ألفاظ العنصرية... أن تتجاوز العربية إحراجاتها

27 يونيو 2020
(عنترة بن شداد في رسم لـ أبو صبحي التيناوي)
+ الخط -

بعد مَقتل جورج فلويد مُختنقًا تحت أرجل الشرطة الأميركية، نُتابع في الثقافة العربية، ككل ثقافات العالم، صعودَ قضية العنصريّة والتمييز بسبب اللون. وليست هذه القضيّة إنسانيةً أو حقوقيةً فحسب، بل تمتدّ إلى اللغة، هذا الفضاء الذي يعبّر عن التحوّلات والصراعات. ولذلك، يضعنا التفكير في العنصرية، من زاوية اللغة العربية، حيالَ إشكالات عدّة، منها أنّ مفردات توصيف هذه الظاهرة حديثةٌ نسبيًّا، وكأنّ العرب القدامى لم يلتفتوا إليها، عدا دعوة الإسلام الصريحة لعدم التفرقة بسبب الجنس أو النسب أو اللون. ويبدو أنّ هذه الدعوة بقيت، على مستوى التمثُّل البشري، مثاليّةً، تُناقضها الممارسات التاريخيّة بشكل صارخ.

ومن اللافت أنّ العرب الذين تعرّضوا، على الأقل في القرنيْن الأخيريْن، إلى عنصرية مقيتة من قِبل الغرب، قد لا ينتبهون إلى أنَّهم يمارسون عنصريّةً تجاه شعوب أخرى، أحيانًا بشكل عفوي، وكأنّ الأمر من طبيعة الأشياء؛ إذ لا تتعلّق المسألة بِاستعلاء حضاري كسبب لتفسيرها، ذلك أننا نجد أثرًا من العنصرية حتى تجاه الغرب، كأنْ ينعتَ بعضُهم كلّ الأوروبيّين بـ"الكفّار" ضمن صورةٍ أُخرى من صور التمييز، قائمة على العقيدة وليس العِرق.

ومقابل ما يُروَّج في ثقافتنا من الاتهامات للغرب بأنه عنصري ولغاته عنصريّة، وهو بالتأكيد ليس بِبَراء، فإنّ في لغتنا أيضًا شوبًا منها. فمثلًا، لا توجد إلّا تعابير مُحرِجة حين نتحدّث عن الأفارقة، ولا يتّصف طيفُ الكلمات المستخدمة بأدنى حيادٍ. وما هو متاح (الزنوج، السود، أصحاب البشرة السوداء، الملوّنون) يتضمّن بشكل أو بآخر معاني حافّة وضمنية تحيل على التمييز.

أمّا في العاميات فالمسألة أدهى؛ حيث تنضاف نعوت أقسى تحمل ثنائية الاستعلاء والبَخْس وتحيل على معجم موازٍ، وهو العبودية، رغم أنّ الثقافة العربية القديمة قد عرفت الرقيق من كلّ الأجناس والألوان.

على المستوى المفاهيمي، استقرّ في العربية استعمال مفردة العنصرية للتعبير عن ظاهرة تمييز الآخر تحقيرًا واستنقاصًا. والعنصرية كلمة مستحدثة بما هي مصدر صناعي من مادة "عنصر"، المُحيلة على أصل الشيء ومَعدنه، أصيلًا كان أم حقيرًا، كما بَيّنه الأزهري (القرن العاشر ميلادي)، في "صحاح اللغة". وللأسف، لا نمتلك القدرة على تحديد التاريخ الدقيق لظهور هذا المصطلح المركزي.

ثم لجأت الضاد إلى مفردات المَيْز والتمييز والفصل، لوصف مَظاهر الازدراء التي تُمارَس بسبب الأصل والعِرق واللون والديانة وحتى اللغة، بل واللهجة داخل اللغة الواحدة. كما لجأت إلى الاقتراض، فأقحمت مفردة "الأبارتهايد"، وهي تعريب Apartheid ذات الأصل الأفريقاني، المشتقّ بدوره من الفرنسية À part، أي: على حِدة، والمشيرة إلى نظام الفصل العُنصري الذي حكمَتْ من خلاله الأقليّة البيضاء في جنوب أفريقيا من عام 1948 حتى إلغاء هذا النظام بدءاً من 1990.

وهكذا، فالعربية اليوم في حاجة إلى إنجازٍ حَفْر فوكولتيّ شامل للمفردات التي تحتويها الفُصحى واللهجات المحلية، عن الأعراق الأخرى، خصوصًا من جَنوب العالم، كي تتخلّص من شبهات العنصريّة وتُعفي المتحدّثين بها من الإحراج، ولا سيما حين لا يحمل المُتحدّث أيةَ نزعة استعلائية، فيكون هو والمعني بالصفة، معاً، ضحيتيْن لقلّة الخيارات اللغوية وغموضها. هذا العمل الذي ينتظر اللغويّين ينبغي أن تسبقه تهيئةُ للعقول كي تفصل بين الإنسان ولونه وأصوله، وهذا دور الفن والأدب والإعلام وحتى الخطاب السياسي.

إلّا أنَّ مهمّة مراجعة العربية لمفرداتها، ذات النزعة العنصرية، ليست سهلة: فإذا عدنا إلى قطاعات الثقافة التراثية ونصوص الأدب والفقه والتاريخ، اصطدمنا بما فيها من آراء تُجذّر الاستعلاء. ويمكننا أن نستذكر جُمَل ابن بطّوطة، المُفرطة في عنصريتها، في وصفه لأهالي أفريقيا. ولنكتف بمثل واحدٍ عن سكّان مالي يقول فيه: "إنَّ الخَدَم والجواري والبنات الصغار يَظهَرن للناس عَرَايَا، باديات العورات"، وغيرهم ممّن كانوا "يَأكلون الجيفَ والكلابَ والحَميرَ"، ويسكنون مناطقَ "لا يَدخُلها الأبيضُ، من الناس، لأنّهم يقتلونَه، قبل الوصول إليها". وهذه على الأرجح، صُوَرٌ ذهنيّة أو حكايات سمعها فصدّقها، أكثر من كونها مشاهداتٍ. والأمر غير بعيد عن ذلك في الإنتاج الشعري الكلاسيكي؛ حيث كان اللون والأصل العشائري من بين المثالب التي يُظهرها الهِجاء. والكل يعرف قصّة المتنبّي مع كافور الإخشيدي وتنصيصه على أنه عبدٌ أسود، يتحدر من "أنجاس مَناكيد".

وبالعودة إلى ثقافتنا المعاصرة، نجد آثار المَيْز بارزةً لا تحتاج إلى تنقيب، فكيف نفسّر قلّة الترجمة من البلدان الأفريقية رغمَ استعمال مُعظم أدبائها اللغتيْن الفرنسية والإنكليزية، وهما أكثر اللغات التي يترجم عنها العرب؟ ثم أليس من العجيب أن يغيب ذوو الأصول الأفريقية، وأعدادهم مهمّة في بلدان عربية، مثل مصر وبلاد المغرب العربي، عن الأعمال السينمائية والمسرحيّة، ما عدا ما يُسنَد إلى بعضهم من أدوار ثانوية جدًّا، وهم دائمًا، وفْق صورة نمطية أخرى، يقومون بدور ضاربِ الطبول والدفاف أو الراقص أو الخادم.

كما أنَّ القليل النادر من هذه الأعمال خَصّص لنقد ظاهرة العنصرية والتنديد الفنّي بها بوصفها قضيةً اجتماعيةً كبرى. وتُجذّر سائر الأعمال، مثل "شمس الزناتي"، "صعيدي في الجامعة الأميركية"، و"عيال حبيبة" وغيرها هذه النظرة الدونية لدى الجمهور، ولا سيما أنَّ قوانين البلاد العربية لا تجرّم المشاهد والكلمات الساخرة من ذوي البشرة الداكنة، باستثناءات قليلة، من بينها المجلّة الجنائية التونسية التي تعاقب بالسَّجن من عام إلى ثلاثة وبغرامة مالية من ألف إلى ثلاثة آلاف دينار (قرابة ألف يورو) كلَّ مَن يحّرض على الكراهية والتفرقة والتمييز العنصري، وكلَّ مَن ينشر أفكارًا قائمة على التمييز العنصري أو من ينشئ "مجموعة أو تنظيمًا يؤيّد بصفة واضحة ومتكرّرة التمييز العنصري أو الانتماء إليه أو المشاركة فيه".

وأمّا في مجال الفقه، فتجدر الإشارة إلى الفتاوى التي أصدَرها علماء جامع الزيتونة، وفي مقدّمتهم المفتي إبراهيم الرياحي (1780 - 1850)، والتي ألغَت العبودية في الإيالة التونسية، في 23 كانون الثاني/ يناير 1846، في عهد أحمد باشا باي (1837 - 1855). وهو ما جعل ملك فرنسا يُكبر هذا الأمر فيستدعيه إلى باريس في أوّل دعوة رسمية لوالٍ عثماني. ثم أُعلن هذا التاريخ عيدًا وطنيًّا احتفاءً بهذه الذكرى. على أنَّ إلغاء العبوديّة لم يُنه أشكالًا كثيرة من العنصرية لا تزال مظاهرها حيّة إلى أيامنا. ولا شكّ أنَّ هذه المواقف السلبية ناتجة عن غياب الدولة وعدم ترسُّخ مفهوم المواطنة والتساوي فيها حقوقًا وواجبات.

وهكذا، فَحصيلة الثقافة العربية في مجابهة آفة العنصريّة لا تزال باهتة، يتجلّى ذلك أوّل ما يتجلّى في المعجم الهزيل حول الظاهرة، ممّا يؤكّد قلّة الانشغال الفكري والبحثي بها. لكنّ المسألة أوسع من مبادرات اللسانيّين والباحثين؛ حيث تسري العنصرية في السلوك اليومي لتضرب ذهنيات المجتمعات وسجلّات كلامها، وهذه الأخيرة تمثّل غابة مجهولة تتخفّى في أدغالها أفاعٍ لغوية، تبثّ سموم العنف الاجتماعي. وما لم ننتبه لهذه السموم في حياتنا المشتركة، فإن عواقبها الوخيمة قد تطاولنا. وما يحدث من صدامات في شوارع أميركا وفرنسا وغيرها ليس إلا نفثات من ذلك.

المساهمون