النكبة.. خِسّة الكائن التي لا تُحتمل

15 مايو 2014
منى حاطوم / فلسطين (2006)
+ الخط -

 "في مثل هذا اليوم من عام 1948 قام العدو الإسرائيلي باحتلال جزء غال على قلوبنا من وطننا العربي الكبير.."، أو "أيّها الرفاق الشبيبيون، تمرّ علينا اليوم هذه الذكرى الأليمة، ونحن أكثر تصميماً على الصمود، و.."، أو "في 15 من أيار/ مايو قبل 30 (40، 50، 60) عاماً طُرد شعبنا الفلسطيني البطل من..".

جمل وعبارات كهذه، طرّزت طوال العقود الماضية مواضيع "التعبير" التي كانت تُطلب منّا في المدارس. صديقي وأنا، تلميذان سوريان في "طلائع البعث" (منظمة حزبية للأطفال)، وفي "شبيبة الثورة" (منظمة حزبية لليافعين والمراهقين)؛ احتكرنا لسنوات العلامة الأعلى في "الإنشاء". وكما في "عيد الأم"، و"يوم الكتاب"، و"الحركة التصحيحية" (انقلاب الأسد الأب)؛ حبّرنا وقتها بأقلام الرصاص معلّقاتنا الصغيرة عن شيء قالوا لنا إنّه مهم، وإنّ اسمه: "النكبة".

كان عليّ أن أنتظر حتى عام 1991 (مفاوضات مدريد) كي تنتهي حصّة "التربية القومية الاشتراكية"، لأخرج سريعاً من صفّ "ما أخذّ بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة"، وأهرع إلى التلفاز لأشاهد للمرة الأولى وجه رئيس وفد "الكيان الصهيوني التوسعي الاستيطاني الغاشم"، اسحق شامير، جالساً في غرفة نوم الملك الإسباني، مع وزير خارجية "الصمود والتصدي"، فاروق الشرع، بعد خمسة شهور على ذكرى النكبة إيّاها.

بالنسبة لي، كانت تلك المرة الأخيرة التي أكتب فيها عن شيء يطلب مني "هؤلاء" أن أكتب عنه. وتدهورت بعد ذلك علاماتي الدراسية، لا في الإنشاء فحسب، بل وفي الرياضيات، والعلوم الطبيعية، والكيمياء، والفتوّة (تدريب عسكري للطلاب). وحده مدرّس التاريخ، حافظ على صداقتنا الحذرة، وظلّ يقترح عليّ، بالرموز والألغاز، عناوين مراجع عن الثورة الفلسطينية لم يرد ذكرها في المقرر "النظامي".

سنوات أخرى ستمر ببطء، قبل أن يهمس في أذني مساعد في أمن الدولة بأنّ "فنجان القهوة" التالي قد يكون من بُنّ "فرع فلسطين"، ما لم أتدارك أخطائي الإملائية –والتاريخية- في مقال لي يسيء إلى "البلد"، و"قيادته الحكيمة" التي لن تدخّر جهداً في ردّي إلى جادة الصواب.

انتحلت شعبة المخابرات العسكرية 235 تلك اسم فلسطين، بعد أن تخصصت لبعض الوقت في ملاحقة عناصر المنظمات الفلسطينية غير المرغوب فيها من قبل "بطل الحرب والسلام" (حافظ الأسد). وذلك قبل مجزرة "تل الزعتر" (1976) وسواها. وكان من العسير "ممانعة" طعم قهوة ذلك الفرع، فهي تماماً كما وصفها المساعد جذلاً: "غير شكل".

"النكبة" اليوم، مصطلح ثقافي بات يُنطق بلغات أخرى بلفظه العربي (استخدمه أمين عام الأمم المتحدة في 2008)، شأنه في ذلك شأن كلمة "انتفاضة". والـ"Intifada"، هي "الربيع الفلسطيني" الذي يفوت المؤرخين والسوسيولوجيين العرب (وغير العرب) الالتفات إليه في معرض تحليلهم، وتركيبهم لسياقات الثورات المحلية والإقليمية في السنوات الأخيرة.

فما قام به الفلسطينيون منفردين بين 1987 و1993، ها نحن ذا نكرره (بأخطائه أيضاً) منذ 2011.

بيد أنّ ثقافة التجاهل تلك، لا يفوقها في القدرة على التهميش، وتخريب مداميك البنى الفكرية التي تستعد لوراثة شعبوياتنا النضالية المكرسة بين ظهرانينا، سوى ثقافة "فرّق تسد" الموروثة بدورها عن صديقنا اللدود الذي نسميه "فتوحات" عادةً (هِند، سِند، أندلس..)، أمّا في حال صادف أننا على الجهة المقابلة فسيكون اسمه "استعمار" من دون أدنى ريب، أو عروبة، أو ماركسية.

التجزئة القُطرية التي يمكننا أن نطالع في مثل هذه الأيام (يوم الأرض، يوم النكبة، يوم النكسة) النسخ الأحدث من تدبيجات مقاومينا الفولكلوريين في هجائها؛ يقوم على تكريسها وصناعة نموذج مطوّر عن محركها القديم (سايكس- بيكو 1916) "الرفاق" إيّاهم، بمواقفهم "النكبوية" تجاه الثورات القائمة، والاصطفائية الدوغمائية التي يحللون بها بعضها (ليبيا ومصر)، فيما يدمغون بعضها الآخر بالحرام شرعاً (سوريا)، ناهيك عن الانتهازية الصبيانية، والمتقلبة، نحو أخرى (البحرين).

هؤلاء من يقولون اليوم للفلسطينيين: أنتم لستم جزء من الصراع ضد الطغيان في تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا والعراق والجزائر. وفي المقابل يطلقون على شعوب هذه الأقطار نيران بروباغانداهم (وأسلحتهم في سوريا) لحشدهم في "قميص عثمان" الأرض المحتلة. أي ما معناه: "نعم لفلسطين، لا للفلسطينيين". لسان حال عربي قح للمقولة الصهيونية التي ترى في تلك الكينونة أرضاً بلا شعب، وجغرافيا بلا ثقافة.

المليون الذين كانوا يقطنون مخيم اليرموك في دمشق (قبل هبوط البراميل) ربعهم فقط من الفلسطينيين. لكن الـ 750 ألف سوري الآخرين ـ وقد سألتهم بنفسي ـ يقولون إنّ عاصمتهم الثقافية الأولى هي القدس منذ 1954 (تأسيس المخيم).

فأولى شرارات "المؤامرة الكونية الفلسطينية" (الثورة) ضد "واحة الديموقراطية" (إسرائيل) انطلقت من هذا المخيم، واتخذت عصابات "المخربين والإرهابيين" (الكفاح المسلح) من أرضه معقلاً لها منذ السبعينات، بمشاركة الآلاف من السوريين "المرتزقة" (الفدائيين) الذين شاطروا الفلسطينيين فصائلهم منذ العام 1965. وفي اليرموك كانت أول مقبرة لشهداء تلك الثورة الذين شكّل السوريون ما يقارب ثلث عددهم الإجمالي بحسب المؤرخين الفلسطينيين "المُغرضين" أنفسهم.

ويأتيك بعد هذا من يحاول إقناعك بأنّ على الجزء الفلسطيني من هذا النسيج الثمين أن يظلّ "فيزيائياً" على الحياد، فيما يحترق باقي الثوب بفعل "الكيماوي". وبأنّه ليس للفلسطيني في بلداننا العربية أن يفتح فمه قبل استرجاع البذور الممضوغة منذ سبعين عاماً لبرتقال يافا. لكنه قد يصبح قائداً للنضال المسلح ضد الاستغلال والقمع (شفيق حنظل جبهة التحرير الشعبية "فارابوندو مارتي" 1980-1992)، أو رئيساً للجمهورية (أنطونيو السقا 2004-2009)، إنّما في السلفادور.

"سايكس- بيكو" الجديدة ليست تلك الخريطة التي نشرتها "نيويورك تايمز" في أيلول/ سبتمبر الفائت، ولكنها خريطة أخرى تحفرها معاول من يكتبون أساطيرهم بأيديهم، وينصبون أنفسهم شعوباً ودولاً، وأحزاباً، وقيادات مختارة من قبل الله، صانع أرض الميعاد.

مرت دماء فلسطينية كثيرة تحت الجسر، قبل أن يمدّ معتوه دمشق الحالي يده ويصافح رأس النظام الإسرائيلي، موشيه كتساف، في جنازة بابا الفاتكيان (2005)، ليتبعه تصريح شايلوك السوري (اللص متعدد الاستخدامات) رامي مخلوف، بأن استقرار نظام مُبْتَدِع سياسة تكسير عظام الفلسطينيين، وحامل نوبل للسلام النووي، شمعون اسحق بيريز، مِنْ استقرار نظام سيد البراميل، وحامل نوبل للسلام الكيميائي، بشار حافظ الأسد.

نعم. يحق لدكتاتور ممسوس أن يهاتف المجرم بنيامين نتنياهو عبر سنترال تركي (2008)، ويحق قبلها لميلشيا عقائدية أن تعقد هدنة مع ورثة "الهاغاناه"، و"البالماخ"، و"الأرغون"، و"شتيرن" باللغة الأميركية الفصحى (1996)؛ لكنّ مثقفاً (الياس خوري) أقام الفلسطينيون مخيماً رمزياً يحمل اسم "باب الشمس" بين الضفة والقدس (2013) تيمناً بروايته التي جعلت من النكبة أيقونة أدبية، لا يملك الحق في الترافع عن قضية فلسطين، وإسماع الإسرائيليين ما لا يحبون سماعه في "هآرتس".

لماذا؟ لأنه لا يملك قوات "كوماندوس" سلفية خاصة به. ولأنّه لم ينفق ريع كتاباته كي ينشئ جهاز مخابرات مدرّب على حيل القتل الرزين. لأنّنا في "مزرعة الحيوان" هذه، نملك جميعنا حقوقاً متساوية، لكن حقوق بعضنا أكثر مساواة من حقوق بعضنا الآخر على ما يبدو، خاصّة عندما تتأرجح الكفة بين حق القوة، وقوة الحق. بين ثقافة القوة، وقوة الثقافة.

خرجنا في دمشق إبان العدوان الإسرائيلي على غزة (2009-2008) متظاهرين، منددين، لكنّ ارتفاع أسعار الديزل عامها بأكثر من 250% منع كثيرين من قيادة مركباتهم المتواضعة في محافظات سورية عدّة للمشاركة في الاعتصام الجامع. فكّرنا حينها أنّ مظاهرة ضد الفساد والنهب الذي رفع الأسعار قد يكون مفيداً أيضاً لفلسطين. بعدها بثلاث سنوات فعلناها.

المساهمون