محمد إسماعيل... سيرةٌ سينمائية مُكثّفة عن بلد يزدادُ كآبة

محمد إسماعيل... سيرةٌ سينمائية مُكثّفة عن بلد يزدادُ كآبة

07 فبراير 2022
أخرج أفلاماً تلفزيونية تتّسم بعمق فني (أحمد إسماعيل/الأناضول)
+ الخط -

ينتمي المخرج السينمائي المغربي محمد إسماعيل (1951-2021)، المُكرَّم في الدورة الـ11 (4 ـ 10 مارس/آذار 2022) لـ"مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية"، مع الراحلين المصريين محمود مرسي وهدى سلطان، إلى الفئة الأكثر ثقافة ونبلاً وجمالاً وإبداعاً في السينما المغربيّة. هؤلاء قلائل، الذين يتملّكهم هسيس السينما، ويهزّهم قهر الواقع، حين يبتعدون أسابيع طويلة عن الكاميرا، ومُتخيّلها السينمائي. لكنْ، بمجرّد عودتهم إليها، يشعرون بالسكينة.

هذا في مقابل فئة أخرى أكثر تعطّشاً للدعم المادي، لا يهمّها تجديد الإنتاج السينمائي وتخييل الواقع، بأزماته وقلقه وتصدّعاته. الدعم دافع أكبر إلى كتابة نصوص سينمائية مُرتبكة، بتواطؤ مع لجان، لم يُسمع بها أبداً.
لكنّ الشغف مهمّ في الإبداع، وهذا متوفّر في محمد إسماعيل، الذي فطن باكراً إلى أنّه يُمكن للشاشة الصغيرة أن تُصبح مشروعاً بصريّاً، يستكمل حداثته بدءاً من السينما، خاصّة أنّ الأمر يتعلّق بالسيرة نفسها للمرئي وللنسق البصري، اللذين يحكمان أنماط الصورة في السينما والتلفزيون.

على هذا الأساس، اشتهر إسماعيل بأفلامٍ تلفزيونية توغّلت في الواقع المغربي، بمآزقه وأعطابه، وفهمت ميكانيزماته، بغية إثارة سجال بصريّ مع ما يختمر في جوفه من ميثولوجيات. الواقع المغربي حصراً مفهوم مهمٌ في تجربته، لأنّه دافع قويّ إلى التخييل والحلم، لكنْ بطريقة يذوب فيها الواقع، ويصبح مفهوماً إجرائياً، يحكي ويبدع شخصياتٍ، تتسلّل خلسة من الواقع، وتنتقد وتُعرّي فنيّاً المناطق اليباب في الاجتماع المغربيّ المُفكّك والمأزوم، الذي تتستّر عليه قوى سياسية وسلطويّة داخلية. لكنّ إسماعيل حرص على التوغّل في مكبوت الواقع، ما حتّم عليه تفكيك عناصره، والوقوف عند أعطابه ومزالقه، لا الركون إلى رصده، وإلى ما يشهده من أزمات خانقة.

صورته السينمائية محكومة بسياقها التاريخي الآني إذ يستحيل فصلها عن الواقع المغربي

ما يجعل الصورة السينمائية لدى محمد إسماعيل تكتسي طابع التميّز والتداول، يكمن في أنّها محكومة بسياقها التاريخي الآني، إذ يستحيل فصلها عن الواقع المغربي، في وقت كانت السينما المغربيّة، منذ نهاية تسعينيات القرن الـ20، معنية أكثر بوقائع وتغيّرات يشهدها العالم. حينها، ظلّ إسماعيل حريصاً على مغربة صُوَره، وجعلها تتغلغل أكثر في النسيج الاجتماعي، بحكم ما شهده الواقع من تفشّي البطالة، وتجارة المخدرات، وهجرة الأدمغة. هذه مواضيع ذات طابع اجتماعي، لا تزال مطروحة اليوم، لكنْ بشكل هستيري ومُتوحّش، يُؤجّج نيران المرارة والاحتقان، اللذين يعرفهما المغرب حالياً. هذا ما انتبه إليه إسماعيل في أفلام سينمائية عدّة له، منذ بداية الألفية الجديدة، فشرع في فحصها ونقدها، مُقدّماً اقتراحات بصريّة، بطريقة حرّر معها التلفزيون المغربي الرسمي من تماهيه مع قضايا مُتخيّلة، لا علاقة لها بالواقع المغربي المنكوب، سياسياً واجتماعياً.

بانتهاجه خاصية التخييل والإبداع، لا يبتعد التلفزيون عن الواقع المادي العيني المباشر، الذي تنتمي إليه الشخصيات، بل يغدو إطاراً فكرياً برّانياً، يُؤسّس جماليات المَشاهد. هذا العمق في تخييل الاجتماع المغربي بصرياً غير مألوف في التلفزيون الرسمي، ما جعل أفلام إسماعيل تظلّ، لأعوام، متربّعة على عرش الشاشة الصغيرة، هو الذي تخرّج من كلية الحقوق في الرباط. عمله في التلفزيون مَكّنه من تشرّب المهنة، فأخرج أفلاماً تلفزيونية تتّسم بعمق فني على مستوى بلورة مصائر الناس وتخييل قصصهم، حين كانت الشاشة الصغيرة المغربية، ولا تزال إلى اليوم، تُعاني انحساراً إبداعياً رهيباً، خاصّة أن مخرجين كثيرين لم يجمعوا، في مساراتهم الفنية، بين قوّة تكثيف سينمائيّ وزخم تلفزيوني في أنماطٍ مُتنوّعة من الصورة، ومحاولة دمجها معاً في الشاشة الصغيرة، كما تبلور المشروع (السينمائي والتلفزيوني) في تجربة محمد إسماعيل. السرّ ليس هنا، بل في أنّ أعماله كلّها، من دون استثناء، غاصت في اجتماع مغربي بائس ومُتشظٍ ومُفتَعل.

لا تزال صُوَره إلى الآن محتفظةً ببريقها الفني في واقع اجتماعي مأزوم. لجوؤه إلى الصورة التلفزيونية عملية سلسة في مساره الإخراجي، لتناول مواضيع اجتماعية، والتقرّب معها من يوميات الناس ومشاغلهم. طريقة ناجعة في تثمين عملية التخييل، وجعلها تأخذ مَوَاضِع أخرى. في مقابل تجارب سينمائية لم تنجح في استثمار "صناعتها" في الشاشة الصغيرة، لأنّها معطوبة في أصلها، ويتستّر عليها ذيوع الصورة السينمائية المحدودة في مهرجانات وطنية، ما يُصيب صاحبها بارتباك بصريّ في الوسيط التلفزيوني.

من جهة أخرى، تبقى الامتيازات المادية السخيّة، التي يُقدّمها التلفزيون المغربي، عاملاً مُشجّعاً لهذا النوع من الهجرة غير "القانونية"، ما يُفسِّر عشرات السيناريوهات الهشّة التي يُعاينها المغاربة سنوياً، لأنّ الهدف الأساس يتمثّل في تسريع عملية الكتابة، للحصول على الدعم، فقط.

هذه الخروقات الفنية لم تكُن تعني مخرجاً كمحمد إسماعيل. وإلاّ، كيف يُفسَّر رحيله المفاجئ، بعد تدهور صحّته عاماً كاملاً، بغير تراكم الديون عليه، بسبب فيلمه الأخير "لامورا، الحبّ في زمن الحرب" (2020)، الذي تطلّب إنتاجاً ضخماً، نسبةً إلى أفلام مغربيّة أخرى، يحرص أصحابها على "غشّ بصريّ"، على مستوى التقشّف الواضح في الإكسسوارات. المُلاحظ في تجربة إسماعيل أنّه، وهو يختبر الواقع الاجتماعي ـ السياسي بصرياً، يظلّ الخيال بارزاً في صُوره، ويُرافق الشخصيات في مآزقها ومصائرها، لكنّه يمنحها دائماً فرصةً للحلم.

في "أولاد البلاد" (2009)، نقل إسماعيل مصير جيل البطالة في مغرب الألفية الجديدة، حيث الجهل القانوني سيّد المرحلة. قصص مغربيّة ترصد مسار المفضل (رشيد الوالي)، خرّيج الجامعة، وحامل شهادة أكاديميّة مميّزة، الذي ترك عائلته في شمال المغرب متوجّهاً إلى الرباط بحثاً عن وظيفة، والعيش مع رفاقه، الذين تركوا، هم أيضاً، عائلاتهم في مدن منسّية. يرتبط المفضل بعلاقة حبّ مع فتاة، تعيش المصير نفسه. يُركّز إسماعيل بذكاء على يوميات النضال في الشارع، وقمع حاملي الشهادات العليا، وفاجعة البحث عن عمل في بلد منكوب، يتلاشى فيه سريعاً أفق النضال، فيضطر الرفاق الثلاثة إلى الرجوع إلى قراهم والعمل في التجارة ونقل الناس.

المفضل، بترك حبيبته له نتيجة هجرتها إلى الخليج، يُقرّر العودة إلى قريته الساحلية للتجارة في المخدرات. بطريقة فذّة، تتبّع إسماعيل مصائر الشخصيات في تفكيرها، والتغييرات التي يُدركها المرء بسبب واقع مؤلم وقاس. الصورة، في مسار تحقّقها الجمالي، تنزع عنها أحياناً كثيرة أسلوب التخييل، وتُصبح أكثر إدانة للواقع المغربي، إذ تُعرّي الشخصيات أعطاب الدولة، وتنتقد جبروتها في حقّ أحلام الناس، وحقّها القانوني في التوظيف. فتح الفيلم أفقاً كبيراً لأفلام عدّة، اختارت الموضوع نفسه، مع اختلاف المعالجة وتباينها بين فيلم وآخر. أهميّة "أولاد البلاد" تتمثّل في تدرّج الصورة في مستويات مُتنوّعة من الحكي والسرد، ففي عمومها تنتقد ولا تُماري، واضعة المغرب في مأزق السؤال السياسي المفتوح على العبث واللاجدوى.

المساهمون