العلوم الإنسانية والفنون.. بحث خارج الواقع

08 مايو 2019
(غرافيتي في عمّان، تصوير: أرتور فيداك)
+ الخط -

تتفرّع الأزمة التي تواجه المشتغلين في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية والآداب والفنون في الأردن، كما في مجمل العالم العربي، إلى عدّة إشكاليات تتصل أولاها بتجاهل المؤسسة الرسمية لهذه المجالات وعدم قدرتها، كما المجتمع بشكل عام، على الاستفادة منها في التنمية.

كما لا تجد في الوقت نفسه اهتماماً من الشركات الخاصة في دعم الدراسات المتخصّصة بها على غرار الوقفيات التي أطلقها رجال أعمال ومؤسسات اقتصادية في الغرب منذ مئات السنين التي تموّل البحث في الأكاديميات والمراكز العلمية.

لعلّ انفصال هذه العلوم عن المجتمع يرتبط بتحييدها المتعمّد عن الاشتباك مع القضايا الراهنة التي تفترض تقديم اقتراحات من أجل الإصلاح والتغيير، وكذلك بالمناهج المتبعة في تدريسها التي لم يتمّ تحديثها في معظم الجامعات العربية، وتشهد مخرجاتها تراجعاً مستمراً يدلّ عليها مستوى الخريجين وكفاءاتهم.

"العربي الجديد" تستطلع هنا آراء عدد من الباحثين الأردنيين حول تقييمهم لواقع البحث في هذه التخصّصات كماً ونوعاً، والمعوقات التي تواجه الباحثين، ودور الجامعة المتحقّق منه والمفقود.

سطوة التوظيف

يقول أستاذ النقد، نارت قاخون، في حديثه إلى "العربي الجديد": "حين نتحدّث عن الواقع المؤلم للبحث العلميّ عربيّاً وأردنيّاً في مجالات مثل العلوم الطّبيعيّة والتقنية، فإنّ غياب الإنفاق الماليّ يكون في صدارة الأسباب، إمّا لقلّة الموارد أو لغياب الإرادة. ولكنّ هذا التفسير يضعف حين نتحدّث عن واقع البحث العلميّ في العلوم الإنسانيّة من آداب وفلسفات وتاريخ وفنون وعلوم اجتماعيّة، فالانطباع الأوليّ أنّ البحث في الإنسانيّات لا يحتاج تمويلاً وتجهيزات ضخمة كتلك التي يتطلّبها البحث في العلوم الطبيعيّة التجريبيّة".

يضيف: "هذه المقدّمة تتضمن الإقرار بضعف البحث في الإنسانيّات في الأردن، بل في العالم العربيّ عموماً إذا ما تجاوزنا ما يبدو "ظاهريّاً" من الأبحاث في دول المغرب العربيّ؛ فالواقع البحثيّ حتى مع أخذ أحسن أحواله في عين الاعتبار لا يزال فقيراً ومتأخّراً ومتأثّراً بظلال البحوث في الإنسانيات في العالم".

ويشير صاحب كتاب "أنساق التأويل وسننه" إلى أنه "لو أردنا التركيز على الواقع الأردني، فإنّ هذا الضّعف يتجلّى في البحث الأكاديميّ ابتداء من رسائل الماجستير والدكتوراه، وليس انتهاء بأبحاث الترقية، التي يندر أن تجد فيها قيمة بحثيّة نوعيّة، نتيجة استبداد منظومة اجتماعيّة حصرت هذه الأبحاث لأغراض "الارتقاء الوظيفيّ والاجتماعيّ" لا الارتقاء المعرفيّ، ونتيجة لغلبة هذا المقصد واستبداده انتشرت مظاهر التجارة والسّرقة، فتكاثرت حول الجامعات مراكز بيع الأبحاث الجاهزة، التي لا همّ لها إلا أن تأخذ مقابلاً ماليّاً لأبحاث فارغة تحقّق لمن يطلبها غرضه من الحصول على شهادة أو ترقية".

يخلص قاخون إلى أن "هذه كلّها أعراض للتحوّل العميق الذي أصاب أدوار الجامعات في الأردن"، مضيفاً أنه "عوض أن تكون مؤسسات معرفيّة تحوّلت إلى مؤسسات اجتماعيّة سياسيّة غرضها توفير مصادر مكافآت "مجتمعيّة وسياسيّة" بيد السلطة لفئات من المجتمع، فأمست الشهادات والترقيات والتعيينات فرعاً خالصاً عن "موازين العلاقات الاجتماعيّة"، لذلك أصبحت القيمة النوعيّة البحثيّة مقصداً مهملاً، بل معيقاً مقابل سطوة التوظيف السياسيّ والاجتماعيّ للجامعات".

البحث الزائف

من جهته، يعتقد أستاذ العلوم السياسية جمال الشلبي أن "البحث العلمي لا يتقدم دون سياسات عامة على أعلى مستوى في الدول ومنها الأردن، ولذلك، فإن الوضع الاقتصادي الصعب، وعدم الاستقرار السياسي منذ عام 2011، ساهما، في تراجعه من حيث الكم والنوع".

ويلفت إلى أن "الجامعات، بالمجمل العام، أصبحت مجرّد "مراكز تفريغ" للشهادات مقابل المال، وتحوّلت إلى عبء ثقيل على الحكومات المتعاقبة التي ترى أنها تغوص في الجهل، والعنف، والدَين المتراكم الذي وصل إلى ما يقارب الـ 170 مليون دينار دون أن تقدم أي مبادرة حقيقية وعملية لإنقاذ "النخاع الشوكي" للدولة".

يضيف صاحب كتاب "محمد حسنين هيكل: استمرارية أم تحوّل؟" أن الجامعات الأردنية تعيش حالة "البحث الزائف عبر فرض العقوبات على الباحثين والمدرسين الذين لا يقدّمون أبحاثاً خلال مدد زمنية محددة، لكن ما ينتجونه هو من أجل الترقية ولا يستفاد منه في خدمة المجتمع والدولة، كما أن كثيراً منه يُنشر في مجلات تطلق على نفسها "أكاديمية محكمة وعالمية" لكنها ليست أكثر من "دكاكين" تسلّع المعرفة والعلم".

الباحث الجيد يضطرّ إلى مغادرة الأردن لأسباب متعدّدة، وفق الشلبي، إذ يعزف الكثيرون عن طرق باب "صندوق البحث العلمي" المرصودة له مبالغ محدودة، كما أن إدارات الجامعة التي هبطت بالبراشوتات، تتشدّد في عدم السماح للباحثين للمشاركة في المؤتمرات والندوات واللقاءات الدولية مقابل اجتذابهم من قبل جامعات الخليج التي توفّر أفضل العروض والتسهيلات البحثية والأكاديمية لهم مالياً ومعنوياً، حيث يقدّر أن ربع الكوادر التدريسية والبحثية الأردنية تعمل فيها".

سياقات سلطوية

أما أستاذ التاريخ العربي الحديث، مهند مبيضين، فيلفت إلى أن "معظم الأبحاث في العلوم الإنسانية والاجتماعية تصدر باللغة العربية، وانفتاحها على النظريات العلمية الغربية والتطور الجديد الذي أصاب حركة البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية في الغرب قليل جداً، حيث لا يزال تدريس التاريخ بالغالب حدثياً وسياسياً بمعنى أنه يركز على الأحداث السياسية وتغيب فيه البحوث البينية والواقعية التي تعالج وتعاين حركة المجتمع وتطوراته التاريخية، إلى جانب تأثرها بالسياقات السلطوية التي تفرض عناوينها والمعالجات المنهجية".

ويوضّح صاحب كتاب "الفكر السياسي الإسلامي والإصلاح: التجربتان العثمانية والإيرانية" أن "هناك أزمة في تدريس المناهج الاجتماعية والإنسانية وعدم مواكبة للتطور في الطفرة الوثائقية الجديدة في مجال التاريخ، بمعنى أن هناك فترة تم التركيز فيها على دراسة الدولة والمجتمع الأردني والتاريخ الحديث من خلال سجلات المحاكم الشرعية والدفاتر العثمانية، لكن هذا الأمر وإن كان مهماً إلا أن التحليل والتأويل فيه قليلان".

يتابع: "الانفتاح أيضاً على الأرشيف الوسيط للدولة في الأردن قليل؛ الأرشيف المقصود به وثائق المؤسسات المالية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية، والذي يختزن في دواخله تاريخ المرض والجوع والكرم وبناء المؤسسات وأدوار النخب السياسية وتوظيف القبلية والسجون، إذ ليس لدينا أعمال تاريخية عن تاريخ السجون أو الأمراض أو طبيعة بناء النخبة السياسية".

وينبّه صاحب كتاب "ثقافة الترفيه والمدينة العربية في الأزمنة الحديثة - دمشق العثمانية" إلى أن "مناهج البحث التاريخي الغربية التي طوّرت البحث عن المنطقة العربية ومنها الأردن لم يتم تلقيها بالشكل المطلوب، فمنهج مدرسة الحوليات الفرنسية أو الميكرو هيسترو الإيطالية أو النظرية الماركسية أو الوضعانية هي آفاق غائبة ولا تحضر في البحث الأكاديمي".

تجاوز هذه الحالة، بحسب مبيضين، يستدعي من الجامعات والمؤسسات الداعمة تجديد أولويات البحث، حيث "إن الذهنية الحاكمة للباحثين والمشرفين الأكاديميين تظل مسكونة بهواجس إرضاء السلطة والحكم، وبالتالي يغيب تاريخ الناس والحركة الوطنية وسيرة المجتمع، ما يكشف عن صعوبات في استعادة التاريخ المطلوب ومنه تاريخ الزمن الراهن مثل الحركات الاحتجاجية وعمل النقابات والصراع الاجتماعي والفساد وأدوار المؤسسات".

أزمة متجذرة

يعزو أستاذ الأنثربولوجيا الاجتماعية، محمد الطراونة، السبب الأساسي في ضعف بحوث العلوم الاجتماعية إلى السياسات الخاصة للحكومة، مشيراً إلى تجاهل البحوث المتخصّصة في الفقر والبطالة وتحوّلات الأسرة الأردنية، وأن المؤسسات المانحة الدولية فقط هي التي تشترط وجود باحثين خلال تنفيذ مشاريعها التنموية.

ويعود صاحب كتاب "التنمية الرأسمالية الريفية في الأردن" إلى واقعتين حدثتا معه، الأولى تتمثّل في استدعائه مع متخصّصين لعمل دراسة حول الباص السريع عام 2008، وأتت توصياتهم بعدم تنفيذ المشروع لكن لم يتم الأخذ بها، والثانية عقب أحداث معان عام 2003، حيث شارك مع فرق بوضع مجموعة دراسات بعنوان "أزمة معان.. أزمة مفتوحة" تم الأخذ ببعضها في حينه فقط.

يتابع قائلاً: "الأزمة متجذرة في العلوم الإنسانية فأغلب الأساتذة المتخصّصين غير كفوئين وتمّ تعيينهم بالواسطة والمحسوبيات، ويغلب الضعف على معظم نتاجاتهم التي يقدّمونها لأغراض الترقية، وأغلب اختياراتهم البحثية منفصلة عن الواقع".

ويختم صاحب كتاب "الخطة الاستراتيجية لتنمية وادي عربة 2016 – 2046" باستعراض واقع معهد الأنثروبولوجيا في "جامعة اليرموك" الأردنية، والذي كان يعدّ من أبرز المؤسسات البحثية في العالم التي لا تمنح سوى درجة الماجستير، لكن منذ تحوّله عام 2003 (الملف أحيل إلى هيئة مكافحة الفساد للاشتباه بالقرار وآليات تنفيذه) إلى كلية تمنح البكالوريوس في ثلاثة تخصّصات تراجعت مخرجاته البحثية.

في غياب مرجعيّة

من جانبه، يشير أستاذ الفن والتشكيلي غسان أبو لبن إلى أن "واقع البحث في مجال الفنون يواجه عدة صعوبات، منها يتعلّق بعدم وجود توثيق احترافي متخصّص يعمل على متابعة الحركة الفنية باستدامة وبمنهجيّة علمية تعتمد على علم التوثيق واستخدام أدوات البحث العلمي والتأريخ".

يتابع بالقول: "النقص يكمن أولاً في انتقائية المتابعة وغياب الباحث المتخصّص المتفرّغ للقيام بهذا العمل، وثانياً في غياب المؤسسة التي من واجبها التصدّي لهذه المسؤولية، مثل الجامعات والمتاحف المتخصّصة ومراكز البحث الفني".

"تعاني المكتبة العربية والمحليّة الفقر في مجال المطبوعات سواء الكتب المتخصصة أو الدوريات المتخصصة أيضاً، فلا يكفي وجود دورية تعنى بمجمل الفنون، إذ إن المطلوب هو وجود دوريّات متخصصة تنفرد بحقول الفنون جميعها، بل وتنفرد كذلك بفروع تلك المجالات وتقنياتها، وهذا ما سوف يراكم مع الوقت مرجعيّات غنيّة يجد الباحث فيها ضالّته"، بحسب أبو لبن.

ويوضح أن "أبرز العوائق التي يواجهها الباحث تتمثّل في غياب مرجعيّة متحفيّة متخصصة، وعدم وضوح المصطلح الفني وتعدد دلالاته والتباس معناه خصوصاً عند ترجمة المصطلحات أو استحداثها في اللغة العربية، وعدم وجود جهات داعمة للبحث والمطبوعات الفنيّة مقابل التكلفة العالية لإجراء البحوث الفنيّة".

حول دور الجامعة، يرى أبو لبن أنه "ينحصر على البحث المكتوب أو البحث النظري، دون التفات إلى البحث العملي، ورغم ذلك تظلّ الجامعات هي أكثر المؤسسات الداعمة للبحوث بحكم آلياتها الأكاديمية وبرامج البحوث التي هي من ركائز وجودها الأكاديمي".

المساهمون