"كيانات مفترسة" (3): دمار في خلفية محلات زارا

"كيانات مفترسة" (3): دمار في خلفية محلات زارا

26 يناير 2024
+ الخط -

تتناول الحلقة الثالثة من سلسلة "كيانات مفترسة" المسارات التي أوصلت العلامة الإسبانية "زارا" إلى قمة قطاع الملابس الجاهزة عالمياً*.


ضمن مشهد حملات مقاطعة العلامات التجارية على خلفية دعمها لإسرائيل، تظهر سلسلة محلات بيع الملابس الجاهزة "زارا"  في الواجهة، رغم أن المؤسسة الإسبانية التي تتبعها، "إنديتاكس"، تؤكّد أنها لا تدعم أيّ طرف في أي صراع سياسي، سواء العربي-الصهيوني أو غيره.

ما ورّط "زارا" مع المُقاطعين مؤخراً هو حملةٌ إعلانية أظهرت دُفعة جديدة من ملابسها بين أنقاض، وهو ما رأى فيه الكثيرون استثماراً في مأساة أهل غزة  للترويج لبضاعتها. ومهما يكن من تبريرات العلامة الإسبانية، فمن الصعب ألا يفهم الناس الأمر على النحو الذي أوّلوا عليه المشاهد التي رافقت الإشهار، فالحرب في غزة تمثّل الحدث الأبرز في العالم اليوم، وهو الذي تقاس الأمور عليه. فكيف خفي ذلك على المشرفين على الإعلانات في شركة عابرة للقارات، أم أن العقل التجاري يَعمى عن كل شيء في سبيل أن يشدّ انتباه المستهلكين لما يُروّجه؟

هكذا، أتت نتيجة الحملة الإعلانية التي أطلقتها زارا عكسية. ومنذ شهر، تشتغل الماركة الإسبانية على دعاية مضادة تتنصّل خلالها من ذلك الإشهار. حذفت "زارا" الصور من موقعها وجميع صفحاتها في منصات التواصل الاجتماعي، وروّجت لكون التصوير قد جرى في الصيف الماضي، أي لا صلة له بما يقع في غزة.

قد تكون رواية "زارا" صحيحة، لكن ذلك لا ينفي ارتباطاتها بالكيان الصهيوني. ففي 2021، تعرضّت العلامة التجارية الشهيرة لحملة مقاطعة عربية بعد كشفِ تصريحاتٍ تبريرية للجرائم الإسرائيلية، وردت على لسان المشرفة الرئيسية على التصميم في "زارا" فانيسا بيريلمان، حيث اعتبرت الفلسطينيين إرهابيين يستحقون ما تفعله إسرائيل في حقهم. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2022، التقى ممثّل "زارا" في إسرائيل بمرشّح اليمين المتطرف إيتمار بن غفير من أجل دعمه قبيل انتخابات أوصلته إلى الحكومة.

من حيث تعلم "زارا" أو لا تعلم، اختزل استدعاء الأنقاض في حملتها الإعلانية الكثير من الحقائق حولها في صورة. فما وراء الأناقة التي تقدّمها لا يوجد غير دمار. ليس بالضرورة في غزة، بل في أي مكان آخر يمكن أن تدهسه في طريق الوصول إلى أهدافها.

ملابس جاهزة لإنسان جاهز

تقوم "زارا" على فكرة طوّرها رجل الأعمال الإسباني أرمانثيو أورتيغا (87 عاماً في مارس/آذار المقبل) في سبعينيات القرن الماضي. كان وقتها صاحب محل صغير لتصنيع الملابس وبيعها في إسبانيا، التي بدأت مع رحيل الجنرال فرانكو تندمج بأعلى وتيرة في اللعبة الرأسمالية المعولمة. يعرف أورتيغا أن الخطوات الصغيرة والتقليدية لا توصل إلى الثروة، فالتفت صوب أميركا كي يستلهم نموذجاً يتيح له تحقيق أحلامه. بعبارات هذه الأيام، فكّر خارج الصندوق، فوجد أن قطاع المطاعم أخذ منعرجاً في الخمسينيات منذ ظهور فكرة "الوجبات السريعة" التي جعلت منه ماكينة ضخمة لاستدرار المال. بالتالي، لا بدّ من تطوير مفهوم شبيه في صناعة الملابس؛ "الموضة السريعة".

يمرّزبائن زارا بنظام علامات مدروس يحوّلهم إلى فرائس

الهدف هو أن يشتري الناس الملابس بلا حساب. أن تفيض خزائنهم بأثواب قد لا يستعملونها أكثر من مرة أو مرتين خلال السنة، ورغم ذلك يستمرّون في الشراء. سيجدون دائماً في محلات "زارا" موضة يُسايرونها، وسيجدون أسعاراً لن يقدروا على مقاومة إغرائها. وستأتي مواسم التخفيضات بأسعار لا تصدّق فتدفعهم إلى شراء المزيد؛ شراء حتى ما لا يحتاجون. بالتالي، لم تكن الملابس المنتجَ الأهم بالنسبة لـ"زارا"، وإنما صناعة حالة الدوار التي تقود الزبائن إلى الشراء بلا حدود.

بشكل مخيف، تلتقي فكرة "زارا" مع تنظيرات المفكّر الألماني هربرت ماركوزه الذي شرح، في ستينيات القرن الماضي، كيف أن الرأسمالية تعمل على تقديم إشباعات وهمية كي توحي للكادحين أن حياتهم لا تختلف بشيء عن حياة أفراد الطبقة المهيمنة، إنها الطريقة الأنجع التي اخترعها العقل الرأسمالي لتزييت آلة الإنتاج.

بمُفردات الستينيات وعناصرها الاستهلاكية: بات يمكن لأي أحد أن يملك تلفزيوناً ملوّناً، وثلاجة مليئة بالمأكولات، وسيّارة خاصة. وحين ظهر أرمانثيو أورتيغا، أراد لهؤلاء أن يرتدوا أيضاً ما يجعلهم شبيهين بالأثرياء؛ نفس الملابس ونفس الأحذية ونفس الأكسسوارات.

ظاهرياً، يبدو الأمر مثل تحرّر من الضوابط الطبقية وإكراهاتها الرمزية والمادية، لكن ذلك في تنظيرات ماركوزه ليس سوى الشكل الجديد للقمع. وسيفرز هذا الواقع ما سمّاه المفكر الألماني بـ"الإنسان ذي البعد الواحد"؛ ذلك الذي يسخّر نفسه للعمل من أجل سعادة وهمية هي الاستهلاك، إذ يعيش هذا الكائن حرية واحدة هي حرية الاختيار بين بضائع مرتّبة بعناية؛ الجديد يُقصي القديم في دورة بلا نهاية: إغراء واختراع حاجاتٍ وبيع وشراء واستهلاك، ومن ثمّ تكديس للأرباح في جيوب أصحاب الشركات.

لا تدور تلك "الروليت" بسرعتها القصوى، كما حدث مع زارا، إلا إذا تحوّلت شرائح واسعة من الناس إلى مجرّد مستهلكين؛ ولا يكونون كذلك إلا بشرطين: تقليص فرص العقل في لجم النزوات، وقدرة شرائية تدفعهم كي يتحوّلوا إلى براغيّ في أجهزة إنتاجٍ ضخمة. بتمديد تحليل ماركوزه، فإن زارا لم تكن سلسلة محلات تجارية، بل سلسلة ماكينات لرسكلة "إنسانية جاهزة"، مكوّناتها أفراد ذوو ميولات مُصنّعة وجوع لا يشبع للبضائع التي باتت تحدّد معناهم وقيمتهم. باختصار، كانت زارا تعمل على ابتداع إنسان هندامه أهم من أفكاره. 

مونوبولي الكوكب

لكي يستوي زبائن زارا - وعشرات العلامات التجارية الأخرى - على النحو المطلوب، ينبغي أن يمرّوا بنظام علامات مدروس يحوّلهم إلى فرائس. تخيّلوا أرنباً برياً يعبر غابة، سيكون في كل لحظة فريسة محتملة؛ هناك أسد رابض حان وقت غدائه، وأبعد قليلاً فهدٌ مستلقٍ على جذع شجرة يترصّد كل حركة، ويوجد ثعبانٌ يزحف في مكان قريب، وإذا اعترض الأرنبَ نهرٌ فمن الممكن أن يخرج تمساح من الماء في أية لحظة.

تماماً كما أن لكل كائن مفترس طريقته في الصيد، فلكل شركة (مفترسة) منهجها في القنص. ولم يكن ممكناً أن تبلغ مبيعات "زارا" الأرقام الفلكية التي حققتها من دون تطوير مهاراتٍ فيها الكثير من استراتيجيات الضواري؛ من ترصّد وسرعة تنفيذ وقدرة على الحصار والبطش.

تختار "زارا" مواقع محلاتها بعناية فائقة؛ في شوارع رئيسية وفي ممرات كبرى في الغاليرهات والمولات والمحطات. وإذا كان الموقع في حد ذاته جهاز صيد، فإن عملية الابتلاع موكولة إلى الفضاء الداخلي للمحلات. من خلال الأضواء والتوزيع المكاني للكُتل، ينبغي أن يشعر الحريف (الزبون) بأنه ولج إلى عالم جديد؛ عليه أن يشعر بأنه أليس وقد أفضى بها تتبّع الأرنب إلى "بلاد العجائب"، هناك حيث مقاييس أخرى للزمان والمكان، ينتهي بحالة أشبه بالضياع في الفضاء.

منذ بداياته في مدينة لاكورونا الإسبانية، حرص أورتيغا المبتدئ على محاكاة محلات العرض التي تقدّمها الماركات الأشهر: الأضواء، المساحات، الألوان. كانت المدينة التي تقع في شمال غرب إسبانيا تمريناً جيداً للتدرّب على افتكاك المواقع. لم تكن زارا في السبعينيات أو الثمانينيات اسماً وازناً في السوق، لكن محلاتها أسطرتها، فظهرت كواحدة من أعرق علامات الموضة. 

بحث أورتيغا عن مهندسين للفضاءات الداخلية يترجمون الأفكار التي قامت عليها العلامة في سينوغرافيا بسيطة وفعّالة. ينبغي أن يفرز المكان شعوراً بالانتقال الطبقي، أن يدغدغ رغبات دفينة في تجاوز إكراهات الواقع. في "بلاد العجائب" الموجودة في كل مدينة، تستطيع أن تصرف مبلغاً عادياً لتنتمي إلى الشريحة الاجتماعية التي تريد. إنه فن تحقيق الرغبة في الوجاهة والبرستيج بأسعار مناسبة. 

أتت تلك الاستراتيجيات بأكلها، وبات على زارا أن تدخل في معارك تموقع أشرس، لكن أورتيغا لم يغيّر خطّته السحرية. كان أول محل لها خارج إسبانيا في مدينة بورتو البرتغالية (1988)، ثم  نيويورك (1989)، وصولاً إلى باريس عاصمة الموضة العالمية (1990).

في كل مرة تبحث "زارا" عن المكان الذي يوحي بأنها في موقع متقدم من سباق العلامات التجارية، ومن ثمّ بدأت تنمو الفروع الأخرى كالفقاقيع في مدن أخرى، وحين ظهرت المولات معابدَ مشيّدة للاستهلاك، سرعان ما التقطت زارا الحبل وباتت محلاتها لحظة الصفاء داخل الضجيج.

تسابقت العلامة الإسبانية على المواقع مع علامات أخرى تماماً كما في لعبة مونوبولي، وبفضل أسعارها، بدأت في التفوّق تدريجياً وصولاً إلى القمة. في الأثناء، كان أورتيغا قد طوّر هيكلة مشروعه وباتت مجموعته "إنديتاكس" تضم إلى جانب "زارا" علامات مثل "برشكا" و"مانغو" و"ستراديفاريوس"، وجميعها قصص نجاح، تبدو في الظاهر متنافسة غير أنها تخوض معارك المواقع بأسلوب العمل الجماعي من أجل اقتسام كعكة سوق الملابس الجاهزة. وفي العمق، توجد نفس الوصفة تقريباً: أعلى وهم ممكن بأقل سعر مُتاح.

حوض أسماك لتربية الحرفاء 

انطلاقاً من لغز الأسعار المخفضة في زارا مقارنة بما تقدّمه من ملابس في غاية الأناقة، قدّمت الصحافية الفرنسية فلورنس كيفر شريطاً وثائقياً عام 2022 بعنوان "الاندساس لدى العلامة رقم 1 في قطاع المنسوجات". اجتازت الصحافية دورة تدريب للمترشحين للعمل في زارا، وقد نجحت في إيجاد توظيف سريع في أحد محلات باريس (لأن زارا تتيح حلم العمل أيضاً بأيسر الطرق لمن يريده)، لتبدأ في تصوير العالم وهو يدور حول نقطة في شبكة "زارا" عبر كاميرا صغيرة مثبتة في ملابسها. 

منذ أول يوم عمل، نلاحظ اجتهاد الصحافية للإمساك بمواضع الملابس في المخزن وفي رفوف المحل، غير أنها تكتشف بعد أيام قليلة أن الترتيب المكاني للمتجر قد تغيّر بشكل لافت. تستفسر فتفهم أن تعليمات أتت من "القيادة" لإعادة ترتيب الفضاء في الليل. توضّح لها إحدى المشرفات، فتقول ببساطة: لا بد أن يشعر الزبائن الذين أتوا منذ زمن قريب بأنه يوجد شيء جديد ليشتروه. وفي الحقيقة ليس هناك جديد، فقد جرى تدوير المعروضات بإخفاء بعضها في المخازن أو نقلها إلى محلات أخرى.

مع هذا الشعور الوهمي بوجود شيء جديد تصبح كل زيارة فرصة لتحقيق "صفقة" جيدة مع زارا؛ وإلى ذلك، تضع الحملات الإعلانية الزبائن تحت الضغط أحياناً، حيث توحي لهم باقتراب نهاية مدة التخفيض أو أن مجموعة خاصة من الملابس قد صمّمت بكميات محدودة.

أرقام المبيعات الكبيرة التي حققتها زارا خلال عقود قليلة تؤكد أنها نجحت في معظم استراتيجياتها. ولقد تسارعت اللعبة التجارية أكثر، خصوصاً مع التنافس المحموم بين الماركات، وجميعها تلتقط من بعضها الأفكار وتلقي بها حيث يمرّ الناس يومياً. تحوّلت لعبتها إلى شكل كاسح من أشكال المخدرات المعنوية لا يمكن تخيّل إيقاع الحياة من دونها.

وفي الأثناء، تؤسطر "زارا" في كل يوم، بين ظهور مدروس في الإعلانات وانتقاء نجوم يحملون علامتها، وصولاً إلى استثمار شبكة المؤثرين في منصات التواصل الاجتماعي. عشرات الومضات التي تبحث عن الناس حيث هم، في الفضاءات العمومية الواقعية والافتراضية، تعمل على تدويخهم أكثر، وإرهاقهم تماماً كما يُفعل بالثيران في لعبة الكوريدا. فلا تصل اللحظة التي يغرس فيها الماتادور سيفه في لحم الثور إلا وقد سُلب هذا الأخير كل قدرة على المقاومة.

بالقيم التي تروّجها، تضمن زارا لإسرائيل آلافاً مؤلفة من الناس الذين لا يعنيهم شيء من مآسي غيرهم

ذلك هو الإنسان الذي تريده "زار"، وقد تهيّأ كي لا يفكّر إلا لتلبية حاجياته (إن كانت حاجياته حقاً). ربّته زارا ومثيلاتها على أخلاق وسلوكيات تضمن أرباحها نقداً. أرباحٌ خرافية تشير إلى أنها نجحت إلى حد كبير في تحوير المنظومات القيمية التي تحرّك الناس. نجحت في تغيير ملامحهم البشرية، وبات أسهل أن يتنكروا لأبسط المبادئ.

وعطفاً مجدّداً على الجريمة الصهيونية في غزة، قد لا تشارك زارا في دعم مباشر لدولة الاحتلال كما تدّعي، لكنها تضمن -مع مثيلاتها- لإسرائيل آلافاً مؤلفة من الناس الذين لا يعنيهم شيء من مآسي غيرهم. لا يعنيهم إلا المزيد من إشباع اندفاعهم نحو البضائع. 

غير أن الوحش الأسطوري الذي أصبحته "زارا" لم يكن يتغذّى من الحرفاء (الزبائن) وحدهم. فقبل الوصول إليهم، كان لا بد من حرق مراحل كثيرة من أجل أن يسبق كل المنافسين.

ابتلاع كل الأفكار

تحتاج شركات الأزياء في تصوّرها الكلاسيكي إلى جهد في التصميم يأخذ وقتاً، بين تأمل روح العصر، ووضع تنويعات وتحوير وتطوير النموذج الأولي، وانتظار المواسم الأنسب، ومواعيد حفلات عروض الأزياء، واختبار ردة فعل النقّاد والعارفين، ومن ثمّ التنفيذ فالتسويق. لا يهم زارا من كل هذا إلا التسويق، ولذلك فهي تقفز إليه بسرعة.

كثيرة هي المقارنات التي تضع تصاميم زارا مع ماركات أخرى فلا تخطئ العين حجم التشابهات. وكثيرة هي القضايا التي رُفعت ضد العلامة الإسبانية. منذ سنوات طويلة، تلتقط زارا كل روح ابتكارية في عالم التصميم لتلقي به في فُرنها وتسبق أحياناً أصحاب الفكرة، وفي حال جرت إدانتها، فإن الدائرة السريعة للمبيعات تكون قد غطّت أي تعويض.

إلى هذه "السرقات الصغيرة" استند أورتيغا كي تصعد "زارا" كالصاروخ. في كتاب حول سيرته وضعته كوفادونغا أوشيا، لا ينكر صاحب "زارا" استخدام أفكار غيره، لكنه يرى أن الأمر بوصفه دمقرطة للأناقة.

انتبه أورتيغا مبكراً إلى أنه يمكن الاقتباس من تلك الأسماء الأسطورية التي تصنع الموضة منذ عقود؛ شانيل وغوتشي وديور وأرماني وجيفنشي. إنها أصنام يخشى المبتدئون حتى النظر إليها، لكن أورتيغا فعل ذلك ببساطة. ولقد ساعدته تحوّلات المجتمعات في الذهاب بعيداً بفكرته، فالشرائح الوسطى وما دونها غير مرئية أصلاً من كبار المصممين، وفي الوقت نفسه، تمثل الأغلبية الساحقة التي يمكن تحويلها إلى سوق لم تخطر على بال عباقرة الموضة.

بسبب هذه الأريحية ربما، كانت زارا الأكثر جرأة في لعبة التقليد من بين مئات صناع الملابس الجاهزة الصاعدين في عقود نهاية القرن العشرين (أصبح ذلك اليوم قاعدة لدى الشركات المنافسة)، لتنتزع العلامة الآتية من مدينة إسبانية غير معروفة مكانها على خريطة الموضة العالمية وتسحب الكثير من الضوء من عاصمتي الموضة؛ باريس وميلانو.

من المثير هنا أن نعرف أن الوزير الفرنسي جان باتيست كلبير كان يحسد إسبانيا في القرن السابع عشر على ثرائها بعد اكتشاف العالم الجديد، فبدأ بدعم قطاع المنسوجات لجذب الأموال إلى بلاده، وقال: "علينا أن نجعل من الموضة ما تمثله مناجم الذهب في البيرو بالنسبة لإسبانيا". يا لها من مفارقة أن تهتزّ أعمدة بيوت الموضة الفرنسية من رجل قادم من إسبانيا بالذات.

أرمانثيو أورتيغا.. من دونكيشوت إلى كونكيستادور

بدأ أرمانثيو أورتيغا فقيراً. كان ابن عامل بسيط في السكك الحديدية، قرّر أن يغادر المدرسة في سن الثالثة عشرة، فالعائلة تحتاج إلى مداخيل إضافية. عمل في محلات ملابس كثيرة في مقاطعة غاليثيا الإسبانية. إلى هنا، يبدو أورتيغا ضحية منظومة اجتماعية تُغني البعض وتفقر البعض الآخر، لكنه كان متسلحاً بأحلام كبيرة مثل دونكيشوت، أحلام الثروة لا أحلام الفروسية. يحلم بتسلق السلم الاجتماعي، وكانت رياح إسبانيا وقتها مؤاتية لتلك المغامرة.

وهو في محلات بيع الملابس التي يشتغل فيها، لم يبحث أورتيغا عن امتلاك أسرار الخياطة كبقية إخوته، بل فكّر في فهم كيف تنمو التجارة وتزدهر. وفي عمر الثلاثين تقريباً، أنشأ محلاً خاصاً لبيع الملابس باسم "غوا". كانت إسبانيا قد دخلت عصر الانفتاح الاقتصادي، وأصبحت المظاهر الاجتماعية تشكّل ضغطاً جديداً على الناس، وسيجدون عند أورتيغا حاجياتهم.

ترك العمل على قِطَع الملابس الأساسية من سراويل وقمصان للمحلات القديمة، وقرر أن يتخصّص بداية في الملابس التي ترتديها النساء في البيوت تخفيفاً للمنافسة التي يمكن أن تذهب بتجارته وعودها الطري. ومن ثم أخذ يحفر لإيجاد مناطق مجهولة في السوق، وكلما اكتشف طلباً كرّس جهود الورشة لتلبيته. 

هكذا اختصر أورتيغا الطريق إلى أهدافه. كان يهمه الربح، تحديداً الطريق الأقصر نحو الربح. وقد فهم أنه ليس من الضروري أن يكون مبدعاً أو عارفاً دقيقاً بالصنعة، فقط عليه أن يُحسن تحويل كل الأشياء إلى أموال، حتى تلك التي لا يمتلكها: الأفكار، الموهبة، الذوق، العلاقات...

وإذا كان أورتيغا قد نجح في خلق حالة تعطّش دائم للشراء عند الحرفاء، فعلى الأرجح أنه قد فهم نزعات عميقة في نفسه، في النفس البشرية التي تنفتح شهيّتها إلى المزيد دائماً، ومن أسرار نجاح زارا أن مؤسسها قد بثّ فيها هذه النزعة البشرية حيث تختزن العلامة جوعاً رهيباً للتطوّر والتمدّد. إنها تعبير مكثف للروح الرأسمالية في علامة.

لم يهدأ أورتيغا مع نجاح زارا، فقد اخترع لها مجموعة "إنديتاكس" لتدعمها وتؤطّرها، وقد وقفت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على قمة قطاع المنسوجات. وبعد أن اطمأن على تماسك إمبراطورية الأزياء، التفت إلى استثمارات أخرى في السياحة والطاقة. وفي 2013، كان أرماثيو أورتيغا ثالث أثرياء العالم بحسب التقرير السنوي لمجلة فوربس.

بين طفولته والعقد السادس من عمره، صعد الإسباني حرفياً من القاع إلى القمة. حقّق دونكيشوت أحلامه لكنه في مسار صعوده أعاد سيرة الغزاة الإسبان في الأراضي المكتشفة في قارة أميركا، فلا شيء يمكن أن يعترض طريقه نحو تنفيذ مشاريعه، ولو اقتضى الأمر تدمير ما هو موجود واستبداله بما يخدم تصوّراته ومستقبل مشروعه.

في 2011، أعلن أورتيغا أنه تقاعد تاركاً إدارة الإمبراطورية التي أسسها لمقربين منه. تقاعد رجل الأعمال الإسباني، لكن الآلة الجهنمية التي اخترعها لا يستطيع أحد اليوم أن يوقفها، تشبه آلة القصف الإسرائيلي المنفلت في غزة من وجوه عديدة، وكلتاهما لا تصنع إلا الدمار وكلتاهما تنكره.

تحويل القطن والمجتمعات

تماماً مثل أي خيّاط، وقبل أن يبدأ في التنفيذ، وضع أرمانثيو أورتيغا بالقرب منه كل ما تحتاجه خطته. وكما تأتي الأرباح من بيع المنتجات على أوسع مدى ممكن، تأتي أيضا من الضغط على التكلفة. فكيف تبيع وهم الملابس الفاخرة بثمن زهيد وتكون رابحاً؟ تلك هي المعادلة التي حلّها أورتيغا.

كمعظم قصص ثروات الجبابرة، تقوم إمبراطورية رجل الأعمال الإسباني على النصف المظلم من المبادئ الليبرالية، فبعيداً عن الأفكار الذكية والخطط الدقيقة، لا تأتي فرصة التفوّق إلا لمن يستغلون أكثر ويلوّثون أكثر. وكما في بداياته في إسبانيا، سيجد أورتيغا رياحاً مؤاتية في مغامراته البعيدة، فُبنية الاقتصاد العالمي تيسّر الطريق أمام الوحوش، بل تفرشها لهم قُطناً.

تستفيد الشركة الأم إنديتاكس من مسالك تضرب عميقاً في التاريخ، بحيث حفرت علاقات اقتصادية تعثّر تغييرها منذ قرون حتى باتت تبدو من طبيعة الأمور. فمنذ تأسيس الأوروبيين مراكز تجارية في الشرق، بدأ تكييف زراعة القطن كي تخدم صناعة المنسوجات الإنكليزية خصوصاً، وكان تحقيق أرباح في لندن يعني بقاء أسعار المادة الأولية زهيدة.

تحررّت الهند من الاستعمار البريطاني منتصف القرن العشرين، لكن لن ترتسم تغيّرات جوهرية في تبادلات القطن؛ لا تزال زراعته تعتمد العمل اليدوي للفلاحين الصغار في البنجاب وراجستان وغوجارات. يُكرّس هؤلاء حياتهم وعائلاتهم لزراعة القطن، ثم يبيعون ما قطفوه بأثمان زهيدة في سوق القرية لوكلاء ينقلون القطن إلى مصانع في بلدان أخرى، وهناك يُستغل العمّال لتحويله إلى قماش بأقل تكلفة ممكنة، ومن ثمّ يصل إلى "زارا" وأخواتها منتجاً جاهزاً لم يبق سوى أن تضع عليه السعر.

بفضل هذه الآلة الكوكبية، تعفي زارا نفسها من كل جهد التصنيع، مبقية فقط على عدد من المصانع التابعة لها في أوروبا لضرورات التفاعل السريع مع السوق، وهناك تراعي كل شروط قانون العمل والمتطلبات الإيكولوجية. بهذا تكون قد نأت بنفسها (أو هكذا توهمت) عن كل تورّط في الوجه البشع للحضارة الصناعية من استغلال للبشر وتدمير للطبيعة.

لا تحتاج زار لتأمين سير العمل سوى أن ترسل مندوباً إلى بلد من "العالم الثالث" ليتفق مع أحد أصحاب المصانع هناك. ولن يستطيع هذا الأخير أن ينفذ مهمة تخفيض تكلفة الإنتاج إلى أقصى درجة سوى على حساب العاملين (ساعات عمل أكثر، ظروف عمل مرهقة، عمالة أطفال...)، وعلى هذا النحو، تتم الصفقة على اتجاهين: تُصدَّر البضائع جاهزة من الجنوب إلى الشمال، وفي الاتجاه المعاكس تصدّر كل هموم الصناعة وأوساخها إلى البلاد الفقيرة.

تحصد زارا الأرباح تاركة شروخاً اجتماعية حادة في البلدان التي تعاملت معها. سيكون ضمير أرمانثيو أورتيغا مرتاحا، ذلك أن استغلال العمّال لم تمارسه زارا، وإنما صاحب المصنع تجاه مواطنيه. وبهذه الصفقة أيضاً، تُدمّر صناعة المنسوجات في البلدان الفقيرة وبالتالي تتهيأ لتكون سوقاً جديدة لزارا.

من هذه الزاوية، يمكن أن نرى الخراب الذي حلّ بطموحات التصنيع العربية. في قطاع المنسوجات تحديداً، لننظر في ما حدث من نزيف لمواطن الشغل في المحلة الكبرى في مصر أو تحويل وجهة التسويق في مصانع قصر هلال في تونس، وقد مثلت هذه التجارب خلال عقود ماضية فرصاً حقيقية لنهضة تصنيعية، وكانت قاطرة للتحرر الاقتصادي، ثم أصبحت حبلاً من حبال التبعبة للغرب.

وإلى هذه التكلفة الاقتصادية أضف جنايات لامعدودة في حق البيئة. ويا له من تباين حين نضع أبهة محلات زارا حذو المصانع الصغيرة التي تمدّها ببضاعتها، حيث التلوّث والرثاثة والاستغلال، وجميعها جرائم تغض طرفها عنها الدول، خوفاً من المزيد من البطالة. كل شيء يخدم زارا في النهاية.

خوارزميات زارا المدرّبة على القصف

أثناء الجولة الطويلة التي يأخذها منتج زارا الجديد حتى يُعرض في أحد محلاتها في مدينة أوروبية بأسعار زهيدة، تكون زارا قد أعدّت حملتها الترويجية بعناية. ستختار اللحظة المناسبة للدفع بمنتجها إلى الواجهة، وتختار السعر الذي لا يقبل المنافسة. وأيضاً، سترفع أسعار منتجات أخرى، أو العكس قد تأتيك بأسعار زهيدة لا يصدّقها العقل. وما ذلك الفارق بين السعر المعقول للقطعة وأثمانها الزهيدة إلا نتيجة خطايا الجولة الكوكبية.

ليست زارا وحدها من يتبع هذه الخطة. فهكذا تشتغل أيضاً منافساتها مثل بريمارك، وجينيفر، وشيين... ولقد باتت هذه الماركات مندسّة في كل شيء منذ أن التقطت حبل الهوس بمواقع التواصل الاجتماعي، فشيّدت فيها المصائد مثل خيوط العنكبوت، وباتت الأجهزة الاتصالية تمارس هرسلتها الناعمة على الناس في كل مكان وزمان. كان الإنسان معرضاً للقنص حين يعبر الفضاء العام، وبات اليوم هدفاً لقناصة العلامات التجارية حتى وهو في سريره.

كل ما يحدث فرصة بالنسبة لهذه الماركات لتمرير إعلاناتها: الأحداث الرياضية مناسبة لتمرير مجموعات بعينها، والصيف يحتاج ألواناً خاصة، ولفترة أعياد الميلاد موضتها، وكذلك العطل المدرسية. حتى التعبير عن الحب، في عيد الحب، يمرّ عبر "زارا" ومثيلاتها، وعيد الأمهات كذلك.

بعد ذلك، كيف نستغرب أن تكون الحرب ومآسي الناس فرصة تسويق؟ قد لا يكون إعلان زارا بين الأنقاض إلا محاولة أخرى لاستعمال أي شيء جاهز للظهور. بتنا نعرف أن هذه الشركات قلوبها خاوية، تتحرك مثل الآلات بخوارزميات جاهزة، لكننا نكتشف أنها باتت على درجة من الثقة بأنها تستطيع إقناعك بأي شيء تريده.

لكن، يحدث أن تصطدم زارا بحقائق غير التي رسمتها. ها هي تصطدم بأناس لا يزالون يفكّرون بغيرهم، تصطدم بمن لم يصبحوا على شاكلة "الإنسان ذي البعد الواحد". رافعو دعوات مقاطعة زارا لجرائمها البيئية، ومشاركتها في استغلال العمّال في العالم، ومستنكرو إعلاناتها بين الأنقاض هم أولئك الذين لم يتشيأوا ولم يطبّعوا مع الأوهام، لكنهم ليسوا أغلبية للأسف.

 

* جزء من سلسلة مقالات بعنوان "كيانات مفترسة" تتناول الشركات العملاقة، نشأتها وصعودها وارتباطاتها المباشرة أو الضمنية بإسرائيل.

المساهمون