إنّهم يخشون الصدق والجمال... أليس كذلك؟

إنّهم يخشون الصدق والجمال... أليس كذلك؟

12 سبتمبر 2022
ميرفت أمين وعزت أبو عوف: حرية الخيار أهمّ من كل شيءٍ (سامح شريف/فرانس برس)
+ الخط -

صورةٌ لممثلةٍ مصريةٍ تُثير استهزاءً من عمرٍ لها، تبلغه بعد أعوامٍ مديدة من ممارسةِ مهنةٍ، تضعها في مرتبةٍ أعلى من ممثلاتٍ/ممثلين آخرين. مهنةٌ تمارسها الممثلة المصرية بشغفٍ وجهدٍ ومثابرة، مُتّكئة على جمال وأنوثة مُحبَّبين، يُعتبران تأكيداً إضافياً لمكانةٍ لها في صناعة صورة عربيّة، سينمائية وتلفزيونية. جمالها جزءٌ من حضورٍ متين لها في جماعةٍ شعبيةٍ كبيرة، وارتباطها بفصولٍ من التاريخ الحديث للتمثيل المصري تفعيلٌ لهذين الحضور والمكانة. أداءٌ حِرفيّ مهنيّ، يُحافظ على نسقٍ مطلوب في انعكاس شخصياتٍ نسائية واقعية، غالباً، في أسلوب اشتغالها.

صورةٌ لميرفت أمين تكشف قاع الهوّة الأخلاقية، التي يُعانيها اجتماعٌ مصري غير مختلفٍ، كثيراً، عن شبيهه العربي. صورةٌ تُعيد طرح سؤال مهنة التصوير الفوتوغرافي، وآلية التقاط الصُور، ومدى قبول المُصوَّر/المُصوَّرة لالتقاط صُور شخصية. صورةٌ يُقال إنّ مُلتقطها، محمد صلاح (مُصوِّر صحافي)، متلاعبٌ بها (فوتوشوب)، قبل ردٍّ ينفي فيه ذلك، مُشيراً إلى أنّه غير مُضيفٍ تأثيراتٍ خارجية تُغيّر ملامح الممثلة.

والصورة، إذْ تُحافظ على تلك الملامح الكاشفة تقدّماً طبيعياً في العمر، تُنبِّه التعليقات عليها إلى أنّ الهوّة الأخلاقية تزداد عمقاً واتّساعاً. التقاطها (مع الإشارة إلى أهمية مناقشة كيفية التقاطها، ومدى موافقة المُصوَّر/المُصوَّرة على التقاطها، من دون تناسي المكان العام، الذي يُتيح، ربما، التقاط صُور مختلفة لأغراضٍ مهنيّة أو فنية، أو لحاجة شخصية من مُعجَب/مُعجَبة) يُحرِّض أناساً على استهزاءٍ وتنمّر من صاحبة الصورة، لما في وجهها من تجاعيد تُناقض جمالاً، تنشأ أجيالٌ عدّة عليه، منذ ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته تحديداً. كأنّ التقدّم في العمر رغبةٌ شخصية، أو كأنّ عدم التستّر وراء عمليات تجميل، أو ارتداء أقنعة من أقمشةٍ وماكياج، يُتيح استهزاء وتنمّراً.

ميرفت أمين غير معنيّة بهذا، رغم أذيّة تشعر بها، تُخفيها في تعليقٍ مقتضب، يتساءل عما يُمكن أنْ يفعله مُشارك/مُشاركة في عزاءٍ، مُلمّحةً إلى أنّ العزاء واجبٌ يستدعي بساطةً شديدة في الملبس والشكل، وتجنّباً لأدوات التجميل. الصورة نفسها تقول حزناً عميقاً وقاسياً، تُعانيه أمين في عزاء علي عبد الخالق (5 سبتمبر/أيلول 2022)، والحزن مُضاعف، فهي وحيدةٌ فيه، بعد رحيل صديقتيها الأقرب إليها، رجاء الجداوي (5 يوليو/تموز 2020) ودلال عبد العزيز (7 أغسطس/آب 2021).

كأنّ الشخصية السينمائية المشهورة ممنوعٌ عليها تحرّرٌ من أقنعةٍ، وانغماسٌ في حزنٍ، وعيش مرارة الفقدان. كأنّ هذه الشخصية نفسها مُحرّم عليها المثول أمام الملأ بكامل صدقها وأناقته، رغم الأسود والألم والسعي إلى حِدادٍ من أجل راحةٍ ذاتية من وجع الموت، إنْ تحصل راحةٌ كهذه. كأنّ ميرفت أمين، وزميلات وزملاء لها في مهنةٍ، تتطلّب ظهوراً علنياً خارج الشاشات، مفروضٌ عليها تقوقعاً في زاوية، وانغلاقاً في عزلة، وابتعاداً عن حياةٍ يُفترض بها أنْ تعيشها كما يحلو لها، فرحةً أو حزينة، مرتاحة أو غاضبة. وفقط لأنّها تتقدّم في العمر. كأنّها، بحسب الاستهزاء والتنمّر، يجب أنْ تنصاع لـ"قرار" جماعة غير مرئية، تريدها أنْ تنزوي في غيابٍ يُشبه الموت، قبل أنْ يحصل الموت، الآتي لا محالة.

المستهزئون والمتنمّرون يبدون، بأقوالهم التي تعكس تردّياً أخلاقياً وثقافياً وتربوياً واجتماعياً، كأنّهم يُفضّلون خيار الكاتبة السورية غادة السمّان (إنْ يعرفها أحدهم)، المختفية كلّياً عن المشهد العام، والحجّة المتداولة تتمثّل في أنّ أحد أسباب عزلتها الصارمة (لا صُور لها منذ سنين مديدة) كامنٌ في رفضها كشف ملامح التقدّم في العمر (مواليد 1942، كما يُقال). هذا خيار ذاتي. هذا حقّ شخصي. عزلةٌ أم ظهور علني؟ هذه مسائل لا علاقة لأحدٍ بها. في حوار مع "العربي الجديد"، يُشدِّد السينمائي الياباني أيومو واتانابي على أنْ "لا أحد يحقّ له الحكم على اختيارات الآخرين" (9 سبتمبر/أيلول 2022).

 

 

لكنّ هذا لن يحول دون استهزاء وتنمّر وسخريةٍ، يبرع فيها، غالباً، أناسٌ عاجزون عن فعلٍ حسنٍ في الحياة، ومتقوقعون في الجهل والأمية. هؤلاء غير مُدركين مفهوم حرية الاختيار، المتوازي وحرية الخيال والتعبير، وهم يرفضون الحريتين. في خيار ميرفت أمين المشاركة في عزاء علي عبد الخالق، بملامحها الطبيعية الكاملة، حريةٌ موزّعة على الذاتي/الشخصي، وعلى الخيار والتعبير. ظهورها بتلك الملامح موقفٌ يُعبِّر عن رغبةٍ في كسر قيدٍ من جهل وأمية، وفي تأكيد حرية خياراتها. في قرار غادة السمّان، التزامَ عزلةٍ صارمة، كثيرٌ من حرية الخيار والتعبير، والتعبير هنا مختلفٌ، فالعزلة والانمحاء الشكلي المباشر من العالم خيارٌ يُعبِّر عن انسحاب هادئ من ضجيج الدنيا والناس، وتوقاً إلى راحةٍ ما، لعلّ السمّان غير واصلةٍ إليها كلّياً، فالحاصل في عزلتها وابتعادها خاصّ بها وحدها.

عام 2002، تظهر الإيطالية كلاوديا كادرينالي (1938) في لقطات عدّة، في "والآن... سيداتي وسادتي"، للفرنسي كلود لولوش. عمرها 64 عاماً فقط، حينها. لا شيخوخة ولا تقدّم في السنّ كبيرين، ولا شباب أيضاً. لكنّ كاردينالي غير آبهةٍ بشكلها الخارجي، فتُوافق على ظهورٍ لها بملابس البحر، التي تكشف ترهّلاً في جسمها، غير متوافق وصورتها كامرأة آسرة وممثلة ساحرة قبل أعوام. صورة تكسرها بكشفِ عُري معظم جسدها، وهذا تتنصّل منه ممثلاتٍ كثيراتٍ، بعضهنّ أقلّ جمالاً وبهاء وجاذبية منها.

للبريطانية الأميركية إليزابيث تايلور حكايةٌ. في 17 فبراير/شباط 1997، تخضع لعملية جراحية في الرأس، بعد تشخيص إصابتها بورم سرطانيّ. هذا يتطلّب حلق شعر الرأس بكامله. تواجِه تايلور محنتها الصحّية الجديدة تلك بجرأةٍ، غير مُكترثةٍ بأي أثرٍ سلبي ينتج عن ذلك. لاحقاً، تُقرّر "بيع" صُور خاصّة جداً لها، تظهر فيها حليقة الرأس، وأثر جرح العملية واضحٌ (ربما يُقال إنّها فاعلةٌ هذا لقاء مبالغ طائلة. لكنْ، أتكفي الأموال كلّها لإظهار صورة عنها، تتناقض وجمالها السابق على العملية الجراحية؟). إنّها إليزابيث تايلور (1932 ـ 2011). أهناك كلماتٌ قادرةٌ على وصفٍ حقيقيّ لجمالها؟ جمالٌ يشعّ أيضاً من الفرنسية بريجيت باردو (1934)، المعتزلة التمثيل منذ عام 1973، والمستمرّة في ظهورٍ علنيّ، بين حينٍ وآخر، من دون إخفاء ملامح التقدّم في العمر، المتناقض وجمالها الشبابيّ الباهر.

ميرفت أمين صادقةٌ مع ذاتها، وهذا كافٍ. هؤلاء جميعهنّ، وغيرهنّ أيضاً، صادقات مع أنفسهنّ، وبعضهنّ يخشى التقدّم في العمر، فيخاف كشف ملامحه علناً، وهذا حقٌّ له في خياراته الذاتية. أما المستهزئون والمتنمّرون، فموسومون بانعدامٍ أخلاقيّ، يتوافق وبؤس حياة عربيّة، في زمن الانهيارات والانكسارات والخيبات.

المساهمون