إيطاليا تدير ظهرها لطريق الحرير الصيني... وأوروبا تخشى المخاطر

إيطاليا تدير ظهرها لطريق الحرير الصيني... وأوروبا تخشى المخاطر

10 اغسطس 2023
عائدات الشركات الفرنسية العاملة في الصين تعادل 6% من إجمالي ناتج فرنسا (فرانس برس)
+ الخط -

بعد أربع سنوات من انضمام إيطاليا، الدولة الوحيدة في مجموعة السبع، إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، يبدو أن روما تتجه نحو الانسحاب قريباً من "طريق الحرير" ما يمثل نجاحاً للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذي سعى لقطع الطريق على بكين في القارة الباردة، بينما يؤكد محللون أنه ليس من السهل انفصال الأوروبيين عن الصين لتمددها بشكل أعمق وتحكمها في سلاسل التوريد ما يضع الكثير من الأنشطة الحيوية تحت رحمة بكين، لاسيما وأن الصين باتت تختبر أوراق العقوبات أخيراً بحق المناوئين.

من خلال الخروج من مبادرة الحزام والطريق، ستوجه روما ضربة محرجة لبكين في الذكرى العاشرة للمبادرة. وقال يون سون، مدير برنامج الصين في مركز ستيمسون البحثى في واشنطن، "بالنسبة للصينيين، هذه إهانة كبيرة أن تصرح إيطاليا علناً عن نيتها الانسحاب من مبادرة الحزام والطريق".

سمحت مبادرة الحزام والطريق للصين بتصدير طاقتها الصناعية الزائدة مع توسيع نفوذها الجيوسياسي، وهذا حجر الزاوية في استراتيجية السياسة الخارجية للرئيس شي جين بينغ. في العقد الذي انقضى منذ إطلاق المبادرة، انضم ثلثا أعضاء الاتحاد الأوروبي، ومعظمهم في الشرق، إلى المبادرة، مما مهد الطريق لضخ الصين استثمارات في عدد كبير من مشاريع السكك الحديدية والموانئ والطرق السريعة.

وكانت العديد من هذه البلدان، مثل إيطاليا، تكافح مع تراجع الاقتصادات وتروج للمكاسب الاقتصادية المحتملة التي يمكن أن تأتي من الاستثمار في مبادرة الحزام والطريق.

بعد أربع سنوات، لم تؤت هذه الرهانات ثمارها. عندما وقعت إيطاليا على المبادرة، وافقت الشركات الصينية على ضخ 2.8 مليار دولار في مشاريع البنية التحتية، بما في ذلك الموانئ الإيطالية، مما عزز آمال المشرعين في تحقيق عوائد كاسحة. لكن الازدهار الاقتصادي لم يحدث قط.

قال نوح باركين، الخبير في العلاقات الأوروبية الصينية في شركة "روديوم غروب" للأبحاث لمجلة فورين بوليسي الأميركية: "في عام 2019، كانت هناك توقعات غير منطقية بشأن ما قد تجلبه هذه الصفقة إلى إيطاليا". "لم تحقق هذه الصفقة أرباحاً كبيرة". وأضاف أن الصادرات الإيطالية إلى الصين ظلت ثابتة تقريباً، في حين انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في إيطاليا.

كيف يمكن التراجع؟

تتخذ روما الآن موقفا أكثر تشدداً تجاه الصين. فقد منع رئيس الوزراء السابق ماريو دراجي عمليات نقل التكنولوجيا إلى بكين ومنع عمليات الاستحواذ الصينية على الشركات الإيطالية. وقد ذهبت رئيسة الوزراء الحالية جورجيا ميلوني إلى أبعد من ذلك، حيث قيدت تأثير شركة صينية على صانع الإطارات الإيطالي Pirelli وأكدت دعمها لتايوان.

وفي تصريحات واضحة في 30 يوليو/تموز الماضي، انتقد وزير الدفاع الإيطالي غويدو كروزيتو، قرار إيطاليا الانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق، واصفا إياه بأنه "ارتجالي وفظيع". وقال: "القضية اليوم هي: كيفية التراجع (عن مبادرة الحزام والطريق) دون الإضرار بالعلاقات (مع بكين).. صحيح أن الصين منافس، لكنها أيضاً شريك".

كان السؤال نفسه يثقل كاهل أذهان القادة الأوروبيين الآخرين الذين أعادوا تقييم علاقاتهم الاقتصادية طويلة الأمد مع الصين وسط معركة تجارة التكنولوجيا المتصاعدة. لكن الصين بعثت برسالة سريعة نهاية يوليو/تموز، إذ فرضت قيوداً شاملة على تصدير معدني الغاليوم والجيرمانيوم، الأساسيين لصناعة أشباه الموصلات، حيث تعد بكين أبرز منتج لهما عالمياً. وبسبب هذه التوترات، تحاول بروكسل، مثل واشنطن، "إزالة المخاطر" من العلاقات الاقتصادية.

ويؤكد محللون أن الكتلة الأوروبية تواجه مهمة "صعبة للغاية" لتقليل الاعتماد على بكين. فقد زادت الواردات من الصين إلى الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك التكنولوجيا الحساسة والمعادن الهامة في السنوات الأخيرة، على الرغم من محاولات المشرعين "إزالة المخاطر" من الروابط الاقتصادية.

وتُظهر بيانات مكتب الإحصاء الأوروبي "يوروستات" أن قيمة السلع القادمة من الصين وهي أكبر مصدر في العالم تضاعفت تقريباً بين عامي 2018 و2022. وخلال النصف الأول من العام الجاري 2023، ظلت الصين إلى حد بعيد أكبر مورد للسلع إلى الاتحاد الأوروبي.

ويشير تحليل لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن واردات منتجات مثل الهواتف وأجهزة الكمبيوتر والآلات ارتفعت جميعها بشكل حاد خلال هذه الفترة على الرغم من مخاوف مسؤولي الاتحاد الأوروبي من أن الصين قد تستخدم التكنولوجيا للحصول على أسرار الدولة. وتعد الصين أيضاً أكبر مورد للاتحاد الأوروبي لما تعرف بـ"الأتربة النادرة" والمواد الخام الهامة الأخرى.

وتتكون الأتربة النادرة من نحو 17 عنصراً، تدخل في 200 نوع على الأقل من الصناعات الحديثة، منها الهواتف الذكية. وهذه العناصر الأرضية ليست نادرة من حيث الكمية، وإنما لعدم وجودها منفصلة عن معادن أخرى، وصعوبة فصلها وامتصاصها عن بقية المعادن، وأيضاً قلة المعروض منها، وحداثة اكتشافها وخصائصها الفريدة.

ونجحت الصين خلال السنوات الماضية في إقناع الاقتصادات الصناعية الكبرى بوضع الكثير من بيضها في السلة الصينية. وقال جون بلاكسلاند، أستاذ دراسات الأمن الدولي والاستخبارات في الجامعة الوطنية الأسترالية لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، الثلاثاء الماضي: "من الصعب للغاية تخليص أنفسهم تماماً من مأزقهم".

وأثارت هذه المشكلة قلق المسؤولين في بروكسل. وقال مفوض التجارة في الاتحاد الأوروبي فالديس دومبروفسكيس في مقابلة مع فايننشال تايمز نُشرت الاثنين الماضي إن العجز "المذهل" بين الاتحاد الأوروبي والصين يؤكد حاجة بكين لفتح أسواقها للسلع الأوروبية. وأضاف دومبروفسكيس أن "العلاقة التجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي غير متوازنة للغاية.. مستوى الانفتاح من الجانب الصيني ليس هو نفسه مستوى الانفتاح من جانب الاتحاد الأوروبي".

وأصبحت الصين في العام 2020 الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي للمرة الأولى، متجاوزة الولايات المتحدة، بفضل الانتعاش السريع لاقتصادها الأقل تأثراً بوباء كورونا آنذاك من اقتصادات الشركاء الغربيين.

وخلال 2020 بلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي مع الصين أي مجموع الصادرات والواردات 586 مليار دولار، مقارنة بـ555 مليار دولار مع الولايات المتحدة، وفقا لأرقام "يوروستات"، بينما قفز إجمالي التجارة بين الاتحاد الأوروبي والصين إلى 912.6 مليار دولار العام الماضي.

440 مليار دولار عجزا تجارياً

وبلغ العجز التجاري بين الكتلة وبكين نحو 400 مليار يورو (440 مليار دولار) في 2022. ومع ذلك، يتقبل مسؤولو الاتحاد الأوروبي بشكل متزايد أن قطع العلاقات مع اقتصاد يمثل 14% من صادرات السلع العالمية سيكون أمراً صعباً.

اعترفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، في وقت سابق من العام الجاري بأن الكتلة لا يمكن أن "تنفصل" تماماً عن التجارة مع بكين. وبدلاً من ذلك، ستعمل على "إزالة المخاطر" من اقتصادها من خلال إنتاج سلع تعتبر مهمة للأمن القومي داخل الاتحاد الأوروبي.

وخلصت قمة لزعماء الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي إلى أن بروكسل وبكين "ستستمران في كونهما شريكين تجاريين واقتصاديين مهمين"، على الرغم من تقليص الكتلة "التبعيات الحاسمة ونقاط الضعف". وقال البيان إن الاتحاد الأوروبي لم يكن ينوي "الانعطاف إلى الداخل".

ووفق جون بلاكسلاند، أستاذ دراسات الأمن الدولي والاستخبارات في الجامعة الوطنية الأسترالية فإن "الفصل ليس ممكناً، إلا للحرب". ومع ذلك، تظهر أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن الولايات المتحدة قد أحرزت تقدماً أكبر بكثير في أن تصبح أقل اعتماداً على منافسها الاقتصادي الرئيسي.

بين عام 2018، فرض الرئيس آنذاك دونالد ترامب تعريفة جمركية بنسبة 25% في المائة على واردات صينية بقيمة 34 مليارات دولار، وعام 2022، تظهر بيانات التجارة الأميركية أن حصة الواردات القادمة من الصين انخفضت من 21% إلى 16%. وعلى الرغم من تبنيه نبرة أكثر تعاوناً، لم يقم الرئيس الحالي جو بايدن بإزالة الحواجز التجارية، واستمرت الانخفاضات هذا العام، وفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الأميركي.

لكن العلاقات بين الشركات الأميركية قد تكون أوثق مما تشير إليه البيانات الرسمية. فالشركات الصينية المستخدمة كموردين قبل إدخال التعريفات قامت منذ ذلك الحين بنقل أجزاء من عملياتها في أماكن أخرى في آسيا للالتفاف على القيود الأميركية.

وقال تشاد باون من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي لفايننشال تايمز: "كل ما نعرفه من تلك البيانات هو أن مصدر التجميع النهائي قبل أن يأتي إلى الولايات المتحدة يتغير.. يمكن أن تكون نفس الشركات التي كانت تقوم بذلك التجميع النهائي في الصين تفعل ذلك الآن فقط في فيتنام أو كمبوديا أو بنغلاديش أو تايلاند بدلاً من ذلك".

وبجانب سيطرة الصين على حصة كبيرة من سلاسل التوريد العالمية، فإن الانقسام الأوروبي حيال اتخاذ موقف موحد من الصين يعزز ترجيح كفة القوة لصالح بكين بغض النظر عن الضغوط الأميركية على العواصم الأوروبية وقرارات الإغراء المالي التي تبنتها مؤخرا لتحفيز الابتعاد عن بكين، وفق تقرير لمجلة فورين بوليسي مطلع الشهر.

فوائد لفرنسا وألمانيا من التعاون مع الصين

وإذا كانت بعض الدول الأوروبية تنظر إلى الصين الآن بتشكك، فإن العديد من الدول الأخرى لا تزال تستفيد من العلاقة الاقتصادية مع بكين، ولا سيما أقوى دولتين عضوين في الاتحاد الأوروبي ألمانيا وفرنسا.

بالنسبة لألمانيا، يأتي ثلثا موادها الأرضية النادرة من الصين، وهو أمر بالغ الأهمية لصناعات السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات المزدهرة. والأهم من ذلك هو عائدات الشركات الفرنسية والألمانية العاملة في الصين، التي تعادل ما يقرب من 7% من الناتج المحلي الإجمالي الألماني وحوالي 6% لفرنسا.

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

لذا تبنت فرنسا وألمانيا ومعظم الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي لغة عدم المخاطرة. وفي حين أن هذه العلاقات مهمة للاقتصادات الأوروبية، فهي أيضاً "فوضوية"، وفق كيو جين الأستاذة في كلية لندن للاقتصاد، مشيرة إلى أن طبيعة ما تقدمه بكين للعالم قد تغيرت الآن، بدلاً من اللعب والملابس، يتعلق الأمر أكثر بأشباه الموصلات ومصادر الطاقة المتجددة، والتنافس مع القوى الأوروبية الكبرى.

على عكس فرنسا وألمانيا، ظهر موقف إيطاليا الأخير المناوئ لمبادرة الحازم والطريق إلى العلن، كما تحول موقف العديد من دول وسط وشق أوروبا التي كانت تبني آمالاً في السابق على أن تكون بوابة الصين إلى أوروبا. وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية بين 2007 و2009، قدمت الصين لهذه الدول مصدراً بديلاً جذابًا للاستثمار والتجارة.

وانخرط البعض في التقارب مع الصين للحصول على نفوذ في مواجهة بروكسل. ووعدت الصين بجسور وخطوط سكك حديدية جديدة ووصول أكثر انفتاحاً إلى السوق الصينية، لكن تبين أن الوعود السخية للحزام والطريق تحولت إلى حد كبير إلى سراب، وفق فورين بوليسي، حيث ازداد العجز التجاري للمنطقة مع الصين، إذ انخفضت الصادرات إلى الدولة الآسيوية بنسبة 4.9% العام الماضي، وقفزت الواردات من الصين بنسبة 13.8% عن 2021.

وتخطت الانتقادات حدود الاقتصاد، حيث يوجد بعض أشد منتقدي بكين في وسط وشرق أوروبا. فقد سمحت ليتوانيا لتايوان بفتح مكتب تمثيلي لها في العاصمة فيلنيوس واستدعت بدورها سفيرها من بكين في 2021، وحظرت بولندا ورومانيا شركة "هواوي" للاتصالات، وأصبح الرئيس التشيكي الجديد بيتر بافيل أول رئيس دولة في الاتحاد الأوروبي يتحدث مباشرة مع الرئيس التايواني. كما تعهد بزيارة تايوان. ومن المؤكد أن للولايات المتحدة دور تلعبه لإبعاد الأوروبيين عن الصين.

لكن في المقابل يتابع المراقبون الأوروبيون عن كثب العقوبات الانتقامية التي تفرضها الصين على المناوئين لها. فقد أزالت بكين ليتوانيا من قائمة بلدان المنشأ في نظامها الجمركي، وحظرت فعلياً جميع وارداتها. وامتدت العقوبات الاقتصادية في النهاية لتشمل السلع المنتجة من الأجزاء الليتوانية، مما أدى إلى تعطيل سلاسل التوريد في السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي.

كما قالت الصين إنها لم تسعَ قط عن عمد إلى تحقيق فائض في التجارة مع الاتحاد الأوروبي، وإذا كان الأخير يريد حقا معالجة هذه المشكلة، فإنه بحاجة إلى رفع الرقابة عن الصادرات ضد الصين، بدلا من إلقاء اللوم على الأخيرة، حسبما نقلت صحيفة الشعب الصينية، الثلاثاء الماضي عن متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية.

المساهمون