أفلام قصيرة في "أسبوع النقّاد": جمال اشتغالات وحلاوة كتابة

أفلام قصيرة في "أسبوع النقّاد": جمال اشتغالات وحلاوة كتابة

20 اغسطس 2021
"على أرضية صلبة": امرأة مشحونة بالغضب (الملف الصحافي)
+ الخط -

هل يتوافق فوز فيلمين قصيرين، يبحثان عن المرأة، ويعاينان أحوالها في بيئات اجتماعية مختلفة، بجائزتي النسخة الـ60 لـ"أسبوع النقّاد"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي، مع نزعة "أنثوية"، تتوسّع في المشهد السينمائي العالمي، وتتبنّاها اليوم مهرجانات عالمية؟

في مُشاهدة الأفلام القصيرة، أو بعض آخر معروض في الأسبوع نفسه، يكمن جوابٌ ليس بالضرورة شافياً أو حاسماً على ذاك السؤال، المعني في جوهره بتفاصيل المشهد السينمائي. مُنطلقه غير نابع من "انحياز ذكوري"، وفق الدعوة المُطالِبة بكسر هيمنة الرجل على المشهد السينمائي، وإتاحة فرص أكبر لـ"سينما المرأة".

هذا يحدث عملياً اليوم. مهرجانات سينمائية مهمّة تخصّص أقساماً جانبية للمخرجات، وتعطي مساحةً أكبر لأفلامٍ تعالج أحوال المرأة وترصدها، في جغرافيات وظروف تاريخية واجتماعية متباينة. حقل النقد يميل إلى الابتعاد قليلاً عن محيط تلك الأسئلة. يعاين المنجز السينمائي من داخله، والحاسم في تقييمه يركن إلى جمال الاشتغال السينمائي فيه، وإلى تفرّده. فيلم اليوناني مانوليس مافريس (1987)، "بروتاليا، أيام العمال" (2021، 26 د.) ـ الفائز بجائزة "كانال بلوس للفيلم القصير"، يكسر قاعدة "ثنائية الرجل والمرأة". فيه من الجمال ما يدعو إلى التأمّل في نوع الفيلم القصير، الكامن فيه من قدرات على معالجة أفكار وموضوعات تتجاوز مواصفات "الومضة الخاطفة" و"الميلودراميات المُكثَّفة". يأخذ من حياة النحل مثلاً، يقترح تطبيقه على نموذج بشري تسيطر فيه "الملكة" على "العاملات"، وتستغلّ قوة عملهنّ لتعزيز سيطرتها على مملكة يسودها قهر، يتساوى توزيعه بين الرجل والمرأة. كأنّه، في كتابته مشهد خلية النحل البشرية، يستعيد تاريخاً من مرحلة مرّت بها البشرية، وهيمنت فيها المرأة على السلطة، وترأّست مراكز قراره.

لا يقترح قراءة تاريخية وتحليلية لها، بل ينحو إلى معاينة وضع الكائن البشري فيها، والمقارِب لوضع الطبقة العاملة والمرأة في عصرنا. نساؤه العاملات يرتدن زيّاً موحداً، ويظهرن في حقول العمل كأنهنّ آلات (روبوتات)، يقمن بعملهنّ من دون توقّف. وعندما تموت الملكة، يختار ذكور السلطة واحدة منهنّ لتحمل في أحشائها الملكة البديلة. مشهد موت ملكة، واختيار نحلة لتُنجب بديلتها، مُرعبٌ في تصويره وتجسيده العنف الذكوري، المُمارَس لحظة تلقيحها. وبالقدر نفسه، تظهر قسوة العاملات لحظة ظهور علامات ضعف وهزال جسد واحدة من زميلاتهنّ، يقتضي منهنّ ـ وفق قانون "الحفاظ على النوع" ـ قتلها. لا مكان للضعيف في مجتمع قاسٍ لا يرحم. مشهد قتل النحلة المريضة لا يقلّ بشاعة عن اغتصاب النحلة "الحاملة للملكة". لن يدوم الحال، إذْ تنتفض عاملة شجاعة على واقعها، وتحرق المملكة بأسرها.

في الفيلم السويسري "على أرضية صلبة" (2021، 12 د.)، لم تمنح مخرجته وكاتبة نصّه جيلا هاسلر (1986) بطلتها أيلي (الممثلة البارعة صوفيا إلينا بورساني ـ 1991) شرف حرق مدينتها، وتخليصها من حصار يحيط بها ويُضيّق مساحات حريتها. تركتها مشحونة بغضبها، عاجزة عن إيجاد فكاك من كَرَبٍ يُلازم يومها، ويتصاعد مع كلّ خطوة تخطوها. حصارها مزدوج، اجتماعي وذكوري، والتفاصيل ـ الملتقطة ليومٍ واحد من حياتها ـ يتجسّد سينمائياً باشتغالٍ يرتقي إلى مستوى أفلام أوروبية مهمّة، تتمدّد معالجتها من الفرديّ البسيط إلى العام المُعقّد.

 

 

المشهد الأوروبي منقول بتفاصيل دقيقة، يُحيل اضطراب المرأة إلى محيط ضاغط عليها، وأكبر منها. يشكّك عنوان الفيلم (على أرضية صلبة) في قدرة بطلته على مواجهته بقوّة تماسكها الداخلي وشجاعتها. مواجهاتها اليومية تتلقّفها عدسات الكاميرا، ثم يعيد التوليف (فلوريان جيسلر) جمعها، ليوسّع بها المشهد اليومي الضاغط على امرأة "أوروبية"، التدخّل الفظّ في حياتها الخاصة يأتي من كل مكان: من رجل يطالبها بالخروج من النهر الذي تسبح فيه وسط المدينة، لأنّه "ليس حمّاماً خاصاً بها"؛ وفي الباص العمومي، يضغط مراهقون على زميلات لهم لفعل أشياء يرفضن القيام بها، فتتدخّل المرأة لوقفها بغضب؛ وفي الطريق، يسخر منها شبابٌ ويهاجمونها، لحملها على كتفها دراجة هوائية وهي تسير على حافة طريق سريعة؛ وفي البيت المشترك، تطلب منها شابّة مُقيمة معها أنْ تتوقّف عن سماع أغنيتها بصوت عالٍ.

بالصراخ المتفجّر، تُعبِّر عن غضبها ورغبتها في التخلّص من حصار خانق. زمن الحصار الأوروبي للمرأة مُكثّف، ومنقول بعدسات كاميرا محمولة (أندي فيدمر) أغلب الوقت، تقترب من امرأة سويسرية، تقف على أرضٍ أوروبية هشّة. لا مُقارنة بين أحوال الصينية والأوروبية. ذلك ما تكشفه قصّة "ليلي"، من منطقة "سيتشوان" البعيدة. شقاء عيشها متأتٍ من زواجها برجل مدمن على القمار، ومن عجزها عن مساعدة والدها المريض. قلّة الخيارات المتوفّرة لمساعدته لا تترك لها إلّا فرصة النزول إلى أقرب مدينة كبيرة لقريتها، تؤجّر رحمها لأثرياء جدد فيها، أفرزهم تطوّر الصين الرأسمالية.

"ليلي وحدها" (2021، 22 د.)، الفائز بـ"جائزة ليتز للاكتشاف السينمائي"، موجع في تجسيده الوحشة التي تعيش فيها قروية (أداء رائع للممثلة لينغ هو)، تضع جسدها مُضّطرة تحت تصرّف أطباء، يبدون لها كأنّهم أسياد عالم غامض، يُعاملون الصينيات بين جدرانه ناصعة البياض مُعاملة مكائن بشرية، لا روح فيها.

تعلن الصينية زو جينغ (1984)، في منجزها القصير الأول، عن حيف يطالهنّ، وقهر يلازم عيشهنّ في ظلّ ذكورية آسيوية شديدة القسوة. لا تُبطل معالجتها السينمائية في إطار ثنائية "المرأة والرجل" جدوى إعلان مقارعتها انتهاكاً اجتماعياً مُنظّماً، رؤيته على الشاشة يسرِّب وجعاً وقهراً، رغم كثرة ما فيه من جمال.

جمال الاشتغال السينمائي، الجامع بين الأفلام التي تناولت حال المرأة، وحلاوة كتابتها، ربما تكون أسباباً لطغيان حضورها، وفوزها بغالبية جوائز "أسبوع النقّاد 2021".

المساهمون