"الخطة 75": شرعنة القتل في اشتغال سينمائي رائع

"الخطة 75": شرعنة القتل في اشتغال سينمائي رائع

02 سبتمبر 2022
تشي هاياكاوا وتنويه خاص لأول فيلم في مهرجان "كانّ" 2022 (ستفان كاردينالي/Getty/Corbis)
+ الخط -

 

في حقب تاريخية طويلة، جعل أباطرة اليابان من أنفسهم آلهة على شعوبهم، يفرضون عليهم طاعتهم، ويُعلّمونهم عبادة شخصهم، والولاء لهم، حتّى الموت. هكذا ظهر مفهوم "عبادة الشخصية"، الآسيوي بنموذجه الياباني، الموجود إلى اليوم، مُتكيّفاً مع عصرنة متفرّدة، يبدو فيها الياباني كأنّه مُلزم بالخضوع لطرفين: الأول إمبراطوره المعاصر، المتلبّس لبوس السياسيّ، والثاني مجتمعه الصناعي وقيمه الأخلاقية.

إنّها الفكرة الكامنة في عمق "الخطة 75" (2022)، لليابانية تشي هاياكاوا (1976). أما ظاهرها، فمشروع "الموت الرحيم"، المعروض على كبار السن، لمساعدتهم على وضع نهاية طوعية لحياتهم، لأنّ السياسيين/ الأباطرة قرّروا أنْ لا جدوى من بقائهم أحياء طالما أنّهم يُرهقون موارد السلطة التي يملكونها.

صوتٌ مُنبعث من مذياع، يزفّ خبر إقرار البرلمان الياباني قانوناً، يُجيز لمن بلغ 75 عاماً التقدّم بطلب وضع حدّ لحياته. الصوت يؤسّس الحدث الدرامي، بينما تؤدّي المشاهد التي تليه وظيفتها، في عرض جانب من حياة ميتشي (تشيكو بايشو)، الشخصية التي تدور حولها حبكة سينمائية مكتوبة بعناية، لا انحيازات مُبالغٍ بها، ولا شطط سرديا يلازمها (سيناريو جيسون غري، بمشاركة المخرجة). تتمتّع ميتشي، رغم بلوغها 78 عاماً، بنشاط جسماني وتركيز ذهني، يؤهّلانها لأداء مهنتها كعاملةٍ في فندق. أيامها عادية، تمضيها وحيدة في شقتها المتواضعة، وفي العمل مع زميلاتها، اللواتي تتشارك معهنّ، في الاستراحة، قصصاً عابرة. سلوكها لا يشي برغبة في ترك الحياة عند ذلك الحدّ، الذي يعرضه المشهد التأسيسي لدراما حريصة على إبقاء النص المتخيّل عند خط تماس فاصلٍ بينه وبين الواقعيّ المُوَثّق. الحرص متأتٍ من قوّة الفكرة المتخيّلة، التي تلحّ على المشاهد بواقعيتها.

المُتغيّر الدراماتيكي في حياتها يأتي مع قرار صاحب الفندق طرد كبار السن من العمّال. ليس وحده من يطردها، فصاحب العمارة السكنية يعلن عن رغبته في استبدال المستأجرين السابقين من كبار السن بآخرين أصغر، قادرين على دفع إيجارات أكبر. بحثها، وفشلها في الحصول على عمل بديل، يكشفان جهلها بإرادة الإمبراطور/ السياسي، الذي يقرّر وضع نهاية لحياتها، ولحياة الذين يشبهونها، الذين يطلبون من دولته رعاية صحية ـ اجتماعية، تُرهق ميزانيتها. يُكلّف عبيده الموظّفين بإيجاد حلول تخلّصه منهم.

"الخطة 75" تبدو مُقنعة، وقابلة للتطبيق. في مسار يأسها واشتداد عزلتها وحشةً، تُقابل المرأةُ ـ المحاصرة بتهديدات حياتية ـ موظّفاً شاباً (هاياتو إيسومورا)، يعرض عليها مشروع موتها، مقابل مبلغ تشجيعي (ألف دولار تقريباً)، لها حقّ التصرّف به، مع خدمة رفاهية في فترة التحضير لمغادرة عالَمٍ لا تزال تشعر برغبة البقاء فيه. لكنّ خنوعها ويأسها من تأمين اشتراطات بقائها يؤجّلان الإفصاح عنه. تتقبّل، بصمت، الفكرة، وتدخل في مجازات تنفيذها.

لتوسيع المشهد، وإدخال أطراف أخرى فيه، تُقوّي متنه السردي، وتعزّز إحساساً طاغياً ببشاعة الفكرة وقسوتها، يُحضر النصُّ عاملةً فيليبّينية مُهاجرة، تعجز عن تأمين علاج ابنتها المريضة. بمساعدة آخرين، تحصل ماريا (ستيفاني أريان أشاكي) على وظيفة مُفرّغة حقائب المتقدّمين للموت، بعد انتهاء مراسم حرق جثثهم. المشهد الذي يجمع بينها وبين زميل لها، يعرض عليها أخذ بعض الأشياء المتروكة في حقائب الموتى، يُزيد من فظاعة فكرة "القتل الرحيم"، الذي يصعب عليها فهمه، مثلما يصعب على ميتشي تقبّل قساوة إجراء روتيني، يمنح المُسجّل في المشروع دقائق قليلة محدّدة، يتحدّث فيها هاتفياً مع موظّف غير مرئي، في الطرف الثاني من الخط، عن حياته ومشاعره. عند انتهاء المدّة المحدّدة، ينقطع الاتصال آلياً، ليتركها عالقة، وعاجزة عن إكمال ما تريد التعبير عنه، قبل ذهابها إلى العالم الآخر.

 

 

في الخطّ الدرامي نفسه، تدخل يوكو ـ المُكلّفة بالتواصل مع العجوز، ومنع تراجعها عنه ـ طرفاً في شأنٍ لا يتوافق مع عملها. بتقاربها مع المرأة، تتجاوز خطوطاً حمراء لوظيفتها. يليها في الظهور على ساحة الحدث الموجع عمُّ الموظّف الشاب هيرومو، المتقدّم، هو الآخر، لتسجيل نفسه ضمن الراغبين في وضع حدّ لحياتهم، رغم أنّه، كغيره من المشاركين في "الخطة 75"، لا يعاني مرضاً، وآلامه غير المحتَملة تُجيز التفكير بإيقافها، بفعل موتٍ رحيم.

التقارب الإنساني ـ الحاصل بين العم وابن أخيه، رغم طول انقطاع، وبين الموظّفة والعجوز ميتشي ـ يُفرز خرقاً واحتجاجاً على قتلٍ مُتعمّد، يساعدان هما عليه، بمباركة سلطة إمبراطور خفيّ، يعطي الأوامر، وينفّذانها، كأشباههما. جميعهم يعملون في خدمة الإمبراطور، يُسَودون الحياة بعيون كائنات ضعيفة، لا تجد إلّا في الموت نهاية لمعاناتها من عزلة وضغوط اقتصادية ومعيشية، لا تترك لهم خياراً غير الذهاب إلى مشروع، يبتكر ذرائع متفلسفة للإقناع.

لا يختار الإنسان مَقْدَمِه إلى الدنيا، لكنّه، على الأقل، قادر على تقرير نهاية حياته بنفسه. فلسفة سوداوية تُفيد توجّهاً سياسياً، يريد التخلّص من الذين ما عدوا قادرين على تشغيل ماكينته الاقتصادية. في مُنجز هاياكاوا، فعلُ إدانة يترفّع على أنْ يكون "مغامرة" أو "تشويقاً". يأتي درامياً عبر تخليص العم وميتشي من موت غير رحيم. خلاصهما فردي، لا يحلّ معضلة وجودية، لصيقة نظام اقتصادي يقوده رأسماليون، سلطتهم قادرة على استبدال "خطة 75" بأخرى، ربما أقسى منها.

لذا، كانت النهاية متحفّظة في مشاعرها، لا تُطلق فرحاً صاخباً، بل تترك الإحساس المبهج بخلاصٍ يتغلغل بهدوء في نَفْس المُشاهِد، الغارق في مشهد الموت اللاإرادي، المُجسّد باشتغال سينمائي رائع، تمثيلاً وتصويراً (هيديهو أوراتا) وإخراجاً، يضع المُنجز بأكمله بين أجمل الأفلام المعروضة في قسم "آفاق"، في الدورة الـ56 (1 ـ 9 يوليو/ تموز 2022) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، الذي يترك في نَفْس المتفرّج أثراً طويلاً، يستدعي تفكيراً بالأباطرة الساسة، الذين يقرّرون متى يُحْيون الياباني ومتى يُمِيتونه.

المساهمون