"الحدود الخضراء": نسيجٌ عميق لحكاية مُهاجرين

"الحدود الخضراء": نسيجٌ عميق لحكاية مُهاجرين

18 أكتوبر 2023
"الحدود الخضراء": أحداث مؤلمة صُوّرت بذكاء شديد (الملف الصحافي)
+ الخط -

رغم كثرة الأفلام الروائية والوثائقية التي تناولت قضية المهاجرين، أو اللاجئين غير الشرعيين، واختلاف المعالجات وتنوّعها، إلى درجة الاعتقاد أنّ الموضوع استُنفِد واستُهلِك درامياً وتسجيلياً، ولم يعد هناك المزيد ليضاف ويطرح، يُخالِف "الحدود الخضراء"، للبولندية أجنيشكا هولاند (وفقاً للنطق البولندي الصحيح)، هذا الاعتقاد، ويؤكّد عكسه، بل يمضي بعيداً في طرح أسئلة عدّة متعلّقة بإنسانيّتنا، وكيفية السماح بحدوث ما يجري، والصمت عليه، وبما إذا كنّا سنفعل شيئاً حياله، أو نواصل المُشاهدة صامتين.

في "الحدود الخضراء"، يتبيّن كيف أنّ هولاند، المخرجة المخضرمة والملتزمة، لم تفقد شغفها وهمّها وقلقها إزاء الإنسان ومصيره المضطرب، ومصاعبه المضطردة، الناجمة عن كوارث سياسية أساساً، بصرف النظر عن الزمان والمكان ولون البشرة. برز هذا في أفلامٍ مهمّة ومشهورة لها، كـ"أوروبا أوروبا" (1990)، و"في الظلام" (2011)، عن اليهود والنازية. معهما، يتقاطع جديدها هذا بمرارة وقسوة، وحتى بعبثية التجربة. بينما يتماسّ، من حيث واقعية الأحداث ودراميّتها الصادمة، مع فيلميها "تقفّي الأثر" (2017)، عن الحيوان والبيئة وقسوة البشر، و"السيد جونز" (2019)، عن أهوال المجاعة في أوكرانيا، في ثلاثينيات القرن الماضي. لذا، ليس غريباً أبداً، في ضوء تجربتها السينمائية العريضة، طرحها القوي والصادق لقضية اللاجئين، وجدّة التناول، لا سيما أنّ المطروح يمُسّ بلدها مباشرة.

هوجمت هولاند في بولندا بشراسة بعد "تقفّي الأثر"، المأخوذ عن رواية "جرّ محراثك فوق عظام الموتى" (2009) للأديبة البولندية أولغا توكارتشوك (مواليد 1962، نوبل الآداب ـ 2018). حالياً، بعد عرض "الحدود الخضراء" في الدورة الـ80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، ورغم فوزه بجائزة "لجنة التحكيم الخاصة"، تتعرّض المخرجة (1948) لحملة شعواء ليس في الصحافة فقط، بل أيضاً من ماتِوُس مورافيتسكي، رئيس الوزراء البولندي، ورؤوساء وأعضاء الأحزاب اليمينية، وغيرهم من نخبة المجتمع البولندي، وقبلهم زبِغْنياف زِيُبْرو، وزير العدل، الذي وصف فيلمها بالدعاية النازية غير المباشرة.

الأحداث مؤلمة ولاإنسانية ومؤثّرة للغاية، مُصوّرة، بذكاء شديد، بالأسود والأبيض، وبجماليات قريبة من واقعية الوثائقي وقوّته، وبأداء تمثيلي طبيعي مُقنع ومُتقن. يدور معظم تلك الأحداث في غابة "بْيَايوفيازا" الساحرة والخطرة، على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، التي أضحت، قبيل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية (25 فبراير/شباط 2022)، موقعاً مشؤوماً، ولعنة لا مفرّ منها بالنسبة إلى اللاجئين الراغبين في دخول أوروبا عبرها.

رغم درامية "الحدود الخضراء"، الآسرة والعميقة، وتأثيره المؤلم، نُسِجت الأحداث بعمق ونضج وهدوء، ومن دون مُباشرة مقيتة وميلودرامية فجّة وصوت زاعق. الأهمّ أنّها منسوجة من دون خطابية وإدانات سياسية وأيديولوجية صارخة ومنحازة. ورغم عمق الألم ومرارة المطروح، هناك شخصيات مُفعمة بالطموح، يحدوها الأمل في مستقبل جديد مشرق، رغم تكرار الفظائع والأهوال، والاكتفاء أحياناً بالرغبة في البقاء على قيد الحياة.

تنقسم الأحداث إلى فصول عدّة: يبدأ الأول في أكتوبر/تشرين الأول 2021، مع عائلة سورية مؤلّفة من بشير (جلال الطويل) وزوجته أمينة (داليا ناوس)، وأطفالهما الـ3، ووالد بشير (محمد الراشي)، المُسافرة بالطائرة إلى بيلاروسيا، بهدف التوجّه برّاً إلى السويد عبر بولندا، حيث ينتظرها شقيق بشير. في الطائرة، هناك ليلى (بيهي جاناتي أتاي)، الأفغانية التي تُدرّس اللغة الإنكليزية، والمتوجّهة إلى بولندا للإقامة مع شقيقها، الذي عمل سابقاً مع البولنديين عند تواجدهم في كابول.

قبل وصولهم إلى المنطقة الحدودية في شاحنة تهريب، واجههم حاجز تفتيش مُسلّح، سلب جنوده أموالهم. في ظلام الليل، فتحوا الحدود البيلاروسية (سياج من أسلاك شائكة ممزّقة) مع بولندا، وأجبروهم على اجتيازها. يُظهِر نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) على هاتف ليلى أنّهم، على الأقلّ، باتوا في الاتحاد الأوروبي، في بولندا. لكنّ فرحتهم لا تدوم طويلاً، إذْ ينفد شحن الهواتف، ويتوهون في الطرقات بسبب الأمطار الغزيرة المفاجئة، والوحل الكثير، والإنهاك والجوع. في بحثهم عن طعامٍ، يقبُض حرس الحدود البولنديين عليهم، وعلى ليلى. رغم مظاهر التعاطف والتسامح، في البداية، تظهر وحشيّتهم، ويتّضح أنّهم أفظع من نظرائهم البيلاروسيين. في النهاية، يجبرونهم على العودة عبر السياج الحدودي نفسه، ليقعوا، مُجدّداً، في قبضة الجانب البيلاروسي. في معسكر هناك، يكتشفون أنّهم ليسوا بمفردهم، فهناك جنسيات أخرى يواجه أبناؤها وبناتها المصير نفسه؛ وأنّهم، في الجانبين، يتعرّضون لسوء معاملة وإذلال وضرب وتجويع، والأخطر: للتلذّذ بتمريرهم عبر السياج الفاصل، وقذفهم من فوقه إلى الجانب الآخر.

 

 

في الفصل الثاني، يتمّ التعرّف إلى أفراد من حرس الحدود البولندي، تحديداً يان (توماش فلوسوك)، الجندي الشاب الذي توشك زوجته على الإنجاب. يُشارك على مضض في مأساة تعذيب اللاجئين. يتشوّه ضميره بسبب الفظائع التي يُجبره قادتُه على تنفيذها، وتُصعق زوجته عند رؤيتها ما يفعله في مقاطع مصوّرة على هاتفه، فتتعقّد علاقتهما. هنا، تحاول أجنيشكا هولاند استكشاف طبيعة هؤلاء الأفراد، وشخصياتهم ونفسياتهم وسلوكياتهم، عبر يان: هل هم ضحايا أوامر القادة، الذين يخبرونهم أنّ المهاجرين غير الشرعيين مجرّد أسلحة للرئيسين الروسي والبيلاروسي، أو إرهابيين مُحتَمَلين، وينصحونهم بالتعامل معهم كيفما اتفق، لكنْ من دون جثث؟ هل هم ضحايا الأوامر والتعليمات، أم أنّهم هكذا حقاً: مرضى لا بشر، يتلذّذون بتعذيب الآخرين؟

في الفصل الثالث، يظهر نشطاء بولنديون، متطوّعون شباب يُقدّمون الإسعافات الأولية والمشورة والنصائح القانونية، والضروريات، كالماء والطعام والملابس والأحذية وبطاريات شحن الهواتف، للمهاجرين واللاجئين غير الشرعيين. يبذلون أقصى ما في وسعهم، ويعرّضون أنفسهم لمخاطر، ولعقوبات بالسجن المُشدّد جرّاء اتّهاماتٍ بإتجارهم بالبشر. رغم إحباطهم وإدراكهم استحالة تغيير أوضاع العالقين، أو اصطحابهم إلى المستشفى، أو إنقاذ الحوامل، يبثّ وجودهم أملاً في قلوب المكلومين، ويؤكّد أنّ هناك إنسانية لا يزال يُمكن التعويل عليها.

في الفصل الرابع، تُروى حكاية جوليا (مايا أوستازويسكا)، الطبيبة النفسية التي ترمّلت قبل وقتٍ قليل، وباتت تعيش بمفردها. تنخرط مع النشطاء، بعد عثورها ذات مساء على ليلى والصبي السوري نور، الذي انفصل عن أهله وضَلّ طريقه صحبة ليلى، في مستنقع في غابة مجاورة لمنزلها. عند رؤيتها الصغير يغرق أمام عينيها، وليلى تصارع الموت، ينفجر شيءٌ ما فيها، فتنضمّ إلى النشطاء في الغابة، ما يعرّضها بدورها لمشاكل لم تتوقّعها أبداً.

مع تعاقب الأحداث، تبدأ الفصول التداخل فيما بينها، لتُشكّل لوحة جدارية متكاملة، عميقة وصادقة ومؤلّمة، تؤكّد أنّ شيطنة هؤلاء البشر وتجريدهم من آدميّتهم، وسلب حقوقهم الإنسانية، واستخدامهم بيادق في الحروب والسياسة، أمورٌ ليست جديدة، ولن تنتهي قريباً. لكنّنا إزاء حالة جديدة وشديدة الخصوصية، بولندية ـ بيلاروسية صرفة، تتمثّل في تقاذف بشر كالكرة من جانب إلى آخر، مرّات متتالية. ورغم الإدانة الضمنية لبيلاروسيا، التي غرّرت بهؤلاء للضغط على الاتحاد الأوروبي، جرّاء العقوبات المفروضة عليها، يُحمّل الجانبُ الأكبر من "الحدود الخضراء" بولندا العبءَ الأكبر، خاصة، بعد ظهور التعاطف (في ختام الفيلم) مع الأوكرانيين النازحين بسبب الحرب في بلدهم، وكيفية استقبالهم بحسّ آدميّ يُراعي إنسانيّتهم وحقوقهم، وحقوق حيواناتهم أيضاً، التي جلبوها معهم.

المساهمون