تجددت مخاوف المصريين من انزلاق البلاد نحو أزمة مالية على غرار لبنان، في ظل توجه عدد من الشركات المحلية والدولية إلى فرض الدولار في تعاملاتها مع الجمهور على شراء السلع والخدمات، من بينها خدمات النقل والطيران والإنترنت والسيارات والعقارات والأراضي.
يحذر خبراء من اندفاع غير محسوب نحو "دولرة" للاقتصاد على غرار الحاصل في لبنان حيث الإفلاس والانهيار الشاملين، مؤكدين خطورة أن تتحول العملة المحلية إلى مجرد أوراق ملونة بيد المواطنين في ظل سيادة الورقة الأميركية الخضراء على تعاملات قطاعات حيوية بالدولة.
يدفع شح الدولار الحكومة المصرية إلى جمعه بأية وسيلة، لذا منحت حائزيه مميزات عند شراء الأراضي بالمدن الجديدة والعقارات الفارهة، وأخيرا سمحت لمن يملكه بإدخاله إلى البنوك العامة من دون التحقق من مصادره، ومن دون حد أقصى، بما يعرض التصنيف الائتماني للبنوك الوطنية للتراجع، لعدم التزامها بالضوابط الدولية لمراقبة غسيل الأموال.
توسعت شركات عقارية ووكلاء سيارات دوليين في بيع منتجاتهم خلال الآونة الأخيرة بالدولار. كما تجري بعض الشركات عمليات البيع تحت ستار البيع للأجانب والمقيمين بالخارج، وأخرى تبين اتخاذها الدولار كوحدة معاملة مالية، مع حق المستهلكين في الدفع بالدولار والجنيه. في جولة لـ"العربي الجديد" ي أسواق السيارات والعقارات، رصدت تراجعا في الحديث عن الأسعار بالجنيه، وسط مخاوف من تراجع قيمته باستمرار أمام العملات الصعبة.
يظهر رجال الأعمال عدم ثقة واضحة بالجنيه، مع غموض رؤية حكومية حول مستقبل الاقتصاد، واستمرار شح العملات الصعبة، وعدم توافر الدولار بالبنوك، رغم تعدد وسائل إغراء المواطنين على توجيه مدخراتهم من العملة الصعبة إلى البنوك، وتعهد الحكومة مرارا بحل الأزمة.
ولجأت شركة "أوراسكوم للتنمية" إلى تقييم أسعار البيع بالدولار واليورو، وفقا لأسعار الصرف المعلنة مقابل الجنيه، مبررة ذلك بأن نسبة كبيرة من عملائها من الأجانب. وأعلنت شركة السادس من أكتوبر للتنمية والاستثمار "سوديك" بيعها وحدات عقارية فاخرة بالدولار أو العملات الصعبة، بعد استحواذ شركة "الدار العقارية"، المملوكة للصندوق السيادي لحكومة أبوظبي، على 86% من أسهم الشركة مطلع العام الجاري.
وبررت "سوديك" قرارها بأنها تستهدف البيع للأجانب المقيمين في مصر، الذين لا يملكون حسابا محليا بالجنيه، والعملاء من خارج البلاد، وأن الأمر غير ملزم بالنسبة للمصريين. وفي السياق، حصلت "سوديك" على 6 ملايين متر مربع من أراضي هيئة التنمية العمرانية التابعة لوزارة الإسكان، على مدار 20 عاما، في مدينة الشيخ زايد والعاصمة الإدارية والساحل الشمالي، بمبالغ تتراوح ما بين 20 جنيها إلى 1500 جنيها للمتر.
أما شركة "إعمار مصر" الإماراتية فقد تراجعت عن بيع وحداتها بالدولار، بعد ضغوط من الدولة، إثر إعلانها في وسائل الإعلام الربيع الماضي عن طرح مشروعاتها المستقبلية بالدولار.
قال مدير الشركة مصطفى القاضي، في بيان صحافي، إن الدولار يستخدم مقياساً لضبط الأسعار مع التكلفة، أسوة بما هو متبع مع عقود المقاولات لشراء مواد البناء وعلى رأسها الحديد والنحاس والمعادن والأخشاب.
يتراوح سعر الدولار في السوق العقاري والسيارات مقابل الجنيه ما بين 38 و40 جنيها في العقود القابلة للتنفيذ الفوري، و46 جنيها بالعقود الآجلة.
ويتعرض الجنيه لسحق مستمر أمام الدولار والعملة الصعبة، في ظل انخفاض تحويلات المصريين بالخارج، وقلة التدفقات الدولية، وتراكم الديون الخارجية، وزيادة العجز بين الصادرات والواردات، وتوجه الأموال الساخنة خارج السوق المحلية، عقب ارتفاع الفائدة على الدولار والعملات الرئيسية، أدت إلى خروج نحو 22 مليار دولار دفعة واحدة في مارس 2022.
يشير محللون إلى أن تباطؤ عمليات البيع للعقارات ورفع الشركات العقارية من برنامج دعم الفائدة التي كانت تحت رعاية الدولة خلال السنوات الماضية، مع زيادة معدلات الفائدة بالبنوك، وتراجع قيمة الجنيه، تؤدي إلى تمسك المطورين العقاريين بحساب التكاليف بما يعادل الدولار، ورغبة البعض في الحصول على الدولار من المصريين العاملين بالخارج مقابل تسهيلات في الدفع أو تخفيض قيمة العقار.
تضع الشركات معدلات التضخم الأساسي في حساباتها، عند تحديد أسعار السلع المستوردة ومواد البناء والسيارات، لرسم سياساتها المالية لفترات مقبلة.
يرتفع التضخم بمعدلات سريعة منذ مارس/ آذار 2022، وقد بلغ مستويات غير مسبوقة منذ إبريل/ نيسان 2023، حيث فاق 40% على أساس سنوي، وزاد إلى 41% في يونيو/ حزيران الماضي. علماً أن القطاع العقاري يشكل نحو 23% من الناتج المحلي.
من جهة ثانية، تنفي شركة "تويوتا مصر" عزمها على بيع منتجاتها من السيارات بالدولار، في اتجاه معاكس لما تتبعه منذ توقفها عن تسليم سيارات نقل جماعي "ميكروباص" في يونيو 2022، بسبب التراجع المفاجئ في قيمة الجنيه، وفرض قيود على الواردات ورفع قيمة الجمارك. لجأت تويوتا إلى مطالبة العملاء الدفع بالدولار في الحجز المستقبلي، ولتسليم الحجوزات القديمة، أحيلت الخلافات إلى المحكمة الاقتصادية التي ألزمت "تويوتا مصر" بتسليم السيارات المدفوع ثمنها بالكامل، قبل فترة التعويم للجنيه، وعرضت الشركة إعادة مستحقات باقي الحاجزين، مقابل زيادة 10% عن المبالغ المدفوعة.
وكانت شركة "تويوتا مصر" أعلنت، في مارس/آذار الماضي، عن حجز سياراتها بالدولار، للمقيمين بالخارج والاستفادة باستيراد سياراتها من دون جمارك، من منافذها الموجودة في المنطقة الحرة بالقاهرة.
وضعت "تويوتا مصر" أسعار فئتين من سياراتها للبيع مقومة بالدولار، وتبعتها كافة شركات السيارات، التي ترفض تحديد السعر النهائي للسيارة، مؤكدة في قوائم الأسعار المعلنة داخل المعارض أن الأسعار المعلنة غير نهائية، على أن تحدد ساعة تسليم السيارة وفقا لسعر الصرف المعلن للعملات الرئيسية. سار أغلب وكلاء السيارات على نهج تويوتا، لمواجهة التراجع الكبير في حجم المبيعات، واستمرار فرض القيود على ورادات السيارات، دفع بعض مصانع التجميع المحلية إلى التوقف، لعدم قدرتها على شراء مستلزمات الإنتاج من مصانعها الرئيسية بالخارج.
يشير موزعو سيارات إلى إمكانية شراء السيارات من المناطق الحرة بالدولار، من الشركات التي لديها حصص تصديرية تزيد عن 60% من إنتاجها، مع إمكانية توجيه 40% من الإنتاج إلى السوق المحلية. يؤكد أعضاء في شعبة السيارات باتحاد الغرف التجارية أن أزمة الاقتصاد وتقلبات السوق المحلية ستظل موجودة لحين توافر عملة تسمح باستيراد مستلزمات الإنتاج، والسلع الأساسية ومن بينها السيارات، لحين توفر الدولار واختفاء مخلفات الأزمة المالية العالمية، المستمرة منذ 4 سنوات.
استغلت بعض الشركات ثغرات قانونية لفسخ عقود البيع والتوريد، عقب تدهور الجنيه، وارتفاع تكاليف الاستيراد والتشغيل، أدت إلى تظاهر مستهلكين أمام مقر مبيعات شركات "تويوتا" وداخل تجمعات سكنية، ووصلت الخلافات إلى الجهات الأمنية والمحاكم.
وقال عضو غرفة المطورين العقاريين محمد البستاني، لـ"العربي الجديد"، إن بيع العقارات أو السيارات بالدولار أمر غير مقبول نهائيا، لأننا في بلد يمر بأزمة اقتصادية، يأتي شح الدولار على رأس أزماتها، وتفضيل أي عملة أخرى في التعاملات داخل البلاد يضعف قوتها ويزيد الأزمة تعقيدا.
أضاف البستاني أن الشركات العقارية والمنتجة أو كلاء وموزعي السيارات يجرون تعاملاتهم بالجنيه، لافتا إلى أن البيع بالدولار أمر مجرم، يمنعه القانون، وتحرمه الشعبة، لما له من أخطار شديدة على العملة الوطنية.
ويؤكد البستاني أن أسعار البيع تظل مقومة بالدولار، لاعتماد العقارات الحديثة وسوق السيارات على شراء مكونات الإنتاج وقطع الغيار من الخارج، مبينا أن الدولار سيظل المرجعية الأساسية في تسعير كافة المنتجات، سواء أكانت سيارات أم مواد بناء ومستلزمات إنتاج صناعية وزراعية مستوردة، أم خدمات قائمة على معدات تشترى من السوق الدولية.
كما أشار البستاني إلى وجود 12 مليون وحدة سكنية مغلقة، وفقا للإحصاءات الرسمية الصادرة منذ 5 سنوات، مبينا ضرورة العمل على التوسع في تسويقها، والتزام الدولة بخطة واضحة لتنفيذ المشروعات الجديدة، تضمن عدم تضارب المشروعات، لتوفير الدولار اللازم لشراء مكوناتها، في أخرى بديلة تخدم الاقتصاد.
ولجأت شركات الخدمات والتسويق والتجارة الإلكترونية الدولية إلى رفع أسعارها مقومة بالدولار، عقب إلزامها بدفع ضريبة القيمة المضافة على تطبيقات التجارة الإلكترونية، اعتبارا من يوليو/ تموز الماضي، بنسبة 14% عن الخدمات أو السلع التي تقدمها لمستفيدين داخل البلاد.
تتوقع وزارة المالية أن تصل قيمة الضريبة على تلك المنتجات إلى 1.5 مليار جنيه خلال العام المالي الجاري 2023- 2024.
يدعو الخبير الاقتصادي رائد عطار إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ضد الجهات التي تفرض الدولار في تعاملاتها مع الجمهور محليا، مؤكدا أن التساهل مع "دولرة الاقتصاد" يدفعه إلى هوة خطيرة.
وقال عطار لـ"العربي الجديد" إن الحكومة يمكنها أن توفر الدولار عبر سماحها بحرية أوسع لشركات الصرافة في التعامل ببيع وشراء الدولار والعملات الصعبة، بما يمكنها من جذب الأموال المخزنة في البيوت، ويوفرها للمصانع والجهات الحكومية الباحثة عن العملة الصعبة.
وأشار عطار إلى قدرة تلك الشركات على توفير الدولار في أزمات أشد وطأة على الحكومة في ثمانينيات القرن الماضي، مكنتها من تدبير الدولار لشراء احتياجات الحكومة من السلع الأساسية، والمحافظة على وجود الدولار للموردين من خلال شركات الصرافة.