تعديلات سريّة المصارف اللبنانيّة: المطلوب أكثر

 تعديلات سريّة المصارف اللبنانيّة: المطلوب أكثر

08 اغسطس 2022
مقر مصرف لبنان في العاصمة بيروت (getty)
+ الخط -

صدّق البرلمان اللبناني الأسبوع الماضي على مجموعة من التعديلات التي طاولت قانون سريّة المصارف، المعمول به منذ عام 1956، بما يفضي إلى إعطاء حق رفع السريّة المصرفيّة للقضاء والسلطات الضريبيّة.

هذه التعديلات لم تكن لتمر بالمجلس النيابي لولا فرضها من قبل صندوق النقد الدولي، كجزء من شروط التفاهم المعقود على مستوى الموظفين بين الصندوق ولبنان.
ولعلّ العارفين بطبيعة النظامين السياسي والمالي في لبنان يدركون حساسيّة تقليص نطاق السريّة المصرفيّة، التي لطالما حمت مصالح ضخمة مرتبطة بأصحاب النفوذ المالي والسياسي، وهو ما يفسّر مصادقة البرلمان على التعديلات على مضض وبالإكراه، تحت ضغط الصندوق، على قاعدة "مكرهٌ أخاك لا بطل".
قانون سريّة المصارف، المعمول به منذ أكثر من 66 عاماً، منع طوال تلك السنوات، أي قبل إقرار التعديلات الأسبوع الماضي، المصرفيين من إفشاء المعلومات المرتبطة بحسابات عملائهم، حتّى اتجاه السلطات الضريبيّة المحليّة والقضاء والجهات الرقابيّة والسلطة التنفيذيّة.
وبذلك، تحوّلت السريّة المصرفيّة على مدى العقود الماضية إلى ستار لطالما أخفى عمليّات التهرّب الضريبي والإثراء غير المشروع والجرائم الماليّة، فضلاً عن الحؤول دون تقصّي تفاصيل العمليّات والمخالفات المصرفيّة التي أفضت إلى تبديد أموال المودعين ومراكمة الخسائر داخل النظام المصرفي.
مع الإشارة إلى أنّ حاجز السريّة المصرفيّة هو تحديداً ما أخّر انطلاق التدقيق الجنائي في ميزانيّات المصرف المركزي، قبل أن يقرّ المجلس النيابي قانوناً خاصاً سمح بتسليم المعلومات المصرفيّة للشركة المخوّلة بإجراء هذا التدقيق.
كذلك عرقل حاجز السريّة المصرفيّة التحقيقات القضائيّة المحليّة المتعلّقة بالشبهات الجنائيّة التي تدور حول حاكم المصرف المركزي، عبر تمنّع المصارف عن تسليم كشوفات الحسابات المصرفيّة الخاصّة بشقيق الحاكم، إلى أن تم تسليم هذه الكشوفات في النهاية بعد ضغوط خارجيّة قاسية.
وقبل إقرار التعديلات الأسبوع الماضي، كانت القوانين مرعيّة الإجراء تحصر حق رفع السريّة المصرفيّة بهيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان، في حالات الاشتباه في وجود عمليّات تبييض أموال. وهذه الهيئة، كانت تملك صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة عن حساب معيّن أو الإبقاء عليها، بشكل استنسابي، ودون أن تقبل قراراتها أي شكل من أشكال المراجعة أو النقض، إذ كانت تقدّر وحدها جديّة الشبهة المرتبطة بعمليّات الحساب موضوع التحقيق.
ومن المعروف أن هيئة التحقيق الخاصّة، التي يرأسها حاكم مصرف لبنان، لطالما امتنعت عن الاستجابة لمعظم طلبات رفع السريّة المصرفيّة، التي كانت تردها من الجهات الرسميّة المختصّة، دون أن يتسم عمل الهيئة بالشفافيّة المطلوبة. مع الإشارة إلى أنّ حصر هذه الصلاحيّة بهيئة وحدها، لطالما مثّل شكلاً من أشكال تضارب المصالح، من حيث إعطاء الجهة التي تنظّم شؤون القطاع المصرفي، أي حاكم مصرف لبنان، صلاحيّة إدارة الهيئة التي تملك مهام التحقيق بالمعلومات المصرفيّة، حتّى حين يتعلّق الأمر بمخالفات المؤسسات المصرفيّة نفسها.

لكلّ هذه الأسباب، طلب صندوق النقد تعديل قانون سريّة المصارف والتخلّص من هذا الوضع الشائك برمته، وهو ما قام به المجلس النيابي مؤخراً. وحسابات صندوق النقد هنا واضحة، إذ يعتبر الصندوق أن استعادة الدولة اللبنانيّة لملاءتها الائتمانية تستوجب توسيع قاعدة التحصيل الضريبي، وهو ما يفرض إعطاء السلطات الضريبيّة حق تجاوز ستار السريّة المصرفيّة، لمنع التهرّب الضريبي. كما يعتبر الصندوق أنّ إعطاء القضاء حق الوصول إلى المعلومات المصرفيّة بشكل مباشر، ودون المرور بهيئة التحقيق الخاصّة، مطلوب لتعزيز الشفافيّة ومكافحة الجرائم الماليّة وحالات الإثراء غير المشروع، وهو ما يرتبط بدوره بملاءة الدولة الماليّة.

باختصار، يحرص صندوق النقد على استعادة الدولة اللبنانيّة توازنها المالي، لتتمكن في المستقبل من سداد قيمة القرض الذي تطلبه من الصندوق، وليحافظ على مصداقيّة البرامج والخطط التي يتفق عليها مع الدول المتعثّرة. ولهذا السبب، طلب الصندوق تعديل قانون السريّة المصرفيّة قبل الموافقة النهائيّة على برنامج القرض، وتم إدراج هذا الشرط من ضمن التفاهم المعقود على مستوى الموظفين.
هنا تجدر الإشارة إلى أنّ قانون سريّة المصارف سمح للبنان خلال العقود الماضية باستقطاب التحويلات الأجنبيّة، من قبل المتموّلين المقيمين في الخارج، الباحثين عن أنظمة مصرفيّة قادرة على إخفاء ثرواتهم عن أعين الدول التي يقيمون فيها. لكن لبنان وقّع خلال السنوات الماضية اتفاقيات دوليّة فرضت تسليم البيانات المصرفيّة المتعلّقة بالمقيمين بدول أخرى، لمصلحة السلطات الضريبيّة في تلك الدول.
وبذلك، لم تعد السريّة المصرفيّة تملك أي قيمة مضافة من ناحية استقطاب التحويلات الأجنبيّة، بل تحوّلت إلى ستار يمنع القضاء والسلطات الضريبيّة اللبنانيّة من الولوج إلى المعلومات المصرفيّة، في مقابل إفشاء هذه المعلومات للدول الأجنبيّة الباحثة عن ثروات المقيمين لديها. ولذلك، وجد صندوق النقد أنّ أضرار السريّة المصرفيّة باتت أكبر من منافعها على النظام المالي اللبناني، بعد أن تحوّلت مؤخراً إلى لزوم ما لا يلزم.
بعد إقرار التعديلات الأخيرة على قانون سريّة المصارف سيكون بإمكان السلطات القضائيّة طلب المعلومات المتعلّقة بالحسابات المصرفيّة من المصارف، ومطابقة هذه المعلومات بتصريحات المكلّفين ضريبيّاً، فيما ينص القانون على غرامات بحق المصارف التي تمتنع عن تقديم هذه المعلومات للسلطات الضريبيّة. أمّا القضاء، فسيتمكّن من طلب المعلومات المصرفيّة عند النظر بالجرائم الماليّة المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائيّة، وهو ما يشمل جرائم اختلاس الأموال العموميّة والاحتيال ومخالفة القوانين المصرفيّة، وجرائم مخالفة قوانين الشركات محدودة المسؤوليّة والتزوير وغيرها.
مع الإشارة إلى أنّ التعديلات التي قام بها المجلس النيابي تلحظ قدرة كل من القضاء والسلطة الضريبيّة على طلب المعلومات المصرفيّة المتعلّقة بمجموعة عملاء على أساس معيار معيّن، وهو ما سيسمح للسلطة الضريبيّة بتقصّي المعلومات المصرفيّة المتعلّقة بجميع حسابات فئة معينة من كبار المكلفين، بدل الاكتفاء بطلب معلومات مصرفيّة متعلّقة بحسابات محددة بالاسم. وهذا التعديل بالتحديد سيكون من شأنه توسيع فعاليّة الجباية الضريبيّة بشكل كبير، وهو ما سينعكس حكماً في إيرادات الدولة الضريبيّة في المستقبل.

ورغم إيجابيّة كلّ هذه التعديلات، كان من الواضح أنّ القوى السياسيّة حرصت على الحد من نطاق رفع السريّة المصرفيّة قدر الإمكان، لحماية بعض المصالح المستفيدة من ستار السريّة المصرفيّة. فعلى سبيل المثال، أصرّت الهيئة العامّة لمجلس النواب على عدم إعطاء لجنة الرقابة على المصارف صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة، رغم أنّ تمكين اللجنة من الاطلاع على المعلومات المصرفيّة ضروري للتمكّن من الإشراف على مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفيّة، وتشريح الودائع المعنيّة بعمليّة إعادة الهيكلة.

كما حرصت الهيئة العامّة على تضييق نطاق الجرائم الماليّة، التي يمكن للقضاء رفع السريّة المصرفيّة عند النظر بها، عبر شطب عبارة "وجميع الجرائم الماليّة الأخرى" من لائحة هذه الجرائم الماليّة، والتي كان من شأنها السماح للقضاء بتجاوز ستار السريّة المصرفيّة عند النظر بأيّ جريمة ماليّة من دون استثناء.
وهكذا، يمكن القول إنّ الحد من نطاق السريّة المصرفيّة، وتمكين بعض الجهات الرسميّة المختصّة من الحصول على معلومات الحسابات المصرفيّة، يمثّل اليوم خطوة للأمام باتجاه تعزيز الشفافيّة الماليّة، وتسهيل مكافحة الفساد والتهرّب الضريبي. لكن في الوقت نفسه، من الواضح أنّ هذه الخطوة لم تكن كافية، إذ يُفترض العمل على معالجة الثغرات التي تركها المجلس النيابي في هذه التعديلات، عبر منح حق رفع السريّة المصرفيّة للجنة الرقابة على المصارف، وتوسيع نطاق الجرائم الماليّة التي يمكن للقضاء رفع السريّة المصرفيّة عند التحقيق فيها، لتشمل جميع الجرائم الماليّة من دون استثناء. باختصار، المطلوب أكثر بكثير.

 

المساهمون