"بركة العروس": أداءٌ صامتٌ يعكس قسوة وغلياناً داخليّين

"بركة العروس": أداءٌ صامتٌ يعكس قسوة وغلياناً داخليّين

23 نوفمبر 2022
كارول عبّود في "بركة العروس": أفضل ممثلة في "آفاق السينما العربية (الملف الصحافي)
+ الخط -

ملامح الممثلة كارول عبّود، وحركة جسدها وعينيها، وصمتها الأشبه بعقابٍ تفرضه على آخرين/أخريات، تكفي كلّها لمنح شخصية سلمى، في "بركة العروس" (2022)، للّبناني باسم بريش، قدرةً هائلة على قولٍ وتعبير وبوح، يقلّ فيها الكلام، لشدّة ما تمتلكه عبّود من طاقةٍ على سرد حكاية امرأة/أمٍّ (من دون كلام غالباً)، تعيش وحيدة في منزل قروي في منطقة درزية لبنانية (الشوف)، تُحوِّل غرفةً فيه إلى "مكتب سنترال".

أداء كارول عبّود، بكلّ ما تحمله الممثلة من تراكمٍ وتدريب وثقافة وتنبّه، وبعض هذا متأتٍ من دراسةٍ لها في المسرح تحديداً، كفيلٌ بسرد الحكاية المسكوت عنها، وبالتقاط نبض أفراد (قلائل) وبيئة وحالات وانفعالات. "بركة العروس" يتجنّب، أصلاً، كلاماً، باستثناء لحظاتٍ يبدو الكلام فيها انعكاساً لواقعٍ، أو تلبية لحاجةٍ، تتمثّل بإكمال نظرة أو حركة أو تفصيل، وهذا كلّه مستمدٌّ من وقائع العيش في بلدة ريفية.

النصّ (كتابة باسم بريش، بمشاركة غسان سلهب) معنيّ أساساً بجعل الصُور مرايا تعكس غلياناً داخلياً قاسياً، وتكشف أسراراً عائلية، وتضع هذا كلّه في قالبٍ سينمائي يُخرج قهْرَ ذاتٍ فردية وانكسارها وقلقها وخيباتها وآلامها، مُشبعاً إياها بطبيعةٍ جميلةٍ، رغم امتلائها بضباب وأمطار وميلٍ إلى إشاعة عتمةٍ، تضجّ بها تلك الذات الفردية، التي تتفنّن كارول عبّود في إشهار ما يعتمل فيها (الذات) من مصائب وأعطاب. أمّا اللحظات الهانئة، فقليلةٌ، ومحاطة بسرّيةٍ، لأنّ تقاليد اجتماع وبيئة غير قابلةٍ لامرأة "مطلّقة" (!) بالعيش وحدها، وبإقامة علاقة مع رجلٍ متزوّج (وهيب، ربيع الزهر).

مطلع "بركة العروس" يشي بمسائل، أبرزها انصراف سلمى إلى داخلها، ما يفصلها بشكلٍ شبه كامل عن محيطها، وهذا حاصلٌ مراراً في منزلها. لها نظراتٌ تُكمِل ما في ذاتها من ألمٍ وغضبٍ صامتٍ، والقسوة في وجهها غير حاجبةٍ عمق حنانٍ وحبٍّ يكمنان في روحها وجسدها أيضاً، ولعلّ تلك الجملة التي تنطقها أمام ابنتها ثريا (أميّة ملاعب)، في لحظة وجع كبير، كافيةٌ لإظهارهما (الحنان والحبّ) ببساطة وعفوية وصدق: "لا تخافي يا ابنتي، لا تخافي".

لثريا وضعٌ شبيهٌ بمعاناة سلمى. ذات وقتٍ، تصل إلى المنزل الريفي، وتفتح الباب بمفتاح تحتفظ به، حاملةً حقيبةً لها، ما يوحي بدايةً بعودتها من "سفر". لاحقاً، تكشف العودة أنّ لثريا سفراً من نوعٍ آخر، ونهايته دافعةٌ إياها إلى العودة، رغم انشقاقٍ بينها وبين سلمى، يتّضح سريعاً. في اللقطات الجامعة بينهما، تبدو الممثلتان عبّود وملاعب كأنّهما في تنافسٍ على إبراز أفضل ما لديهما من ملامح وحركات ونظرات، تقول أكثر بكثير من كلّ كلام. نديم صوما (المُصوّر السينمائي) مساعدٌ أساسيّ لهما في ابتكار ما يتوافق مع مسار كلّ واحدةٍ منهما، والمساران ينكشفان الآن هنا، في المنزل العائليّ، وفي طبيعة محيطة به.

والكاميرا، بتجوّلها بين غرفٍ شبه مُعتمة، وطبيعة ثقيلةٍ، غالباً، بسبب غيومٍ وأمطار وبردٍ يكاد يخرج من العدسة، ويمسّ جالساً أمام الشاشة الكبيرة، لبراعةٍ في التقاطه سينمائياً؛ هذه الكاميرا تخترق محجوباً في ذاتٍ فردية، مُفكِّكةً ماضيها وسيرتها ومسارها، وهذا يُقال بفضل أداء عبّود وملاعب تحديداً، وبفضل جمالية الصمت الغالب في حواراتهما القليلة.

لا قصّة تُروى، ولا صراخٌ يعلو، ولا ضجيجٌ يملأ 76 دقيقة، مدّة "بركة العروس" (تُجيب سلمى ابنتَها السائلة عن سبب هذه التسمية: يقال إنّ عروساً تموت بعد وقوعها فيها)، المعروض للمرّة الأولى دولياً في "آفاق السينما العربية"، في الدورة الـ44 (13 ـ 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي"، الفائز فيها بجائزتي صلاح أبو سيف (لجنة التحكيم الخاصة)، وأفضل أداء تمثيلي لكارول عبود، بالإضافة إلى تنويه خاص في مسابقة أفضل فيلم عربي.

 

 

الروتين، الذي تعيشه سلمى يومياً، قاسٍ، كقسوة طبيعة وعيشٍ ورقابةِ بيئةٍ. عيونُ نساءٍ وتعليقات لهنّ تعكس رقابة كهذه، وإزعاج سلمى (سيارة تدور بسرعة كبيرة تحت شرفة منزلها، مثلاً) فعلٌ يوميّ، فالبيئة غير مرتاحةٍ إلى طلاقٍ وعيش كهذا.

بسلاسة وإيقاعٍ بطيء (البُطء غير سلبيّ، فالمفردة أقدر على تعبير مطلوبٍ عن الإيقاع وحركة الكاميرا وسلوك الشخصيات)، تتكشّف حقائق مخبّأة في المنزل العائلي، وسيرة أمٍّ وحكاية ابنتها العائدة إليها. مدّة "بركة العروس" تسمح بتكثيفٍ، يترافق وتتالي صُور سينمائية مُحمّلة بإشارات ولحظات وتفاصيل، كافية لمعاينة دقيقة ومتوترة (كتوتر مناخٍ وروحٍ وانفعالٍ وعلاقات)، والتوليف (رنا صبّاغ) يُعيد تشكيلها كلّها في سياقٍ، يُثير شعوراً حقيقياً بثقل ماضٍ، وقسوة راهن، وانعدام أفقٍ.

تحتلّ سلمى النصف الأول من "بركة العروس"، قبل ظهور ثريا في منزلها وحياتها وعزلتها، والعزلة/الوحدة تهتزّان، بين حينٍ وآخر، عندما تلتقي وهيب في موعدٍ عاطفي، بعيداً عن الجميع. لسلمى حياة أقلّ من عادية: عملها في غرفة سنترال، وشراؤها مستلزمات يومية، واهتمامها بنفسها قبيل ذهابها إلى موعدها الغراميّ (في المرة الأولى لخروج سلمى في موعدها هذا، تكشف كارول عبّود شيئاً من طيبة سلمى وجمالها واستعادتها بعض مراهقةٍ وأوّل شبابٍ، وهاتان مرحلتان مليئتان بأجمل توتر عاطفيّ وصدق انفعالي)، مسائل تجعلها على تواصل مع عالمٍ خارجيّ (خارج المنزل، كما خارج ذاتها أحياناً)، يبدو أنْ لا تصالح معه، ولا مسامحة ولا مغفرة. لكنْ، هل فعلاً لا تصالح ولا مسامحة ولا مغفرة؟

عودة ثريا غير متمكّنةٍ من تبديل شيءٍ من "روتينٍ"، يتجاور الإيجابيّ القليل فيه مع السلبيّ الكثير. سبب العودة، وعدم التمكّن من التبديل، يكشفهما السردُ السينمائي، بفضل جماليةِ مُتتالياته البصرية.

"بركة العروس" فيلم حديث الإنتاج (جنى وهبي وباسم بريش و"آتيك للإنتاج" و"ميتافورا"، بدعم من "مؤسّسة الدوحة للأفلام" و"الصندوق العربي للثقافة والفنون ـ آفاق" و"المركز الوطني للسينما والصورة المتحرّكة" في باريس). إنجازه حاصلٌ بعد عامين من الكتابة، وبحث طويل عن إنتاج وتمويل. قلّة شخصياته جزءٌ من اختبار تمثيليّ يكشف براعة أداء وإدارة واشتغالاتٍ.

المساهمون