دولة قطر والمستقبل

دولة قطر والمستقبل

07 يناير 2021
العاصمة القطرية، الدوحة ترسم لوحة من الحداثة بمبانيها الجميلة
+ الخط -

دفعني الشوق والحنين للسفر إلى دولة قطر، لأكون مع أكبر أبنائي وأحفادي وزوجة ابني، فقد تسببت كورونا في تباعدنا مدة فاقت السنة بثلاثة أشهر. وقد أمضيت فترة أسبوع أنعم بضيافة ابني وزوجته، مُحاطاً برعاية الأحفاد الذين لا يتردّدون في إظهار شوقهم إليك، حتى يستفرق اهتمامهم إما متابعة لبرنامج تلفزيوني أو لعبة على جهاز الآي باد، أو وظيفة مدرسية.

وقد أتيحت لي الفرصة أن ألتقي بعدد من الشخصيات القطرية ممن يعرفهم ابني، ومن مسؤولين ممن عرفتهم في أثناء خدمتي العامة الطويلة في الأردن. وفي أثناء الحديث معهم، ركّزنا على موضوعات تتعلق بالوضع الاقتصادي في دولة قطر، بعد أكثر من ثلاث سنوات على ما يسمى الحصار الاقتصادي أو المقاطعة الاقتصادية لدولة قطر من أربع دول عربية، المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات، ومملكة البحرين، وجمهورية مصر.
وتجولت في أنحاء مدينة الدوحة وأسواقها، ونظرت إلىوالمصانع والجامعات الحديثة. وتأملت في الخدمات الرقمية الذكية، وراقبت الأطفال وهم يلعبون في المشروعات الترفيهية على شكل تلالٍ ومساقط مياه، وحديقة حيوان، ورياضات بحرية، وساحات في المناطق السكنية الجديدة والحديثة. وزرت مباني جامعة قطر والجامعات الدولية العريقة التي أقامت فروعاً وتخصّصات لها تضاهي في مستواها ما هو متقدم في دولة الجامعة. وزرت بعض المباني المدرسية، ونظرت إلى التسهيلات المقدّمة فيها للطلبة، وغيرها من الوسائل المتاحة. وقابلت رجال إعلام محليين وعرب، ومستثمرين أجانب، وخرجت من هذه الجولة بحصيلة وافية من الأفكار والانطباعات والاستنتاجات.

نظراً إلى سن الأمير، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، فإنك ترى فيه رجلاً حازماً، له رؤيته عما يريد من بلده أن يكون استمراراً لما بدأ به والده الأمير الوالد حمد بن خليفه آل ثاني. وترى أخاه الأكبر الشيخ جاسم غير الراغب في الأضواء يعمل بصمت ليل نهار، ويحيط نفسه بكوكبةٍ صالحة من الخبراء والعاملين بإخلاص، وترى وزير الخارجية، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، يعمل بجدّ وإجادة، ومتابعة استباقية ولاحقة للأحداث في زمن التغيرات السريعة.
ماذا صنع الحصار لهم؟ لقد ذكّروني بالمثل الإنكليزي الذي يقول "عندما تشتدّ الأمور، فإن الشديد ينطلق". لقد بدا أن هؤلاء الشباب أولياء الأمر قد حرّكتهم التجربة، فخرجوا منها كاسبين للثقة بالنفس، وأنهم قادرون على تجاوز المحن والأزمات. وزادت قناعة الشعب القطري بأن قيادته الشابة تدير الدفة باقتدار، حتى عندما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

أما رجال الأعمال القطريون، فمعظمهم يجمع بين الحصافة الإدارية والمالية، ويخطّط للمدى الطويل. قال لي أحدهم، يحمل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد والأعمال من الولايات المتحدة، إن ما يخطط له للمستقبل يعتمد على أمرين هامين: الأول أن الشركات الأسرية لا تعمّر طويلاً، وأنها وإن دامت لا تدوم أكثر من جيلين أو ثلاثة، وبعدها ينفرط عقدها. الثاني أنه أرسل أولاده إلى الخارج لكي يتعلموا اللغات، ويفهموا ثقافات الدول التي سافروا إليها، وتعلموا أسرار إدارتها. ولذلك ضَمِنَ صاحب العمل أن أولاده سوف يعملون بجد للحفاظ على المنشأة الأسرية، ويعمّقون جذورها في الأرض، ويكونون متفاهمين غير راغبين في تقسيم الشركة.
وعلمت منه، ومن رجال الأعمال الأجانب والمواطنين، أن الكل يعمل في مناخ داخلي آمن، لا مفاجآت فيه، ولا نقضَ للاتفاقات، ولا تنمّرَ من القطاع العام عليهم، أو من المواطنين ضد الأجانب، ولكن مخاوفهم من التهديدات الخارجية تراجعت، على الرغم من رغبتهم في زوالها، وبخاصة الحصار الاقتصادي الذي يشكل نوعاً من القيد على حرية حركتهم، وعلى تواصلهم مع أقربائهم وأصهارهم وأصدقائهم في الدول المجاورة.
ورأيت أن مدينة الدوحة التي زُرْتها للمرة الأولى عام 1971، ولَم يكن فيها أيام ذلك سوى بنى تحتية محدودة، ومساحة معمرة صغيرة، قد تحولت إلى حاضرة توفر للقاطنين فيها الكثير من أسباب الراحة لهم ولأولادهم. وَمِمَّا لفت نظري أن الشباب القطريين والذين عانى بعضهم من السمنة والبدانة وهم أطفال، قد صقلوا أجسامهم بالتمرين والرياضة. وبالنسبة لأطفال اليوم، لغتهم العربية ليست على ما يرام، وثقافتهم الحديثة في مجال الألعاب الرقمية، ودنيا الحواسيب والمصطلحات الحديثة، غنية جداً. ولعل الدولة بحاجة إلى أن تعيد إلى التعليم قدرته على التجسير بين الأصالة والمعاصرة.
وبالنسبة للجاليات غير العربية، فإن العاملين أعمالاً يدوية أو خدمية يجنون دخلاً جيداً بالمقارنة مع ما يمكن أن يحصلوا عليه في دول أخرى، ولكن معظمهم يجد مستوى تكاليف المعيشة مرتفعاً في دولة قطر. ولهذا فإن التركيبة السكانية في دولة قطر، خصوصا بعد انتهاء موسم كأس العالم عام 2022، ستكون مرشّحة للتغيير، وكذلك الأولويات الاقتصادية.
ويقول لي رجال الأعمال، المواطن منهم والوافد، إن أعمال التعهدات الإنشائية ربما تتوقف سنوات، خصوصا في مدينة الدوحة، ولكن الخدمات كالصيانة، والبرمجة، والذكاء الاصطناعي، والهندسة المالية، والمعلوماتية، والاستشارات الحديثة، والترجمة، والتعليم المدرسي والجامعي، وغيرها من الخدمات المتطورة في مجالات الصحة والرعاية الطبية ستستولي على المشهد.

وعند الحديث عن قناة الجزيرة، فإنهم رأوْا أنها اكتسبت كثيراً من المشاهدة بعد الحصار، وخلال أيام كورونا، وأن مواقفها من الأحداث الجارية في الوطن العربي قد جعلتها ليست مرجعاً للمشاهد العربي وحسب، بل وللمشاهدين في العالم. ويتوقعون أن يزدهر الإنتاج الإعلامي في دولة قطر إلى حدود كبيرة جداً؛ بحيث تستطيع الدولة أن تمنح قناة الجزيرة مرونةً أكبر من أجل ألا تبقى مطلباً وشرطاً للمصالحة الخليجية. أهل قطر يدافعون عن قنوات الإعلام الحديثة ذات التفاهم مع دولة قطر، ويرون أن قطر قد استفادت منها من النواحي السياسية والأمنية. وكما قال توماس فريدمان في كتابه الشهير "سيارة الليكسيس وشجرة الزيتون"، لقد أصبحت دولة قطر بفضل الجزيرة دولة مدعومة دولياً (Internationally super -empowered). 
خلاصة الحديث إن دولة قطر فيها قضايا جدلية، وستبقى كذلك. ولكن الأهم أن المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني دافع للحلول الخلاقة والبناء لمستقبل طويل الأمد.

المساهمون