تشايكوفسكي... تلك الموسيقى التي تحدُث دائماً

تشايكوفسكي... تلك الموسيقى التي تحدُث دائماً

06 نوفمبر 2019
تساءل منتقدوه: ألم يكن الأحرى به تلحين الأغاني؟ (Getty)
+ الخط -
تحيطنا موسيقى تشايكوفسكي (1840 - 1893)، الذي تحل ذكرى رحيله الـ 126 اليوم، بصورة الرومانتيكية في ذروة تعبيرها؛ أي ذلك المزيج من الثراء اللحني والتعبير عن ذات الفنان. وبالنسبة له، لا توجد موسيقى قادرة على تحريك مشاعرنا من دون أن تتدفق من أعماق روح الملحن بتحريض من الإلهام. يتعارض تصوّره مع القواعد الكلاسيكية الملتزمة بالشكل والبناء الصارم، وإن احتفظت أعماله بالخطوط العامة للموسيقى الكلاسيكية. لكن ظلت أغراضه الجوانية تفرض شروطها على المادة الموسيقية بصورة عرّضته إلى النقد والتشكيك كمؤلف سيمفوني.

هل كان تشايكوفسكي، فعلاً، متطفلاً على التأليف السيمفوني؟ أم أن أعماله السيمفونية كانت تنتمي إلى شكل آخر؟ لاحقت تشايكوفسكي الافتراءات؛ إذ كانت موسيقاه مادةً ليست للتصنيف الموسيقي فقط، بل مادة لتأويل شخصيته.

هكذا، تحرّكت مجاهر التشريح السيكولوجي، لبثّ حياته المبهمة ودمجها باعترافات تناولتها رسائله الشخصية. عدا أن هذا الادعاء لجعل موسيقاه معرضاً استهلاكياً لسيرته الذاتية، يقحم الموسيقى بما لا تعنيه؛ فموسيقى تشايكوفسكي تُشكّل رؤاه عن العالم، وتصوّره الفني والواقعي.

تثير رسائله حساً نقدياً لا يلين أمام كبار الموسيقيين: موزارت، وبيتهوفن، وشومان، وبرامز، وفاغنر؛ إذ أبهرته عبقرية موزارت المتفردة في الدراما، وإن بدت آرياته هي الجانب الأضعف، بالنسبة له لا يضاهي موسيقي آخر موزارت، في الدراما، ليضعه إلى جانب شكسبير ورافائيل.

رغم عشقه لموزارت، لم يبدُ متأثراً به، باستثناء بعض السمات في صياغته للأوبرا. ما ألفه في الأوبرا عملان: يوجين وتوجين، وملكة البستوني، والأخيرة مأخوذة عن عمل لـ بوشكين. تتجلى براعة تشايكوفسكي في سمات مختلفة عن المؤلفين الكلاسيكيين، موزارت وبيتهوفن. وهو الجانب الذي لم يتفهمه منتقدوه، حين وصموه بالمؤلف غير السيمفوني.

من ناحيته، قلّل من قيمة أعمال شومان السيمفونية، إذ وجدها فقيرة الألوان؛ أشبه بلوحات من قلم الرصاص. عاب عليه انشغاله بالأوركسترا، وهو أمر لم يكن شومان متمكناً فيه، بينما بدا له ساحراً في مؤلفاته القصيرة على البيانو.

هذا المأخذ ظل يوصم به بالنسبة لأعماله السيمفونية، وتم الانتقاص من ثيماته، أو بالأحرى النظر إليها كأعمال تفتقر إلى الشكل والبنية الموحدة. عدا أن تشايكوفسكي استمد نقده لشومان من تصورات مختلفة. قليلون يضاهون تشايكوفسكي في التأليف والتوزيع الأوركسترالي، ثم تلويناته المفعمة بألحان أخاذة.

هناك إجماع حول تشايكوفسكي، وهو تفوّقه في صناعة الألحان. في هذا الباب، ربما برز جُل الموسيقيين، لكنها سمة غير مطلوبة في صياغة القالب. هكذا، تساءل منتقدوه: ألم يكن الأحرى به تلحين الأغاني؟ أو على الأقل الأوبرات؟ استخدم تشايكوفسكي مصادر بدائية، أي السلم الموسيقي اللحني، في مؤلفاته السيمفونية. بالنسبة للناقد والمؤلف الموسيقي والمايسترو ليونارد برنشتاين، كان يستحق الإعجاب والتبجيل لبراعته في التعامل معها. وفي تحليله لسيمفونيته السادسة "المُحزنة"، يفند برنشتاين الادعاءات حول تشايكوفسكي، مؤكداً شرعيته كمؤلف سيمفوني.

في تحليله لسيمفونية تشايكوفسكي السادسة "المُحزنة"، يستعرض برنشتاين حججه النقدية، مؤكداً شرعية تشايكوفسكي كمؤلف سيمفوني. فالصيغة الكلاسيكية تلتزم بتسلسل يجعل كل مادة لا تأتي سوى من سابقاتها، كما هو منطق السرد المتتابع، والانشغال بالترابط الثيمي. لكن تشايكوفسكي يصنع عمله السيمفوني من عالم مختلف تماماً، إذ إن كل شيء يمكن حدوثه؛ فالأساليب الشكلية التي يستخدمها تشايكوفسكي أكاديمية، وتعتمد على الخطوط العامة للأساتذة الألمان، وهو يكرّسها من أجل أغراضه الدراماتيكية والمباشرة.

بحسب برنشتاين، تبدو سيمفونيات تشايكوفسكي صنفاً آخر، مشغولة بالتباينات والمواجهات، ومتنوعة أكثر منها متحدة. إذن، هل كان المأخذ أنه وضع أغنية في العمل السيمفوني؟ هناك لحن غنائي واحد، وتحديداً في الحركة الثانية ذات اللحن الساحر في ميزان 4/5.

لكن تشايكوفسكي يستعرض الثيمة من خلال الموتيف، أو السلم الموسيقي. بنى أفكاره الموسيقية وطورها في سيمفونيته السادسة، من خلال توظيف السلالم لأغراض دراماتيكية. يقول برنشتاين إنها تصدمنا بشلالات من السلالم الهابطة والصاعدة، مع هذا يختتم أول حركة من سيفمونيته السادسة من خلال تطوير الثيمة الأولى بمقطع شبه فيغوتي، تعزفه النحاسيات. تعود السلالم، أيضاً، وتحلق في الحركة الثالثة، ذات المارش الشهير، حيث يمكننا ملاحظة إعصارها.

مع هذا، يستلهم تشايكوفسكي تلك المصادر البدائية أيضاً. يمكننا أن نلاحظ في التركيب اللحني لبعض الجمل الموسيقية لسيمفونيته السادسة (المحزنة) وجود ملامح الموسيقى الشرقية القائمة على تتابع الدرجات النغمية، لكنه يعطيها تلوينات أوركسترالية، ونسقاً من الكوردات والهارمونية. لا نستخلص من ذلك أي شكل إدانة لتشايكوفسكي البارع في التأليف الهارموني. لعله أول موسيقي يُشرع حضوره السيمفوني عبر تلك المواد الأصيلة.

من وجهة نظر برنشتاين، ليست السلالم فقط هي القوة الموحدة لعمله السيمفوني، بل توظيفه للبعد الرابع. استخدام البُعد الرابع أحد أعراف الموسيقى الأوروبية، يمنح الصوتين الموسيقيين علاقة لحنية قوية، عبر وجود أربع مسافات بين نغمتين مثل الدو والفا. يختلق تشايكوفسكي طريقة جديدة للبُعد الرابع، بوضعه بُعداً رابعاً فوق بُعد رابع. هذا العنصر يوظفه تشايكوفسكي في كسر السلالم اللحنية، ويكوّن إلى جانبها القوة الموحدة لسيمفونياته.

غير أن تشايكوفسكي في "ذكرى فلورنسا"، وهو عمل للحجرة، مؤلف لست آلات، يبدو جذلاً ومشرقاً، على غير العادة، بتآلفات بوليفونية وبصيغة الفوغ في الحركة الأخيرة. ربما أراد التأكيد أنه بارع ايضاً في صياغة الشكل. يعود في عمله إلى العناصر الموسيقية لعصري النهضة والباروك، التي تستلهم سمات المدينة الإيطالية، مع ملامح رومانتيكية. حتى في نزوعه إلى الشكل، أراد التعبير فقط.

إذا اعتبرنا انحراف تشايكوفسكي عن القالب الشكلي خطأ في العُرف الكلاسيكي لصيغة السيمفونية، فالروائي الإيرلندي جيمس جويس يرى أن الأخطاء تكون مُتعمدة بالنسبة للكُتاب الكبار، وهذا ربما كان مُتعمّداً بالنسبة لتشايكوفسكي. أي أنها أخطاء ذات أغراض يعيها المؤلف.

لا يمكن نزع تشايكوفسكي عن عصره، هو نفسه أكد في حديثه عن موزارت أن الفنان لا يمكن فصله عن ملامح عصره، سواء كان عبقرياً أو من مستوى ثانٍ. وبهذا، اعتراف ضمني لشخصيته الموسيقية المنسجمة مع الروح الرومانتيكية. لذا منح أسلوبه التأليفي صيغاً تلائم أغراضه التعبيرية والدراماتيكية.

يعتقد تشايكوفسكي أن السيمفونية الثامنة لبيتهوفن من سلم الماجور، هي الأفضل بين سيمفونياته، ممتدحاً صيغتها الجذلة، كما لو أنها تعبّر عن شيء إنساني، جذلٍ من صميم الواقع الذي نعيشه. بينما على العكس، بدا له لحن الكورال في خاتمة السيمفونية التاسعة لبيتهوفن جذلاً لا صلة له بالواقع، نموذجاً من عالم علوي لا وجود له في حياتنا.

هل كانت مرثية تشايكوفسكي في خاتمة سيمفونيته السادسة رداً على جذل بيتهوفن غير الواقعي؟ نظرته للعالم الإنساني كتراجيديا مؤلمة. هكذا أتت تسميتها "المُحزنة" من تلك الخاتمة. هل كان انحراف تشايكوفسكي عن الشكل لينتصر لأساليبه اللحنية المُعبرة عن أعماقه؟

ألف تشايكوفسكي ست سيمفونيات، مُرقمة، وسيمفونيتين أخريين، إحداهما لم تكتمل، والثانية بعنوان "مانفرد" مبنية على عمل الشاعر الإنكليزي بايرون الذي يحمل نفس العنوان، وهي أطول أعماله السيمفونية وأضخمها من حيث حجم الأوركسترا. طور تشايكوفسكي أفكاره السيمفونية بصورة متدرجة، لتأتي أعماله السيمفونية الأخيرة أكثر اكتمالاً، وتحديداً الخامسة والسادسة.

عندما سأله الموسيقي الروسي رمسكي كورساكوف عن وجود برنامج (بروغرام) في سيمفونياته، أكد تشايكوفسكي الأمر، لكنه ظل يخفي برنامجها. كتب عملاً سيمفونياً وحيداً ضمن برنامج. لم تكن السيمفونية السادسة "المُحزنة" آخر أعماله، لكنه ألفها في عام رحيله، وقدمها في سانت بطرسبورغ قبل تسعة أيام من مفارقته للحياة. أنهى تشايكوفسكي السيمفونية السادسة بحركة بطيئة أتت بصورة مرثاة، كانت جُرأة منه في التأليف السيمفوني، إذ بنى الحركة على ثيمتين لحنيتين، تتناوب وتتطور حتى تنتهي بصورة فاجعة.

لم تكن جماليتها قائمة بالنسبة للبعض للتأكيد على خصائص تشايكوفسكي الموسيقية، إنما مفتاح استقطب جيشاً من المؤولين، ومجاهر التحليل الأكاديمي، لتأكيد نظرية رحيله مُنتحراً. ربما كانت مرثاته للإنسان، وإن صاغتها بيانات ذاتية، مع أن الموسيقى، بحسب سترافنسكي، لا تُعبر عن شيء. لكن تشايكوفسكي تحدّث عن برنامج خفيّ لن يكشفه لأحد في إحدى رسائله لأخيه عن السيمفونية. ربما كان تشايكوفسكي أحد ضحايا التأويل حين يفتري على الخصائص الفنية ويعذبه في مشرحة التنقيب عن سيرة الفنان الشخصية.

المساهمون