لماذا تجنبت أميركا فرض عقوبات أكثر قسوة على روسيا؟

لماذا تجنبت أميركا فرض عقوبات أكثر قسوة على روسيا؟

26 فبراير 2024
بايدن خلال استقباله زيلينسكي بالبيت الأبيض في سبتمبر/أيلول الماضي (Getty)
+ الخط -

ملأت الإدارة الأميركية 200 صفحة بأسماء أشخاص وكيانات في دول عدة، امتدت إليهم أحدث حزمة من العقوبات ضد روسيا، وذلك عشية الذكرى الثانية لحربها في أوكرانيا، إلا أن هذه العقوبات تجنبت فعلياً الإضرار كثيراً بقطاعات حيوية في روسيا خوفاً من ارتدادات تطاول الاقتصاد الأميركي ذاته، بينما يكافح الرئيس جو بايدن من أجل الترشح لولاية رئاسية ثانية.

ومن غير المرجح أن تغير العقوبات الأميركية الجديدة، التي أُعلن عنها يوم الجمعة الماضي، واقع تمكن الاقتصاد الروسي من تجاوز العقوبات الواسعة التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها، لا سيما الدول الأوروبية، نظراً لمرونة روسيا في ساحات التجارة والتمويل العالميين.

وبعد عامين من حديث بايدن عن توجيه "ضربة ساحقة" للاقتصاد الروسي في أعقاب غزو أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، من المتوقع أن تنمو روسيا هذا العام بشكل أسرع من الولايات المتحدة أو ألمانيا أو فرنسا أو المملكة المتحدة، وفق تقارير غربية.

فقد نجا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الجهود الأميركية والأوروبية لشل اقتصاد بلاده حتى الآن، من خلال زيادة الإنفاق الدفاعي وإيجاد عملاء وموردين في آسيا ليحلوا محل الشركاء التجاريين الذين فقدهم في الغرب.

واستهدفت وزارتا الخزانة والخارجية أكثر من 500 فرد وكيان في 11 و26 دولة على الترتيب، إذ جمدت أصولهم في الولايات المتحدة وقيدت حصولهم على تأشيرات الدخول. كما أضافت وزارة التجارة 93 شركة إلى قائمة عقوباتها بشكل منفصل.

مع ذلك، بدت إدارة بايدن حذرة في ملاحقة مصادر الإيرادات التي يقول الخبراء إنها ستشل الاقتصاد الروسي، وذلك خوفاً من إثارة صدمات واسعة النطاق يمكن أن ترتد على الاقتصاد الأميركي، وفق تقرير لوكالة بلومبيرغ الأميركية.

وقال المسؤول السابق في وزارة الخزانة كيم دونوفان، مدير مبادرة فن الإدارة الاقتصادية في المجلس الأطلسي، لـ"بلومبيرغ:" "للتأثير فعلياً على روسيا، سيتعين اتخاذ المزيد من الإجراءات الاستراتيجية التي قد تكون لها آثار ضارة على الاقتصاد العالمي الأوسع... سيتعين البدء في اتخاذ قرارات أصعب وقبول ما يصاحبها من تأثيرات".

وبرزت، يوم الجمعة الماضي، قائمة مليئة بأسماء الأشخاص والكيانات الخاضعة بالفعل لعقوبات، أو من لها روابط محدودة بالنظام المالي الأميركي، ما يقلل من تأثيرها. وشملت القائمة مدير السجن الذي توفي فيه المعارض الروسي أليكسي نافالني هذا الشهر، ونائب مدير مصلحة السجون الفيدرالية.

كما استُهدفت شركة بناء السفن الروسية التي ساعدت في إنتاج 15 ناقلة للغاز الطبيعي المسال.

وتجنبت إدارة بايدن البنوك الأجنبية التي تساعد روسيا على شراء التكنولوجيا والمواد التي تحتاجها لمواصلة الحرب، فضلاً عن تجارة اليورانيوم المخصب والمعادن مثل الألمنيوم والنيكل. كما بدت حذرة بشأن فكرة الاستيلاء على الأصول السيادية الروسية المجمدة وتوزيعها رغم التلميح إليها مجدداً، إذ تنطوي كل هذه التدابير على مخاطر كبيرة.

وكتب ألكسندر إيساكوف، المحلل المختص بالاقتصاد الروسي لدى "بلومبيرغ إيكونوميكس"، في مذكرة، إن "الإعلانات الأخيرة لا تمثل سوى تشديد تدريجي لنظام العقوبات"، مشيرا إلى أن هناك تقديرات بمواصلة الاقتصاد الروسي النمو بنحو 1% إلى 1.5% العام الجاري 2024.

كما تأتي العقوبات في وقت محفوف بالمخاطر بالنسبة للحكومة الأوكرانية. فقد فشل الهجوم المضاد الذي بدأته العام الماضي في إحداث تغيير ملموس في خطوط المعركة. كما استولى الجيش الروسي في الآونة الأخيرة على أفدييفكا، جنوب شرقي أوكرانيا، وهي هزيمة رمزية مريرة.

وفي الوقت نفسه، يستمر تردد واشنطن بشأن المساعدات الإضافية، ما يضع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مأزق بالغ الصعوبة.

شركاء يشكلون نصف الناتج العالمي

ولفتت المذكرة إلى أن ما يزيد الأمور تعقيداً هو أن لدى روسيا شركاء في الصين والبرازيل ودول أخرى يواصلون شراء نفطها وشحن إمداداتها، وهذه البلدان تشكل نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

ومع وصول الحرب إلى طريق مسدود، برزت الصين، التي امتنعت عن التصويت على العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا، منقذاً لبوتين. وكثف المسؤولون الصينيون مشترياتهم من النفط الروسي بأسعار مخفضة بينما كانوا يشحنون إلى روسيا كميات كبيرة من الأجزاء الصناعية والسلع الفاخرة والمنتجات التكنولوجية. وأصبحت الهند أيضاً مشترياً متحمساً للنفط.

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

وتجاوزت التجارة البينية بين روسيا والصين 240 مليار دولار العام الماضي 2023، وهو رقم قياسي، ارتفاعاً من 147 مليار دولار قبل الحرب، وفقًا لبيانات الجمارك الصينية.

وتقوم الشركات الصينية بملء الفجوات المتبقية في خطوط الإمداد الروسية بشحنات من المعدات الميكانيكية والآلات التي تصنع أشباه الموصلات، وفقا للخبير الاقتصادي هيلي سيمولا من معهد بنك فنلندا للاقتصادات الناشئة.

في الأثناء، فإن "الغرب ليس مستعداً تماماً في ما يبدو لفرض نوع من العقوبات من شأنها أن تحدث تأثيراً كبيراً على الاقتصاد الروسي، لا سيما استهداف عوائدها من الطاقة والنفط بعقوبات قوية، وفرض عقوبات ثانوية على البنوك التي تساعد روسيا في الوصول إلى النظام المالي العالمي"، وفق ما نقلت الوكالة الأميركية عن الباحث الأول بمركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا إيدي فيشمان.

لكن مسؤولين أميركيين قالوا إنه سيكون هناك المزيد من العقوبات في المستقبل. وفي مقابلة مع تلفزيون بلومبيرغ يوم الجمعة، قال نائب وزير الخزانة والي أدييمو إن الولايات المتحدة تستكشف خيارات لاستخدام أصول تابعة للدولة الروسية قيمتها 300 مليار دولار للمساعدة في دفع تكاليف إعادة إعمار أوكرانيا.

يشير المسؤولون الأميركيون إلى أن الاقتصاد الروسي قد ضعف بالفعل بسبب إجراءاتهم الأولية، وسيشعر بمزيد من الألم من الإجراءات الجديدة التي تستهدف أكثر من 500 فرد وشركة، بما في ذلك اثنتان من أكبر 50 شركة في البلاد (سويك لإنتاج الطاقة، وميشيل لعمليات التعدين)، بالإضافة إلى أكثر من عشرين كياناً خارج روسيا ساعدت الكرملين على تفادي العقوبات، وشركة غازبروم لأنظمة الفضاء، التي تدير شبكة أقمار اصطناعية تستخدمها القوات الروسية.

كما شددت السلطات الأميركية الخناق على صناعة النفط الروسية من خلال إدراج شركة الشحن المملوكة للدولة "سوفكوم فلوت" في القائمة السوداء.

ونقلت صحيفة واشنطن بوست الأميركية عن مسؤولين أميركيين قولهم إن العقوبات المالية وحظر التصدير التي قادتها الولايات المتحدة، والتي فرضت سابقاً رداً على الغزو الروسي لأوكرانيا، جعلت الحرب أكثر تكلفة بالنسبة لبوتين، وعلى المدى الطويل، فإن هذه العقوبات ستترك روسيا أكثر فقراً وأكثر تخلفاً من الناحية التكنولوجية وأكثر اعتماداً على الدولة لدفع الاقتصاد.

لكن محللين أكدوا أن القيود المالية والتجارية لم تعجل بالانهيار الاقتصادي الروسي، كما لم تثنِ الكرملين عن المضي قدماً في الحرب، إذ بالغ المسؤولون الأميركيون في تقدير قوة العقوبات.

وقال مؤلف كتاب "الإمبراطورية السرية: كيف حولت أميركا العالم إلى سلاح" هنري فاريل إن روسيا لم تتعرض لضربة قوية كما توقع المتفائلون.

ومع ممارسة الغرب الضغوط على مدى العامين الماضيين، نجح بوتين في تحويل روسيا إلى دولة حامية، فأعاد توجيه الاقتصاد لخدمة المؤسسة العسكرية، حتى حين كان المدنيون الروس يعانون من ارتفاع الأسعار.

ويوم الجمعة الماضي، أقر نائب وزير الخزانة الأميركي والي أدييمو بأن "الوضع الحالي ليس هو ما توقعه البيت الأبيض أو حلفاؤه الأوروبيون".

تأثير العقوبات يتلاشى سريعاً

وفي غضون أيام من الهجمات الروسية الأولية على كييف، قطعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون الروابط بين البنوك الروسية والنظام المالي العالمي، ومنعوا البلاد من الوصول إلى التكنولوجيات المتقدمة، وأدرجوا الأوليغارشيين الذين دعموا حكم بوتين في القائمة السوداء. وجمدت السلطات الغربية أكثر من 300 مليار دولار من احتياطيات البنك المركزي الروسي التي كانت مودعة في حسابات خارج البلاد.

وكان التأثير سريعاً وشديداً. وانخفض الروبل مقابل الدولار وعجزت روسيا عن سداد ديونها الخارجية للمرة الأولى منذ عام 1918. وأعلنت مئات الشركات العالمية، مثل "بلاك روك" و"ماكدونالدز" و"ستانلي بلاك آند ديكر"، عن خطط للتخلي عن روسيا كدولة منبوذة.

واصطف الروس المذعورون أمام أجهزة الصراف الآلي لسحب الأموال، في حين هاجم بوتين تصرفات الحلفاء ووصفها بأنها "غير شرعية" ونقل قواته النووية لفترة وجيزة إلى حالة تأهب أعلى.

وفي اليوم الأول من الحرب، قال بايدن إنه واثق من أن الإجراءات ستكون مدمرة مثل "الرصاص والصواريخ والدبابات الروسية"، لكنها لم تكن كذلك.

فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في عام 2022 بنسبة 1.2%، وهو أقل بكثير من الانخفاض بنسبة 15% الذي توقعه معهد التمويل الدولي في واشنطن. وفي العام الماضي، انتعشت روسيا، وحققت نمواً أسرع من الولايات المتحدة.

وقال المؤرخ نيكولاس مولدر، مؤلف كتاب "السلاح الاقتصادي: صعود العقوبات كأداة للحرب الحديثة"، إن "الصدمة كانت شديدة، لكنها تلاشت مع مرور الوقت".

وقال صندوق النقد الدولي، الشهر الماضي، إنه من المتوقع أن تنمو روسيا هذا العام بمعدل قدره 2.6%، وهو ارتفاع كبير عن التوقعات السابقة، مقارنة مع 2.1% للولايات المتحدة. لقد أعادت الحرب تشكيل تجارة روسيا مع العالم الخارجي بقيمة مئات المليارات من الدولارات، بخاصة في ما يتعلق بمنتجات الطاقة والتكنولوجيا.

ولا تزال روسيا تصدر النفط بأسعار أعلى من سقف الأسعار الذي وضعته إدارة بايدن في نهاية عام 2022 بقيمة 60 دولاراً للبرميل، كما وجدت أسواقاً بديلة للفحم والغاز، بينما كانت قبل الصراع توفر نصف احتياجات الاتحاد الأوروبي من الفحم، و40% من الغاز الطبيعي، ونحو ربع احتياجاته من النفط الخام.

وتشتري الهند الآن 1.9 مليون برميل يومياً من روسيا، ارتفاعاً من لا شيء تقريباً في عام 2021، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية. كما تشتري الصين المزيد بنحو 2.3 مليون برميل يومياً، لكنها كانت عميلاً مهماً قبل الحرب.

وقالت الخبيرة الاقتصادية إيلينا ريباكوفا، نائبة رئيس السياسة الخارجية في كلية كييف للاقتصاد: "لديه ما يكفي من المال لدعم الاقتصاد ودعم الجيش" وهذا "يمكن أن يستمر لمدة طويلة".

"الكينزية العسكرية" تدير عجلة الاقتصاد

كذلك، كان المفتاح إلى القدرة الاقتصادية المفاجئة التي تتمتع بها روسيا يتلخص في إنفاق مبالغ ضخمة على الدفاع، وهو ما يسميه بعض الاقتصاديين "الكينزية العسكرية"، في إشارة إلى دعم الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز استخدام الإنفاق العام لرفع النمو.

ومع احتدام الحرب في أوكرانيا، من المتوقع أن يستهلك الإنفاق الدفاعي الروسي هذا العام 28% من ميزانية الحكومة، وفقاً لبنك فنلندا. وهذا يمثل أكثر من ضعف حصة الإنفاق الحكومي التي تخصصها الولايات المتحدة للجيش.

تعمل هذه الأموال على تعزيز إنتاج الرصاص والقنابل والقذائف للجيش الروسي، كما توفر رواتب لملايين الروس، الذين يشترون الملابس، ويأكلون في المطاعم، ويشترون السيارات، ويغذون الاقتصاد بأي شكل من الأشكال.

وقال بوتين في وقت سابق من فبراير/ شباط الجاري إنه جرى توفير أكثر من 520 ألف فرصة عمل في مصانع الأسلحة خلال 18 شهراً الماضية.

لكن تحول روسيا نحو اقتصاد الحرب لم يكن بلا تكاليف، لأن الحرب استنزفت مئات الآلاف من الشباب للخدمة العسكرية، ما ترك الصناعة الروسية تعاني من نقص العمال.

وصعد التضخم العام الماضي إلى أكثر من 7%، ما دفع البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة الرئيسي إلى 16% لتهدئة الطلب. وقد فر ما يقرب من مليون شاب روسي من البلاد، وهو ما يشكل هجرة للعقول من شأنها أن تؤثر على نمو البلاد في المستقبل، وفق "واشنطن بوست".

المساهمون