مقاربتان لاستلابات الطفولة: سلاسةٌ إيرانية ونسقٌ أسترالي مُسطّح

مقاربتان سينمائيتان لاستلابات الطفولة: سلاسةٌ إيرانية ونسقٌ أسترالي مُسطّح

02 مارس 2022
"عندما يعصف الرمان": قصة حقيقية مُنجزة بروحٍ غربيّة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

لو يجمع الزمن صدفة الصبيين إبراهيم الإيراني وهيواد الأفغاني ويحكي كلّ واحد منهما قصة حياته للآخر، لاستغربا شدّة تقارب تفاصيلها. في الواقع، لن يحدث هذا، لأنّ الأفغاني مات في قصف أميركي على حيّ سكني في كابول. "عندما يعصف الرمان" (2020)، يُخبر قصته الحقيقية، في نصّ سينمائي كتبه المخرج الإيراني، الأسترالي الجنسية غراناز موسَفي (1974)، واختارته أستراليا لتمثيلها رسمياً في جائزة "أوسكار" أفضل فيلم دولي للنسخة 94 (إعلان النتائج في 27 مارس/ آذار 2022)، لكنّه لم يحصل على ترشيحٍ رسمي. في إيران، انشغل مهدي حوسينيفاند عليبور (1966)، بجديده "كويكب" (2021)، مُلتقطاً فيه حالة إبراهيم (12 عاماً)، من الواقع، وذاهباً إلى كتابتها روائياً.

سينمائياً، المقاربة متأتية من الشخصيات الرئيسية للفيلمين، ومن الأنماط المتشابهة لعيشها. الطفل الإيراني (إبراهيم زاروزهي)، لا يعرف في حياته غير العمل. يشتغل في قريته الجنوبية الصحراوية موسماً قصيراً في قطف البلح، وفي أسابيع قليلة دليلاً مساعداً للسياح الأجانب، وفي أيام معدودة خادماً في بيت صاحب مزرعة. لا يذهب إلى المدرسة الوحيدة، القريبة من قريته، ولا وقت لديه يُمضيه مع أصدقائه. كلّ جهده مُكرّس لإعالة والدته وإخوته، بعد غياب والده في ظرف غامض وملتبس. ذهب مع أخيه الأكبر بحثاً عن عمل، وانقطعت أخبارهما.

في كابول، يجني هيواد (9 أعوام)، المتدفّق حيوية، مالاً قليلاً من بيعه الرمان وعصيره. يمضي يومه في دفع عربته المستأجَرة من حيّ إلى آخر، في مدينة لا أمان فيها. يحلم أنْ يُصبح ممثلاً مشهوراً. طيلة الوقت، يقنع بقية الأطفال المحيطين به بحقيقة ما سيكونه يوماً. يُعيل، بالقليل الذي يحصل عليه بشقاء، والدته وإخوته وجَدّته.

بساطة العيش تؤثّث المشهد المكاني للفيلمين، اللذين يختلف أحدهما عن الآخر في روحيهما.

روح "عندما يعصف الرمان" غربية. الإنتاج الأسترالي يفرض وجوده على الكتابة، فينحاز النص إلى بطولات فردية. السياق التقليدي للسرد يجعل المتوقّع حاصلاً. إقحام الموت المؤلم لهيواد، بقصف طائرة هليكوبتر أميركية خطأً، من دون تمهيد درامي كافٍ، يُبهت الموقف المراد به مجاهرة ضد الحرب. مشاهد الانفجار المدوّي، الذي يسبق موته، والذي تعرّف عبره إلى المُصوّر الفوتوغرافي الأسترالي، لم تُعزّزه. أراد صانعه به تأسيس علاقة إنسانية بين المُصوّر (أندرو كويلتي) والصبي الأفغاني (أرفات فايز). لاحقاً، يمكنه بسهولة تشييد مركزين متلازمين وجاهزيّ التكوين.

هذا النسق الكتابي المُسطّح، الكاسب جمهوراً يضعف عمقاً، مطلوبٌ في سياق حدث دراماتيكي حاصل في الواقع. الإحاطة به تُكسبه أحياناً معنى أكبر من معنى الشخصيات الفاعلة فيه. مرجعيته الهوليوودية ـ المستوفية شروطها الفنية تصويراً (بهروز بادروج)، وتوليفاً (شيما منفرد)، وعناصر فنية أخرى ـ تقابلها في "كويكب" مرجعية إيرانية أصيلة، البساطة والجمال سمتا اشتغالها السينمائي الأبرز.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

"كويكب" منتمٍ إلى إيرانيّته. الاشتغال السينمائي لمخرجه يُذكّر بأسلوب عباس كياروستمي، في "أين بيت الصديق؟" (1987) تحديداً. الجديد فيه، اكتفاؤه بـ"الحالة" الملتَقَطة من الواقع، التي يقترح العمل صوغ كتابتها سينمائياً بأسلوب حداثوي، لا إكثار في تحليله الطبقي، ولا ميل كلّياً إلى تفكيك العلاقات الإنتاجية المتورّط بها إبراهيم من دون درايته. في المشهد، المؤثِّث لمكان صحراوي في جنوب إيران، تتداخل المراحل التاريخية، وتتوزّع بين شبه صناعية وزراعية، وإقطاعية أيضاً.

من الأخيرة، يتأتّى الالتزام الأخلاقي للطفل بواجِبِ حماية أسرته، وتأمين عيشها بقوّة عمل هجين، لا يسدُّ جوعاً. عمل يشبه السخرة. كلّ مَن يحتاجه يناديه، ويطلب منه إكمال ما ينقص مشروعه من دون مقابل. اسمه يتردّد في اليوم مئات المرات. يُلبّي طلبات المنادين صاغراً.

لا يُزيّن النص (السيناريو للمخرج) شخصيتَه. يتركه كما هو، طفلاً طيّعاً، عادي الملامح، لا حُسنَ كثيراً فيها، كالتي عند بطل "عندما يعصف الرمان"، ولا عنده فصاحة لسان، ولا أحلاماً كبيرة مثله. قوّة حضور هذه الشخصية تكاد تتخطّى تكوينها الدرامي المتخيّل إلى تخوم الواقع. بوجودها، تتشكّل ملامح المشهد الريفي الجنوبي الإيراني، وتُترَك للجمهور حرية تفسير أبعاده. لا يجد ضيراً ولا تأثيراً على قراره، لو أضاف مشاهد تكشف رغبة والدته الدفينة في تعليمه، إلى جانب تفكيرها في بناء بيت بسيط في القرية، لتسهيل دخوله إلى مدرستها، وأخرى عن شرائه هدايا وأطعمة من القرية لإخوته، لا يتوفّرون عليها عادة. الوجود الهامشي للأم (غزل سوهاجاي) يشبه، في قسوته، هامشية وجود والدة هيواد الأفغاني (فريتا أَليمي). النساء في النصين يُلازمن بيوتهنّ، طيّبات ومُحبّات لأولادهنّ، وحزينات على العمل الشاق الذي ينهك أجسادهم الطرية.

السلاسة نفسها، التي كرّستها المدرسة الإيرانية، تجد تعبيراتها الأصيلة عند حوسينيفاند في تأثيثه البسيط للمكان، وفي منحه البطل حرية كافية، ليمثّل ما يتصوّره تجسيداً حقيقياً لقصة الطفل الجنوبي. المهارة الاحترافية تتجلّى في التصوير الجميل لدافود راهماني، وللموسيقى الرائعة لأريا أزمينيجاد، ولإيقاعاتها الآخذة معها "كويكب" إلى نهاية، أبوابها مُشرّعة على بدايات، بينما تُغلق خاتمة الفيلم الأفغاني الطريق على نفسها، استجابةً لرغبة في إعلان سياسي ضد احتلال، على عكس الإيراني، المنتمي إلى السينما المستقلّة، والمنشغل برصد حالة تدعو إلى تأمّلٍ في معنى الطفولة واستلاباتها الفظّة.

المساهمون