بعد إعلان وزير التربية والتعليم المصري رضا حجازي تأجيل بداية العام الدراسي، تنفست منال حسين الصعداء. فالسيدة التي جاءها النبأ أثناء جولتها في سوق الموسكي الشعبي، وسط القاهرة، لشراء ملابس وحقيبتين لولديها بالمرحلة الابتدائية (8 و11 عاما)، وحاجتهما من الأقلام وعلب حفظ الأطعمة، ظلت حائرة لساعات.
جاءت منال إلى سوق اشتهر في السنوات الأخيرة بتوفيره مستلزمات المدارس الحديثة بأرخص الأسعار، تتعدد فيه المنتجات، يأتي أغلبها من الصين وماليزيا وإندونيسيا، وسارت على خطاها مئات الشركات المصرية أخيرا.
جذبت الأسعار الرخيصة والتنوع في الأذواق الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل، إلى السوق المتداخل مع أسواق الأزهر والعتبة وحمام التلات، ومع تصاعد موجات الغلاء، وانخفاض قيمة الدخول وتدهور الجنيه، عرفت الطبقة المتوسطة طريقها بكثافة إلى المنطقة.
موسم دخول المدارس يعد الأكثر إنفاقا في حياة الأسرة المصرية، وينافس الأعياد الدينية في قيمة النفقات، لدرجة أصبحت الأسر تربط حساباتها طوال العام به، من خلال الادخار والقروض أو انتظار تحويلات ذويهم العاملين في الخارج.
عندما قرأت منال خبر تأجيل الدراسة، على رسالة عبر الهاتف الجوال، توقفت لبرهة أمام البائع الذي كان يساومها على بيع حقيبة مدرسية بسعر 350 جنيهاً (18.2 دولارا)، تعلم أن سعرها في العام الماضي لم يكن يتجاوز 150 جنيهاً، أخبرته بأنها لن تشتري الآن، فربما تنخفض الأسعار، بعدما أجلت الحكومة دخول الطلاب للمدارس.
أصيب البائع بحالة من الارتباك، لأنه يريد أن يتخلص مما لديه من حقائب على وجه السرعة. فالأزمة المالية التي أصابت المستهلكين ورفعت الأسعار ما بين 60% و100% منذ بداية العام الحالي للأدوات الكتابية والمدرسية، أدت إلى صدمة في نظام تداول السلع، بين المصانع والتجار والموزعين، ويتحمل المستهلك جميع أوزارها، كما يقول إبراهيم عبد الرحيم، البائع بعطفة العربي في سوق الموسكي.
الحكومة أوقفت استيراد جميع الأدوات الكتابية ولعب الأطفال ومنها الأدوات المدرسية، ووضعتها في قائمة الواردات الترفيهية
يتطلع عبد الرحيم لإتمام البيعة مع "منال" بالسعر الذي ينشده دون جدوى، وفي النهاية يستسلم لما أرادت، حيث أصرت على اقتطاع 80 جنيها دفعة واحدة.
يقول: مكسب قليل وسريع أفضل من العودة إلى الأولاد بدون مال، فالتجارة أصبحت في أهم أسواق مصر الشعبية تمر بأزمة ثقة.
ويضيف: "لقد توقف التجار الكبار عن منح الموزعين فرصا ائتمانية على البضائع التي نطلبها، وكل واحد منا لا يستطيع الشراء إلا نقداً لما يحتاج إلى بيعه يومياً، ولذلك بعت الحقيبة أقل من سعرها المطلوب، كي أضمن الحصول على رأس المال المدفوع بها، مع هامش ضئيل جداً من الربح، وأحصل على منتجات غيرها بقيمة رأس المال المدفوع".
اعتقدت منال، أثناء دخولها إلى محل كبير لبيع ملابس المدارس والحقائب والهدايا، أن قدرتها على المساومة ستمكنها من الحصول على فرص أفضل في الشراء، وبعد اختيارها لحافظة أغذية، قيمتها 50 جنيها، حاولت تخفيض سعرها، فرد عليها التاجر بعبوس شديد: اتركيها في مكانها، فهناك من سيأخذها غدا بأفضل من ذلك.
أبدت السيدة تبرمها من عدم قبول التاجر، الذي اعتاد في السابق على تقديم تخفيضات لكل من يدخل محله، كما تقول. وكلما زاد معدل الشراء يرفع قيمة الحسومات، كما يزيد من الهدايا لأصحاب المكتبات الصغيرة والموزعين الذين يأتون إليه أفواجا من الأقاليم.
بدا المحل، الذي لطالما لا تجد فيه موطئ قدم في موسم دخول المدارس، قليل الزحام، فسألناه: لماذا فقدت بشاشتك وصبرك على المشترين؟! رد التاجر الكبير بأسى: الأمر كما تراه، غلاء فاحش من حولنا في كل شيء، لم نصنعه بأيدينا، فالحكومة أوقفت استيراد جميع الأدوات الكتابية ولعب الأطفال ومنها الأدوات المدرسية، ووضعتها في قائمة الواردات الترفيهية، والمصانع المحلية لا يمكنها إلا المشاركة في صناعة الملابس والحقائب لذوي الدخول البسيطة، ومن لديه بضائع مستوردة لا يفرط بها بسهولة، لأنه لن يعوضها إذا ما باعها بسعر زهيد.
يبرر التاجر السيد المرشدي توقفه عن منح تسهيلات لصغار الموزعين بأن المصانع المحلية امتنعت عن تسليم التجار أي بضائع إلا نقدا، لأن الحكومة تطلب منها سداد ثمن مستلزمات الإنتاج بالدولار، ومع عدم استقرار قيمة الجنيه، انتشر عدم اليقين بين الجميع في ما سيأتي خلال الأيام القادمة. فاليوم الدولار يزيد عن 19 جنيها، ونسمع أنه سيزيد انخفاضا، فعلى أي أساس يقيّم الناس بضائعهم؟!
لم يتوقف الغلاء عند طلبات الدراسة التي أضحت عبئا تنوء به الرجال، فهناك ضربة قاضية وجهها تجار الكتب الخارجية لأولياء الأمور، بعد زيادة أسعارها بنسبة 100%
يفسر المرشدي الارتفاع الجنوني في الأسعار بأنه نتيجة طبيعية لوقف الاستيراد وعدم وجود بدائل للسلع المستوردة، مع ضعف قدرة الإنتاج المحلي على تدبير بدائل سريعة ومقبولة شكلاً وسعراً، ورغبة كل طرف في تعويض قيمة السلع التي اشتراها بقروض أو ائتمان زادت كلفته مع تراجع الجنيه.
تبدأ منال في مراجعة حساباتها لمصروفات المدارس، أسوة بما تفعله أمهات 26.2 مليون تلميذ ملتحقين بمراحل التعليم العام والفني، قبل الجامعي، وفقا لإحصاءات جهاز المحاسبات لعالم 2020/ 2021 يزيدون بنسبة 3.8% سنوياً، يلتحقون بنحو 68 ألف مدرسة ومعهد أزهري، يدرس لهم 1.17 مليون معلم.
تتلفت منال حولها في عطفات السوق الضيقة والبعيدة عن النواصي، لعلها تجد أسعارا أقل. بخبرتها البسيطة، اكتشفت أن الأسعار تتغير كل أسبوع، ولا تكتب على السلعة، بل تعرفها عند الدفع أو التفاوض على قيمتها.
ووجدت انقساماً بين البائعين، فهناك من يبيع سلعا رخيصة مستهدفا الطبقات الشعبية التي زادت عن أسعار العام الماضي بنسب تراوح ما بين 40% و60%، وآخرون يتاجرون في بقايا المنتجات المستوردة، التي فاقت الزيادة عليها عن 100%. فسعر قميص الأولاد الذي يوزع كإنتاج راكد من العام الماضي يراوح ما بين 55 و65 جنيها، أصبح يباع بسعر 250 و300 للحديث، وللبنات زاد المريول من 120 إلى 250 جنيها.
بحساب بسيط أيقنت منال أن كلفة كل طفل تراوح ما بين 2500 و3000 جنيه لشراء غياري ملابس للشتاء وآخرين للصيف، وحقيبة مدرسة وحافظة مأكولات. في دولة لا تصنع قلم رصاص ولا يكفيها إنتاجها المحلي من الورق، بعد شراء لب الورق من الخارج، ومستلزمات صناعة الأقلام الجاف المحلية، سترتفع قيمة فاتورة مشتريات المدارس بعدما زادت قيمة المنتجات بمتوسط 50%، كما صرح محمد المهندس، رئيس غرفة الصناعات الهندسية.
يبرر المهندس الزيادة بندرة الخامات في الأسواق المصرية وارتفاع أسعارها، مع عدم قدرة المصنعين على استيراد الخامات من الخارج وتوفير الدولار. بينما يتوقع أحمد أبو جبل، عضو شعبة الأدوات الكتابية بالغرفة التجارية بالقاهرة، أن تشهد الأسواق تصاعداً في الأسعار واضطراباً، لأن الحكومة لم تنظر في طلبات الموردين التي تقدموا بها منذ 3 أشهر، للسماح لهم باستيراد احتياجات المدارس والجامعات.
وافقت الحكومة على زيادة أسعار الرسوم الدراسية بالمدارس الخاصة والأجنبية، التي يدرس فيها نحو 2.1 مليون تلميذ، ما بين 7% و25%، عدا أسعار الملابس والأنشطة، والانتقالات التي شهدت طفرة بنحو 50%
ووفق أبو جبل، في اتصال مع "العربي الجديد"، فإن الأزمة الحقيقية في نقص المستلزمات الدراسية ستظهر مع دخول المدارس والجامعات الشهر القادم، لأن السوق لم يشهد بعد كثافة بالطلب، خاصة مع تأجيل دخول المدارس.
ويؤكد أن كل ما هو موجود حاليا لدى التجار والموزعين من رواكد المواسم الماضية، وهناك خشية من نقص الأدوات الهندسية ومستلزمات الكمبيوتر والأقلام وعدم قدرة المصانع المحلية على توفير جميع أنواع الورق، التي تحتاجها الكتب أو الرسومات الهندسية والعلمية.
في جولة بمنطقة الفجالة الأوسع شهرة لبيع الأدوات المدرسية، وسط القاهرة، لاحظنا ارتفاع أسعار الكراسات المحلية من 2.5 جنيه إلى 4 جنيهات في المتوسط، تزيد بنسبة 30%، حسب عدد أورقها، بينما تباع الكراسات والكشاكيل المربوطة بالسلك ما بين 10 جنيهات و18 جنيها.
لم يتوقف الغلاء عند طلبات الدراسة التي أضحت عبئا تنوء به الرجال، فهناك ضربة قاضية وجهها تجار الكتب الخارجية لأولياء الأمور، بعد زيادة أسعارها بنسبة 100%، في نظام تتدافع فيه الأسر إلى تعليم أبنائها خارج المدارس، التي فقدت دورها التربوي والتعليمي منذ سنوات، وأصبحت الكتب الخارجية والدروس الخصوصية معلما تفاخرت به الفائزة بأوائل الثانوية خلال العام الحالي.
جاءت الضربة الثانية من الحكومة، التي وافقت على زيادة أسعار الرسوم الدراسية بالمدارس الخاصة والأجنبية، التي يدرس فيها نحو 2.1 مليون تلميذ، ما بين 7% و25%، عدا أسعار الملابس والأنشطة، والانتقالات التي شهدت طفرة بنحو 50%، مع زيادة أسعار الوقود وقطع غيار السيارات.
تصر الحكومة على تحصيل عائدات من المدارس الخاصة، التي تقوم بتحميل تلك الزيادة لأولياء الأمور، بل تدفع بعضها إلى المغالاة في الأسعار دون خوف من أي رادع.
وزادت موازنة التربية والتعليم للعام الجديد من 115.4 مليار جنيه إلى 127.8 مليار جنيه، بنسبة 10.7%، مع ذلك يعتبرها برلمانيون زيادة مخيبة للآمال، لأنها ستوجه جلها إلى رفع الرواتب المتدنية للمعلمين والإداريين، وفقا للعلاوة السنوية، وترميم بعض المدارس، وبما لا يعود بفائدة على تطوير العملية التعليمية ذاتها.
تشرح منال في رحلتها المطولة مع "العربي الجديد" عبر حواري سوق الموسكي، كيف أصبح الموسم الدراسي عبئا ثقيلا على جيوب الأسر البسيطة والمتوسطة، بعد أن كان باب فرحة للجميع، خطفها الغلاء والتضخم في أسعار كل السلع.
تشير إلى لجوء كثير من الأسر إلى تنظيف الملابس القديمة، وتورث من الأخ الأكبر للأصغر، والاكتفاء بنصف أطقم الملابس وإصلاح الحقائب القديمة وأحيانا الأحذية.
(الدولار=19.2 جنيها تقريبا)