قصب وخشب: الموسيقى في مواجهة الإبادة الثقافية

قصب وخشب: الموسيقى في مواجهة الإبادة الثقافية

10 يناير 2024
من العرض (العربي الجديد)
+ الخط -

أمام حملات الإبادة البشرية والثقافية المتتالية التي تتعرّض لها بلاد المنطقة، وليس في فلسطين فقط، لا بدّ من وجود مبادرات مقاومة بوجه المحو الثقافي والحضاري. ومساء الجمعة الخامس من الشهر الحالي، كان روّاد "ملتقى السفير" في بيروت على موعد مع مجموعة تخت "قصب وخشب" الموسيقية، في أمسية بعنوان "التقليد أساس التجديد". المقصود بالتقليد، هنا: الموسيقى المشرقية التقليدية، أو موسيقى المقام. تضمّ المجموعة كلاً من أسامة عبد الفتاح (عود وغناء)، وبشير سعادة (ناي)، وبلال بيطار (قانون)، وخليل البابا (كمنجة)، ومجدي زين الدين (رقّ). تكوّن هذا الفريق عفوياً، من خلال صداقات متقاطعة. إلا أن العنصر الجامع، هو ممارسة أعضائه الموسيقى التقليدية العربية واهتمامهم بها. وقد استمدّت المجموعة اسمها "قصب وخشب" تبعاً للمواد التي صنعت منها آلاتهم. حول تشكيلة المجموعة، يقول أسامة عبد الفتاح: "تشكيلة هذه المجموعة طيّعة؛ إذ يمكن لأي موسيقي متشرّب للموسيقى العربية التقليدية أن يشاركنا العزف. فقوّة هذه الموسيقى هي في كونها شفهية ومرتجلة. نعتمد على مبدأ الارتجال فنتشارك ما نحفظه من نماذج التقليد الموسيقي المشرقي من بشارف وسماعيّات وموشّحات وأدوار، إنّما كل بتأويله الآني الخاص لما يحفظ".
في أمسيتها قدّمت المجموعة ثلاث وصلات مقاميّة من مقام العشّاق والنهاوند والسيكاه، تضمّنت قوالب عزفيّة من البشارف والتقاسيم المرسلة المرتجلة، إضافة إلى الموشّحات. واختتم البرنامج بتحميلة مقام سوزناك، والتحميلة هي قالب موسيقي عزفي قائم على جمل لحنية ثابتة تتكرّر، وتناوب موسيقي تفريدي على شكل حواريات ما بين العازفين. وسط جوّ هادئ ساده التفاعل الإيجابي مع الجمهور، رحّب عبد الفتاح بالحضور، موجها تحية إكبار لفلسطين: "في هذه اللحظة الموسيقية الجميلة، لا يسعنا إلا أن نفكّر في أهلنا الصامدين في غزّة". وتابع: "إصرارنا كموسيقيين اليوم على تقديم هذا النمط من الموسيقى التقليدية، هو أيضاً فعل مقاومة حفاظاً على هويتنا الثقافية بمواجهة العولمة وتسليع الموسيقى والاستعمار الثقافي. وهذا الأمر يتطلّب منّا ممارسة يومية وإصراراً بحيث تصبح هذه الموسيقى جزءاً من نظامنا الحياتي".
في حديث منفصل حول المقاومة الثقافية، أضاف عبد الفتاح: "الحركة الصهيونية تعمل منذ القرن الثامن عشر للسيطرة الاستعمارية والثقافة، إذ عملت على خلق ثقافة "يهودية" ليست موجودة بمعزل عن العالم العربي. فمع ظهور إسرائيل، زار موسيقيون يهود عرب فلسطين المحتلة، ممارسين ثقافتهم على أنها الموسيقى اليهودية، ما أدى إلى زرع ثقافة هجينة".
يعطي عبد الفتاح مثالاً مهمّاً حول ذلك، عن قصة أرشيف عبد العزيز العناني، وهو جامع تسجيلات مصري، وكانت الإذاعة الإسرائيلية تسعى إلى اقتناء أرشيفه بعد أن عرضه ورثته للبيع. مقابل ذلك، بذل باحثون موسيقيون جهودهم لنجدة ذلك الأرشيف، من ضمنهم المتموّل اللبناني كمال قصّار، وهو متذوّق للموسيقى العربية، اشترى أرشيف العناني وجلبه إلى لبنان في خطوة مهمّة، أسس إثرها مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية (AMAR Foundation for Arab Music Archiving & Research) في لبنان. يضيف عبد الفتاح: "أمام تلك المبادرة، لا بد من قيام مبادرات مماثلة للعمل، ليس فقط لحفظ إرثنا الموسيقي بالدرجة الأولى، بل أيضاً للعمل على تطويره وتأويله، وصياغة واقعنا الموسيقي الحالي الذي أصبح هجيناً مبتذلاً".
يشير عبد الفتاح إلى أن نواة ذلك الاستعمار كانت عند بداية عصر التسجيلات الموسيقية مع أواخر القرن التاسع عشر واختراع الفونوغراف، إذ سرعان ما برزت استراتيجيات جديدة في ما يخص عولمة النتاج الموسيقي، مرافقة للتطوّر الصناعي والفكري والسياسي. "الحرب العالمية الثانية قامت لضبط ميزان القوى العالمي، وكانت إحدى وليداتها اتفاقية سايكس-بيكو التي قُسّمت منطقتنا على أساسها، ما سهّل إدارة شعوبها. بالتوازي، دخلت الأفكار الاستعمارية الموسيقية في ذلك الوقت من خلال الفونوغراف، إذ بدأ المستمع العربي يعتاد ما هو مستورد موسيقياً ويرغب بسماعه. ومع الأسف، كان يصلنا فقط الموسيقى الغربية الكلاسيكية لا التقليدية، على أساس أنها هي الموسيقى العظيمة دون سواها، وسرعان ما تأثر بها كبار موسيقيي العصر الماضي".

يشارك عبد الفتاح الرأي زميله في "قصب وخشب"، عازف الناي بشير سعادة، وهو أيضاً باحث في العلوم السياسية والدينية؛ فيقول: "مع الوقت، صارت نظرتنا إلى الموسيقى محصورة ضمن المنظار الأوروبي، مثال تأسيس مشروع وطني قائم بظاهر عربي، إنّما على شكلية الأوركسترا الغربية. الأمر الذي حصر المقامات الموسيقية ضمن السلّم الموسيقي. فبات المؤلف يتحكم بكل شيء في الموسيقى، بدلاً من اعتماد تشارك العزف المقامي القائم على الارتجال".
وفي موضع آخر، يضيف سعادة: "إن الغزو الفكري استمر حتى بعد نشوء القومية العربية، وهذا بسبب تحجّر تلك الهوية. فالهوية جميلة بتنوّعها وسيولتها، ليس بتحجّرها. فإذا كانت القومية ذات أفق ضيق، وتقوم بإقصاء جميع ما لا يشبهها، ينتج عن ذلك نوع من التحجّر الموسيقي. فالمقاومة الثقافية تتطلّب وجود مقاومة ضد ذلك التحجّر أيضاً".
بالعودة للأمسية، ولأهميّة نشر ثقافة موسيقى المقام، قدّم عازف القانون في "قصب وخشب"، بلال بيطار، عرضاً موجزاً لفكرة المقام الموسيقي، تضمّن عزفاً على آلة القانون، يشرح فيه الفرق ما بين المقامات وكيفية دمجها، وقد لقي الأمر استحساناً لدى الحضور، مثيراً فضولهم وأسئلتهم، قبل أن يعود العازفون لمتابعة برنامجهم.

عن "قصب وخشب" يقول أسامة عبد الفتاح: "هناك نماذج من المجموعات الموسيقية غيرنا في العالم العربي، ولكنها خجولة العدد. لا بد من الاهتمام بموسيقى أجدادنا وطرق ممارستها، لكن الأطر الفردية لا تكفي. لكننا نستمر بعزفها بأسلوبنا المتجدد، بعيداً عن فكرة الموسيقى المتحفية، لأن جماليتها تكمن في الإبداع والخلق الآني".

المساهمون