"لولا فسحة المترو": لوحات سينمائية حيّة

"لولا فسحة المترو": لوحات سينمائية حيّة

06 مايو 2022
"لولا فسحة المترو...": مرايا أفرادٍ تعكس حكايات وانفعالات (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

بعد عامين اثنين على تأسيسه، في شارع الحمرا (بيروت)، في الصالة نفسها الحاملة اسم "سينما متروبوليس"، منذ عام 2006، قبل انتقالها إلى مكان آخر، يُطلق "مترو المدينة" استعراضاً غنائياً ممسرحاً، بعنوان "هشِّك بشِّك"، عام 2013. تأسيس "مترو المدينة" حاصلٌ بفضل هشام جابر، وجهود له مع أصدقاء. جابر يُديره إلى الآن. يظهر في بداية الوثائقي الجديد "لولا فسحة المترو..." (2022، إدارة إنتاج: حسين غريب، بدعم من "الصندوق العربي للثقافة والفنون ـ آفاق"، 105 دقائق)، للسينمائيّ اللبناني جورج الهاشم (فكرةً وإنتاجاً وإخراجاً)، راوياً، باختصار، حكاية المترو، واهتماماته وانشغالاته، في مدينةٍ تشهد ارتباكاً في سيرتها اليومية.

الاستعراض بحدّ ذاته، المستمرّة عروضه إلى مطلع 2022 (لا تاريخ محدّداً لإيقاف العروض، فالعمل جاذبٌ لمُشاهدين عديدين)، يتحوّل إلى نواة درامية لفيلمٍ، يُفترض به أنْ يكون وثائقياً، لكنّ الهاشم يُخرجه، بأسلوبه البصريّ الممتع، من توثيقٍ لعمل استعراضيّ، إلى حكاية بيروتية، تنفتح على بلدٍ وناسه، وتروي حكايات أفرادٍ يعيشون تحوّلاتٍ قاسية، فيسردون انفعالاً وشغفاً والتزاماً واضحاً بفنّ وحياة، ويبوحون بغصّة وألمٍ وغضبٍ، وبما يُشبه انكساراً وخيبة.

التوثيق يستند إلى مفرداتٍ تقليدية: لقطات من الاستعراض، المؤلّف من 4 لوحات، تتضمّن عشرات الأغنيات والألحان المستلّة من فنّ الكباريه، المنتشر في مصر، في النصف الأول من القرن الـ20؛ لقاءات مباشرة مع الشخصيات الـ8 (مُقدّمو الاستعراض) في أمكنةٍ تعنيهم، كمنزل عائليّ، أو بلدة ريفية، أو مساحةٍ خاصة، أو في سيارة أجرة للقطة بين اثنين صديقين، إلخ. بالإضافة إلى لقطاتٍ مُصوّرة في كواليس "مترو المدينة".

لكنّ المفردات هذه غير محصورة في بناء تسجيلي، إذْ ينسج جورج الهاشم منها لوحاتٍ سينمائية، فيها صُور حيّة عن لحظات لبنانية متفرّقة، تعكس سِيَر شابات وشبان، تبدأ من طفولة أو مراهقة، وتبلغ لحظة العيش الآنيّ في مدينةٍ تذهب سريعاً إلى حتفها، إنْ لم تكن تعيش حتفها. لوحات تحرِّض على تنبّه إلى ما يُقال، وعلى تأمّل في بوحٍ يمتدّ من الذاتيّ (ذكريات أو مواقف) إلى ما يدلّ على أنماط سلوك وبيئات اجتماعية لبنانية، تنفلش على تربية وثقافة تتناقض قواعدهما أحياناً من سيرة إلى أخرى، لكنّها تتكامل فيما بينها لتحقيق مشهدٍ سينمائيّ يلتقط نبض مدينةٍ، عبر تصويره ملامح أفرادٍ يروون، بنبراتٍ مختلفة، شيئاً من تاريخ بلدٍ، بسردهم أشياء من تواريخهم.

المونتاج المعتَمَد (ساندرا فتّة) يوازن بين فصولٍ مختارة من الاستعراض الغنائي الممسرح، ومَشَاهد الشخصيات الـ8": زياد الأحمدية، بهاء ضو، سماح أبو المنى، زياد جعفر، ياسمينا فايد، روي ديب، لينا سحاب ورندا مخول. عزف وغناء ورقص تختلط كلّها أمام كاميرا (طلال خوري وجان حاتم ومارك خليفة) توحي باكتفائها بتصويرٍ عادي، قبل أنْ تكشف المُراد سرده. وهذا (المُراد سرده) غير مُكتفٍ بخبرياتٍ يرويها هؤلاء، إذْ يُحوّل جورج الهاشم الخبريات واللقطات المستلّة من الاستعراض إلى مرايا ذوات وبيئات.

 

 

التصوير يُتابع المعروض على خشبة "مترو المدينة"، ويُرافق كلّ شخصية في سيرتها ومرويّاتها وتفاصيل عدّة من أحلامٍ ورغبات وتساؤلات، تُصبح هاجساً شبابياً، في بلدٍ لا إجابات حاسمة فيه على أسئلة أساسية معلّقة. بعض تلك الأسئلة يتموضع في ثنائية الهجرة ـ البقاء؛ وفي معنى المدينة وانقلاباتها القاسية، وعلاقات ناسها بها، من خلال علاقات الشخصيات الـ8 بها؛ وفي لحظة "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، وما يُشبهها من لحظات عابرة، مليئة بنشوة انتصار وعنف خيبة؛ وفي الصداقة ويومياتها.

المدينة لن تكون واحدة، فلكلّ شخصية مدينتها أو قريتها. لن يكون مهمّاً تحديد اسم المدينة أو البلدة، فالأساسيّ كامنٌ في علاقة كلّ شخصية بحيّزها الجغرافي الحياتي الانفعالي، وبعيشها أنماط تربية تفرض سلوكاً، يُتمرَّد عليه من دون قطعٍ نهائيّ مع أهلٍ أو محيطٍ. كأنّ "الاستعراض الغنائي الممسرح" (كما في جينيريك البداية)، الجامع بين الشخصيات كلّها، مطرحاً مادياً ومعنوياً لمعاينة تفاصيل عيشٍ وتفكير، وانطلاقاً إلى أمكنة وتساؤلات ذاتية وحميمة.

هذان المطرح والانطلاق يُصوّرهما جورج الهاشم بلغةٍ مبسّطة، تحثّ على مواكبةٍ سلسة، وتنبّهٍ مطلوب إلى ما يُقال ويُروى. ما يُقال يتعلّق بماضٍ وسيرة وراهن، وما يُروى ينبثق من أسئلةٍ، لعلّ بعض الشخصيات يبلغ إجاباتٍ تُرضيه، وأخرى تحاول فهماً أعمق وأكبر للمعلَّق والملتبس.

ينتهي تصوير "لولا فسحة المترو..." ـ المُشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية، في الدورة الـ12 (4 ـ 9 مايو/أيار 2022) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية (السويد)" ـ عشية التوقّف المؤقّت لعروض "هشِّك بشِّك"، عام 2020، بسبب كورونا. في جينيريك النهاية، يُكتَب ما يعكس مشاعر الشخصيات وتفكيرها وارتباطاتها بالبلد والمسرح، وبالمُقبل من الأيام؛ بل يعكس تصوّرات صانع الفيلم وانفعالاته، أولاً. التوقّف حاصلٌ "على بُعدِ أشهرٍ من تفجير مرفأ بيروت.. في الذكرى السنوية المئة لنشأة دولة لبنان الكبير". اللاحق على هذه الجملة يقول معنى الفيلم وإنجازه، أو شيئاً ذاتياً بحتاً، أو شعوراً ما. التحفّظ عن كتابة اللاحق منبثقٌ من أولوية المُشاهدة، ومن تمتّع بمرويات وشخصيات، وبفيلمٍ سيكون إحدى الشهادات السينمائية الرائعة عن لحظة سابقة على خرابٍ وموتٍ لبنانيَّين. وربما عن أملٍ ما، مُقيمٍ في مكانٍ ما، يحجبه الآن الانهيار اللبناني الكبير.

المساهمون