على الرغم من الوعود الحكومية بإنهاء هيمنة ما يُعرف بـ"المكاتب الاقتصادية" التابعة للفصائل المسلحة، وتقليص نفوذها في محافظة نينوى شمالي العراق، إلا أن تلك المكاتب لا تزال تمارس دورها في الكسب المالي غير المشروع عبر طرق جديدة، ومن خلال الاحتيال على القانون.
محافظ نينوى الجديد عبد القادر الدخيل تحدث في آخر تصريح له العام الماضي عن هيمنة المكاتب الاقتصادية التابعة للأحزاب والفصائل على أنشطة المؤسسات الحكومية في نينوى، وقال: إن "العديد من المسؤولين في نينوى متعاونون مع تلك المكاتب، ويمهدون لها الطريق للدخول بالمزايدات والاستيلاء على المشاريع والمحال والأراضي".
لكن محافظ نينوى لم يأتِ بالشيء الجديد، فالمكاتب الاقتصادية للفصائل المسلحة تفرض السيطرة على الأنشطة المالية والاقتصادية في الموصل ومحيطها منذ استعادة المدينة من سيطرة تنظيم داعش عام 2017، وزادت أنشطتها تباعا وأصبحت تدار عبر وكلاء محليين من نينوى، لإبعاد الشبهة عن الفصائل بعد التهم الموجهة إليها بالتورط في هذه الأنشطة.
لم تقف أنشطة المكاتب الاقتصادية على الفصائل المسلحة، فالأحزاب السياسية المتنفذة تمتلك جميعها مكاتب اقتصادية، لكنها تختلف عن مكاتب الفصائل من حيث النفوذ والانتشار والمجالات التي تنشط فيها.
أنشطة المكاتب الاقتصادية
تتولى المكاتب الاقتصادية التابعة للمليشيات التي تنشط في عموم محافظة نينوى أعمال تهريب وسرقة المشتقات النفطية، إضافة لعمليات استغلال للكبريت من حقول المشراق، كما تفرض نسبا على الأرباح الخاصة بجميع المعامل المنتجة في نينوى وفي مقدمتها معامل الإسمنت، كمعامل إسمنت بادوش وحمام العليل وسنجار.
كما أنها تسيطر على مقالع الحصى والرمل في حوض نهر دجلة بشكل كامل عبر فرض إتاوة مالية على أصحاب المقالع، إلى جانب الاستيلاء على أملاك تابعة للوقف السني، منها عمارات ومحال تجارية، بحسب ما يفيد مصدر مسؤول في ديوان محافظة نينوى.
ويقول المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته لـ "العربي الجديد": إن "العديد من المشاريع السياحية، كمدن ملاهي الأطفال والمطاعم الكبيرة والمولات التجارية ومعارض بيع السيارات وقاعات الأعراس، تدفع للمكاتب الاقتصادية، أو لها أساسا نسبة منها، وهناك تقاسم للفصائل المسلحة بما يشبه الاتفاق بينها داخل نينوى".
وبحسب المصدر، فإن "أبرز الفصائل التي تفرض نفوذها الاقتصادي في الموصل هي "عصائب أهل الحق وحركة النجباء وكتائب سيد الشهداء وفصيل بابليون بقيادة ريان الكلداني وحشد الشبك المعروف باسم اللواء 30 بقيادة وعد القدو، وبعض الحشود العشائرية من مناطق جنوب وغرب الموصل".
أما المكاتب الاقتصادية للأحزاب السياسية "فهي تنشط في مجال العقود وإحالة المشاريع من قبل المؤسسات الحكومية التي تخضع لسيطرتها، فالمؤسسة التي تحيل المشروع أو تتعاقد على أمر ما، تكون نسبة العائد من عمولة المشروع أو العقد للجهة السياسية التي تدعم مدير تلك المؤسسة".
ويشير المصدر إلى أن المكاتب الاقتصادية للفصائل تنشط في الاستيلاء على عقارات الدولة وأملاك خاصة، لا سيما التي تعود لمسيحيين ومسلحين من داعش، من خلال أذرع لها في دائرة التسجيل العقاري، وهو ما تسبب بوقف العمل في طابو أيسر الموصل قبل عامين لعدة أشهر.
الاستيلاء على العقارات والنفط
الباحث المختص بشؤون محافظة نينوى نوزت شمدين آغا يقول لـ"العربي الجديد: إن "أنشطة المكاتب الاقتصادية، لا سيما التي تتبع للفصائل المسلحة، لا يستطيع أحد وقفها ابتداء من رئاسة الوزراء وانتهاءا بمحافظ نينوى، وذلك لأن سلطة هذه الفصائل أقوى من الدولة نفسها".
وأضاف أن "دليل ذلك أن الكثير من المسؤولين المحليين في نينوى وجهت إليهم تهم بالفساد وبعضهم جرت محاكمته، كالمحافظ الأسبق نوفل العاكوب، لكن الفصائل لم يجرؤ أحد على محاسبتها رغم تورطها بعمليات الفساد".
ويضيف شمدين آغا، الذي أنجز سابقا تحقيقات بشأن الاستيلاء على الأملاك في نينوى أن "ملف العقارات يعد مسرحا لعمليات وأنشطة المكاتب الاقتصادية للفصائل منذ العام 2017".
وبيّن أن هيئة النزاهة الاتحادية فتحت التحقيق بـ2888 عقاراً جرى الاستيلاء عليها في نينوى من قبل الفصائل والعصابات العقارية، مشيرا إلى أن تلك الفصائل نجحت في بيع آلاف الأراضي بعد تغيير جنسها في التسجيل العقاري.
ويؤكد أن تلك الفصائل تورطت أيضا في الاستيلاء على عقارات تابعة للدولة، من خلال دخولها شريكاً خفياً في أعمال الجمعيات الخاصة بتوزيع وبيع الأراضي الزراعية في السنوات الماضية. وبخصوص أنشطة الفصائل ومكاتبها في عمليات تهريب المشتقات النفطية في نينوى.
ويؤكد مصدر محلي في بلدة القيارة أن عمليات سرقة وتهريب وبيع النفط ومشتقاته من قبل الفصائل المسلحة لا تزال مستمرة.
وفي وقت سابق، كشف محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي عن أن "مجموع ما نهب من حقول نجمة النفطية جنوبي الموصل فقط خلال السنوات الخمس الماضية، وبعد استقطاع كل التكاليف والمصاريف، تجاوز 3 مليارات دولار"، ما يعادل 5.5 تريليونات دينار عراقي، وهي مجموع ما خصص لنينوى في موازنات عديدة طيلة السنوات الأربع الأخيرة.
وبحسب النجيفي، فإن "هذا المبلغ الذي أصبح في جيوب المكاتب الاقتصادية للفصائل يكفي لإنشاء 5 مستشفيات سعة 400 سرير داخل مدينة الموصل و10 مستشفيات 100 سرير في الأقضية والنواحي، ومطار بسعة مليون مسافر في السنة، وما لا يقل عن 500 مدرسة ومشاريع أخرى".
وبات ملف الاستثمار في نينوى هو الآخر بابا جديدا للفساد، إذ أكد نواب من نينوى تورط هيئة الاستثمار في المحافظة بتمرير صفقات ومشاريع يشوبها الفساد، من دون محاسبة أو متابعة من الجهات الرقابية، بالرغم من تقديم شكاوى بذلك.
لا قدرة على المواجهة
من جهته، يرى الباحث السياسي وعضو جمعية العلوم السياسية في جامعة الموصل مصطفى العبيدي أن محاربة المكاتب الاقتصادية لن تنجح من دون وجود إدارة حقيقية لدى حكومة بغداد.
ويوضح في حديث مع "العربي الجديد" أن ما تحدث به محافظ نينوى عن المكاتب الاقتصادية لا يعدو كونه تصريحات إعلامية، مبينا أن المحافظين السابقين كانوا على دراية بأنشطة المكاتب الاقتصادية للفصائل والأحزاب، لكن لم يجرؤ أحد على وقف أنشطة تلك المكاتب، مؤكدا أن الأمر بالنسبة للمحافظ الحالي شبيه بالفترات السابقة، ولن يكون للدخيل القدرة على مواجهة تلك المكاتب التي تمتلك النفوذ السياسي والسلاح والمال.
الباحث الاقتصادي عمر الحلبوسي يرى من جانبه أن المحافظات المنكوبة خسرت المليارات بسبب المكاتب الاقتصادية التي تفرض الإتاوات على المقاولين والمستثمرين، وحتى على الدولة نسباً تدفع إجباريا عن كل مشروع، ما تسبب في نهب المليارات وتعطيل المشاريع فضلا عن تعطيل تقديم الخدمات".
يؤكد الحلبوسي في حديث لـ "العربي الجديد" أنه لا توجد أرقام رسمية عن حجم الخسائر التي تكبدتها نينوى جراء هيمنة المكاتب الاقتصادية، لافتا إلى أنها نشرت الفساد المالي وتسبب بكوارث ليست مالية فقط، بل بشرية ومنها جريمة حادثة العبارة التي كان طرف رئيسي فيها مكتب اقتصادي يتبع لأحدى المليشيات في نينوى.