"شبابك الجنة": اغتسال الروح بلغة سينمائيّة متماسكة

30 مايو 2016
أنيسة داود في لقطة من الفيلم
+ الخط -

رجلٌ وامرأته في مواجهة تحدّي الموت. "شبابك الجنّة" (2015) للتونسي فارس نعناع (1975) محاولة سينمائية لقراءة معنى العلاقة الزوجية، على ضوء التحدّي المفروض عليهما، في أسوأ مظاهره، وأقساها. الموت ضربة قاصمة، تصنع شرخاً في الذات والروح، وتُنشئ هوّة سحيقة بين المرء وذاته، كما بينه وبين الآخر. ضربة مؤلمة، خصوصاً عندما "يضرب" الموت ضربته تلك في أجمل الحالات، وأنقاها وأكثرها براءة.

الفيلم التونسي روائيٌّ طويل أول لمخرجه، يرسم ملامح حالة عصيّة على الوصف، لشدّة بؤسها وألمها. سامي (لطفي العبدلي، أفضل ممثل عن دوره هذا في الدورة الـ 12 لـ "مهرجان دبي السينمائي الدولي"، المُقامة بين 9 و16 ديسمبر/ كانون الأول 2015) وسارة (أنيسة داود) يتمتّعان بحياة هانئة وجميلة ومتواضعة، رفقة ابنتهما ياسمين، التي تُشكّل، لاحقاً، مدخلاً إلى ما يُعتبر "السقوط في الجحيم الأرضيّ".

لن يكون موت الابنة عابراً، ولن تكون أسبابه مهمّة. "السقوط في الجحيم الأرضيّ" يبقى الأبرز في البناء الدراميّ، ومرآة تنعكس فيها وعبرها معالم تلك الرحلة القاسية للزوجين، التي تفضي بهما إلى ما يُشبه الختام المطلوب، أو الضروري: التعرّي أمام الذات والروح، والاغتسال بالدمع والقهر والخيبة، للخروج من بؤس الخراب.

القول إن موتاً يُصيب عائلة، لن يقف حائلاً دون الذهاب مع سامي وسارة في رحلتهما القاسية تلك. فالرحلة مسارات متنوّعة ومتناقضة، تنتهي في لحظة اكتشاف كلّ واحد منهما معنى الحياة بعد الموت، أو بالأحرى مغزى الموت، مهما يكن احتماله صعباً، من أجل استكمال الحياة بلغة أخرى. القول إنْ موتاً يضرب عائلة ـ فيُفكّك نسيجها الداخلي، ويفتح خزانة الماضي، المنغلقة على أسرارٍ وحكاياتٍ وأسئلة معلّقة ـ لن يمنع السياق الدرامي من تشييد عمارة سينمائية متينة الصُنعة، تضع الشخصيات في أطرها الطبيعية، وتدفعها إلى إعادة النظر بحضورها وارتباطاتها وهواجسها، من دون الابتعاد كلّياً عن تحوّل ما يُصيب الاجتماع العام، ومن دون الغرق في الاجتماع العام على حساب الخاصّ، أي على حساب التحوّل الموجع للثنائي أولاً، وللبيئة الحاضنة لهما ثانياً (أهل، أصدقاء، مقرّبون).

استعادة "شبابك الجنّة" الآن متأتيةٌ من عرضٍ بيروتيّ، بمناسبة ختام النشاط السينمائيّ لـ "مهرجان الربيع" (26 مايو/ أيار 2016)، علماً أن عرضه التجاريّ في بيروت يبدأ في 2 يونيو/ حزيران 2016، بينما عرضه الدوليّ الأول يعود إلى الدورة الـ 26 (21 ـ 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015) لـ "أيام قرطاج السينمائية". المناسبتان البيروتيتان دعوة إلى مُشاهدة عمل مبنيّ على انهيار رفاهية الفرد بسبب فعلٍ خارجيّ، وعلى معنى الخروج من الحضيض وآليته وكيفية اكتماله، وعلى جمالية الاغتسال بالدمع والقهر والألم، للتطهّر من شقاء الحياة وخيباتها، ومن الحُطام الذي تصنعه لناسها. دعوة إلى التمعّن في أسئلة الوجود والانفعال والعلاقة بالذات والآخر.

الاجتماع التونسيّ العام، خارج الإطار الضيّق للثنائي ومحيطه الأقرب، يعبر في مسام الفيلم، سعياً إلى طرح تساؤلات عن تحوّل اجتماعي ـ ثقافي لمجتمع يُعتبر أحد أكثر المجتمعات العربية انفتاحاً وتحرّراً. لكن هذا لن يكون أكثر من عبورٍ، يراه فارس نعناع (كاتب السيناريو، بالتعاون مع نادية خمّاري) حيويّاً للفيلم، لأنه يوازن بين تحوّل الثنائي في مساره الحياتي، وتحوّل البيئة في تخبّطات ما بعد "ثورة الياسمين". لن يكون الاسم المختار للابنة (ياسمين) رمزاً لثورة تموت، بل يحاول أن يؤشّر إلى تفتّح لاحقٍ (أي بعد الموت) لتبدّلات، لعلّها أكثر إلحاحاً من غيرها: تبدّل الذات الفردية باتّجاه مزيدٍ من النُضج الإنساني والانفعالي والمعنويّ، وإنْ عبر أسوأ الحالات، المتمثّلة بالموت.

"الخلاص" الفردي لكل واحد من الزوجين ينبثق من رغبة دفينة لديهما، وإنْ تكن لاواعية، في الذهاب بعيداً في الحزن والتمزّق، اللذين يظهران بشكلين مختلفين تماماً. فسامي يغرق في الخمر والسهر والانفضاض عن تحمّل مسؤولية المواجهة والخروج؛ وسارة تعثر في الغناء على تطهّر روحيّ تريده درباً إلى نهاية الألم والموت. سامي يفتح خزانة الماضي، ويعود إلى أصلٍ مخبّئ فيها، ليحصل على غفرانٍ يعينه على الخروج من الموت، عبر الموت أيضاً؛ وسارة تُصرّ على التغيّب الذاتي في عزلة الكلمات واللحن والنبرة والصوت، كي تغتسل من قسوة المُصاب، وتستعيد ـ على إيقاع أغنية "عصفور طلّ من الشبّاك" للّبنانيين أميمة الخليل ومرسيل خليفة ـ زمام المبادرة المفضية بها إلى خلاص أكيد.

أحد المآزق الدرامية في الفيلم، كامنٌ في تعدّد "نهاياته" السينمائية، إذْ يتورّط فارس نعناع في أمرين يسيئان إلى الجمالية المبسّطة والهادئة، المعتَمَدة في البناء البصري برمّته: تعدّد النهايات أولاً، والتفسير المباشر للنهايات تلك ثانياً. واستخدام "عصفور طلّ من الشبّاك" في سياق العلاقة الأمومية مع الابنة ليس مُقنعاً، بالنسبة إلى من يعرف المغزى النضاليّ الإنسانيّ الأعمّ للأغنية. لكن هذا لن يقف حائلاً دون متعة المشاهدة السينمائية، وإنْ على نبض الحزن والألم والقسوة والخراب.


المساهمون