحرم القدسي، واشتبكوا مع نحو أربعة آلاف مصلٍّ، فتدخلت قوات الأمن الإسرائيلية، وأطلقت الرصاص الحيّ على المصلين، ليستشهد على الفور 21 فلسطينياً.

كان للحادث وقع كبير على "ملحن الثورة" ورفيق دربه الشاعر أبو الصادق الحسيني، الذي وضع كلمات تقول: "آه يا أمة محمد.. آه يا خير الأمم.. آه يا قدس الحرم.. آه يا أمة يسوع.. جرحي ما بين الضلوع.. القيامة انكسر فيها الشموع"، لحّن سردانة الكلمات، وغناها بنفسه بمشاركة فيوليت سلامة.

كان سردانة يرى ضرورة ملازمة الحماسة والقوة للغناء الثوري، إلى درجة أنه أعرب علناً في لقاء تلفزيوني عن تحفظه من لحن قصيدة "أخي جاوز الظالمون المدى" لمحمد عبد الوهاب، واعتبرها من أضعف أعمال "موسيقار الأجيال" لحناً وغناءً. وقال إنه أوضح وجهة نظره لعبد الوهاب في اتصال تليفوني أجراه معه، فأقرّ له بصواب ملاحظاته.

واكب مهدي سردانة كل الحوادث الكبرى في تاريخ القضية الفلسطينية، غنى للاجئين والمعتقلين، للثورة والمقاومين، لانطلاق حركة فتح، للفصائل الفلسطينية في لبنان، لانتفاضة الحجارة عام 1987، لدخول الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، إلى غزة والضفة عقب اتفاق "غزة أريحا". غنى للقدس وللمسجد الأقصى وكنيسة القيامة. لكن بعض أغانيه كانت أشهر منه، فأصبح الإعلام الفلسطيني يبثها، من دون أن يشير إلى صاحبها. حمل الرجل في نفسه حزناً نبيلاً، وبثّ شكواه لبعض من قابلهم من الإعلاميين والصحافيين الفلسطينيين.

وجاءه التكريم وقد جاوز السبعين عاماً. ففي عام 2011، قلده الرئيس الفلسطيني محمود عباس وسام الاستحقاق والتميز تقديراً لدوره الوطني في حقل الإبداع الفني والثقافي. عاش مهدي أبو سردانة في مصر التي احتضنته ورعت موهبته، لكن حين داهمه المرض، أدخل إلى مستشفى "فلسطين" في القاهرة، وكأنها عودة إلى وطنه الأول، ولو باسمٍ على لافتة، ليرحل في سبتمبر/أيلول من عام 2016، بعد رحلة دمجت الفن بالنضال لأكثر من نصف قرن.

المساهمون