"كارتر" الكوريّ وسيرة أفلام العنف الآسيوي

02 سبتمبر 2022
"كاتر": عنف تجاري مدعوم بسياق واقعي ومعلوم (الملف الصحافي)
+ الخط -

هذا بطلٌ هارب من عدوّ مُدجّج، وفي أذنه جهاز بثّ يوجّهه كأنّه "غوغل ماب": اتّجِه شرقاً. خُذْ المَخرج الأول. بعد مِئتي متر، انعطف يساراً. صوتُ عالِمٍ بمسارات الأمان. هذا في "كارتر" (Carter)، لجونغ بيونغ ـ جيل (2022).

هكذا يتوافر الهارب على معلومات لا تتوافر لمُطارديه. يجري، وتزول من أمامه الحواجز المكانية، في مَشاهد مُصمّمة ككوابيس. في كلّ شارع، هناك عدوّ ينتظره. يتبادل الهارب ضرباً شديداً مع أعدائه، ثم يهرب تحت رصاص كالمطر. مُطاردات بين الأرض والسماء. يجري ويقفز وينهض ويزحف، ويخرج سالماً من بحيرة دم. إنّها (المُطاردة) نسخة سطحية من جيمس بوند. مُطاردة تُذكّر بـ"مُهمّة: مستحيلة"، كما يُنفّذها توم كروز في أفلامه.

تشمل الوصفة، التي قدّمها "كارتر"، مُطاردات بين ديكورات سياحية، وحفل فولكلوري، ومسيرة احتجاجية، وخناجر ومناجل قصيرة، في زمن المسدسات الأتوماتيكية والهواتف الذكية. هذا عالمٌ خطرٌ، يصير فيه التفاؤل عملة نادرة.

في لحظات تَوقّف المطاردات، تقدَّم معلومات عن سياق ما يجري: مُطاردات على خلفية بحث علمي بيولوجي. ظهر وباء متحوّر، تظهر أعراضه فوراً. عالِم بيولوجي يبحث عن ابنته، كما يبحث عن دواءٍ لوباء قاتل. هناك شكوك في أصل الوباء: أهذا مرض طبيعي، أم نتيجة مؤامرة دولة؟

قُتل شخصٌ يدعى كيم في طائرة. تبدو الحبكة مُفتعلة، بغلاف سياسي، وعنف دموي. بما أنّ المُطاردات جزءٌ من صراع الكوريّتين، فالعنف مُبرّر. في هذا السياق، يُعتبر حضور صحافي أميركي ضمانةً بأنْ يعرف العالم ما يجري. في لحظة ترحيل البطل إلى كوريا الشمالية، يُنصَح بعدم الحديث إلى الصحافيين، وعدم النظر إليهم، لأنّ ذلك يُعرّض سلامته وسلامة الدولة للخطر. يُقدَّم هذا العبث بكامل الجدية، حين تكون كوريا الشمالية في الصورة. يُمكن تفسير نجاح هذا النوع من الأفلام بحقيقة السياق الذي يجري فيه.

عام 2014، اعتبرت كوريا الشمالية عرض فيلم أميركي عن زعيمها بمثابة "إعلان حرب". قلقت هوليوود، لأنّ الزعيم سيردّ على The Interview، لسيث روجن (2014)، بصاروخ. في أغسطس/آب 2022، أصيب الزعيم كيم بكورونا، فظهر جنرال يبكي، وهدّدت أخته كوريا الجنوبية. كلّ هذا العنف الفردي مزحة أمام التهديد بالفناء الجماعي. بالنسبة إلى المتفرّج، هذا العنف مُحتَمل، وقد يصير فعلياً في أيّ لحظة. يتقلّص تفاؤل البشر في هذا السياق، ويكاد ينعدم. لكنّ البطل الخيّر في فيلم جونغ بيونغ ـ جيل يُقاوم هذا العنف، وينجو.

من خلال 3 زوايا، يُعرَض تصوير العنف المنفلت والمُربح في الأفلام الكورية:

أولاً: ما مقادير الوصفة المربحة التي يعرضونها؟ التشويق والمعارك وتصوير العنف المتفلّت. تحقيقات طبية بيولوجية. للبقاء في جوّ انشغالات المتفرّج، تستثمر "نتفليكس" حالياً، وبقوّة، في كوريا والأوبئة. مُطاردة مُعزّزة بتحصيل أدلة جرمية. بطل مُطارَد، يجري بسرعة للحصول على أجوبة، قبل أن يُقتل. عنف تجاري، مدعوم بسياق واقعي ومعلوم للمتفرّج، مع سيناريوهات مكتوبة على عجل، لاستغلال معرفة المتفرّج بالسياق. عميل أميركي سابق في سورية صار يعمل في كوريا، وحصل على خبرة هائلة. هكذا يجري التحقيق في كلّ الكون، كقرية صغيرة. المطارة أشبه باستعراض سيرك جماهيري. هذه سلطة تجارية، تستثمر مخاوف الجمهور.

 

 

ثانياً: ما الذي يجعل هذا العنف المتفلّت مُستساغاً للجمهور؟ بما أنّ المتفرّج عدواني، يتماهى مع أفلام الانتقام. هذا مُربح للمنتجين. هذا عنف مُملّ. لكنْ، بما أنّه مُتّصل بكوريا، فهو عبثي ومُسلّ، لأنّه يستثمر في عداء سياسي لا شخصي. عنف يستبيح الجسد الإنساني. عنف كوري مُبالغ به، لا يمكن تخيّله في باريس أو لندن. بالبحث في الاقتصاد السياسي لهذه الفرجة، التي تُصوّر عنفاً متفلّتاً، يُشَكّ في أنْ يكون ابن الخيال فقط. هذا عنف كوري جنوبي يجد ما يُبرّره في سياق بلدٍ يقع في كماشةٍ بين الصين وكوريا الشمالية. بَلَدان تبنّيا سياسة صفر كورونا، واحتجزا ملايين البشر بطريقة لم تحدث في أيّ مكان في العالم، ويحتجزان المُعارضين في مستشفيات الأمراض العقلية.

ثالثاً: هل الأفلام الكورية مُتطابقة في العنف، أم مُبالغة به؟ يُمكن تصديق هذا العنف، الأقلّ عبثية من مشهد جنرال كوري شمالي يبكي أمام الملأ، لأنّ زعيمه أصيب بكورونا. هنا، يتجاوز الواقعُ حدودَ الخيال. يُفترض بناقد الأفلام، التي تُحقّق نجاحاً، ألّا يتجاهلها، حتّى لو لم ترقه تماماً. قال المصري صلاح أبو سيف إنّه يُمكن تعلّم الكثير من الأفلام السيئة، بينما طالب الصيني زهانغ ييمو بضرورة التمرّن على الفيلم التجاري، للتمكّن من صناعة أفلام فنية راقية.

تكشف دراسة هذه الحالات توجّهاً سينمائياً كورياً عاماً. يحضر هذا العنف في أفلام، فيها سَلَطة مواضيع وأمكنة عدّة، كما يحضر في أفلامٍ تنحت موضوعاً واحداً، وتحفر فيه بدقّة. بدأ مجد هذا العنف العبثي مع بارك تشان ـ ووك، مُقدّم العنف الكوري المتفلّت في Old Boy عام 2004، وDecision To Leave عام 2022. فيلمٌ عن مُحتَجز في قبو، وآخر عن كوميديا في مستشفى للأمراض العقلية. فيلمان تُوِّجا في مهرجان "كانّ"، لمخرج يمتلك فهماً عميقاً لسياق بلده. ظهر هذا العنف أيضا ًفي Parasite لبونغ جون ـ هو، عام 2019: حفلة عيد ميلاد باذخة، والطفل سعيد، والأكل وافر. ثم خرجت الأشباح من قبو الفيلا. فجأة، باتت الحفلة دموية. في سلسلة "لعبة الحبار" (2021)، من بين 436 متسابقاً على جائزة "صفر ديون"، قُتل نصف المغامرين في الحلقة الأولى. فاز Parasite بـ"أوسكار" أفضل فيلم، عام 2020. للإشارة: فيه محاكاة ساخرة للإعلام الكاريكاتوري السائد في كوريا الشمالية.

هؤلاء مخرجون بحسّ بوليسي عالٍ. يحصلون على جوائز الإخراج، لقدرتهم على تصميم مؤثّر لمَشاهد التحقيق والمطاردات والعنف. بالنظر إلى الأفلام المذكورة أعلاه، تتّضح سمات وقوانين نوع فيلمي مطلوب، فنّ سينمائي قابل للتصدير، وتمويل نفسه بنفسه. بهذه الوصفة، حصل المنتجون والمخرجون الكوريون على حصّتهم في المنصّات، وهم بصدد تكبيرها (الحصّة)، بفضل مهاراتهم في استقطاب المتفرّجين.

المساهمون