وما أنا وحدي قلتُ

28 مايو 2021
(يوسف رخا)
+ الخط -

"ولَكِنّ قَلْبي: مُتنبّي الألفيّة الثالثة" (دار التنوير) عنوان كتاب يوسف رخا الجديد الذي يصفه بـ "شِعر/سرد" حيث يمكن تفسير الشحطة المائلة بين الكلمتين بمماهاة مقصودة بين الشعر والنثر. عمل بقدر ما هو مفاجئ من رخا (أي هذه الانعطافة اللافتة وغير المتوقَّعة نحو المتنبي)، فإنه أيضاً يشبه حركة صاحبه السابقة بين السرد والريبورتاج وغيرها من الأشكال. الكتاب الذي وضع رسومه وليد طاهر يُحتفى، به بقراءاتٍ في "النادي اليوناني" بميدان طلعت حرب في القاهرة، غداً السبت بدايةً من الخامسة مساءً. هنا مقطعان من الكتاب خصَّ بهما الشاعر والكاتب المصري "العربي الجديد".


1- الديوان

وبي ما يذود الشِعرَ عنّي أقلُّه
ولكنّ قلبي يا ابنة القوم قُلّب 

حيث يجب أن يكون عمودي الفَقْري ليس سوى قائم معدنيّ يستقبل الإشارات، جسمي يتهالك من حوله. ولقد ظننتُ على الطريق رِفاقاً فإذا هي قَفرٌ لاسلكيّ. حتى الأيام التي عوّلتُ على إنصافها لم تكن إلا صناديقَ زُجاج على أكتاف غيلان تترنّح. يمكنُكِ أن تتأكدي بنفسك. الغاوون الراغبون في اتّباعي يَفقدون رؤوسَهم على شَفْرات نعالٍ عملاقة، الرملُ في عيونهم. وأنتِ لستِ كمن حسِبوا الطَرَب فرحاً فقط فأخطأوا الشِعر في الأغنيات. الخطوب قبْضاتُ غيلان على قلبي المنتفضِ كسَمَكَة خرجتْ لتوها من الأعماق، لولا الإشارات السارحة في ظهري لَأخرَسَتْ نبضاتُه التي تَضحك وتُنهنِه صارخةً مهما تجاهلها الحُضُور. الطريق تتلوّى أمامي، ترتقي سلالمَ أبعدَ وأعلى من عزم الأمواج العاتية. وعلى السمكة أن تظلّ ممسوسةً بالكهرباء. اسمعي. ذات يوم حين تنسحقُ عظامي وتكون تحلّلتِ البقيّة، سيلاقيكِ القائمُ المعدنيّ منتصِباً يَنفض عن صلابته الصدأ في الأعاصير. حاوِلي أن تَطربي لغنائه.

وما أنا وحدي قلتُ ذا الشِّعر كلَّه
ولكنْ لشِعري فيكَ من نفسه شِعر

وتهاوى. وسْطَ مستعمرات الرمل شيءٌ بجيبي يُطقْطِق. الشمس مِثقَبٌ في الدماغ لكنْ وقفتُ أتقصّى. لم تكن خاصيّةً للمحمول ولا حَصىً مندسّاً ولا خريطة ناطقة تَصيحُ منذ الأبد بكلام كلُّه عربي وكلُّه غير مفهوم. الطقطقة في جيبي هي صوت شاعر يُدمدم. ما كنتُ أقيم على الجمر له، يقول. ولاحقاً: أنا الغابة في غابة وحدي*. دهرٌ سيمرّ وأنا لا أعرِف معنى الما هل هي نافيةٌ أم موصولة. أستوعب أنّ الغابة كلمة أيضاً، ليست فقط تضاريس. أنا في الرمل لكنّ لي عمراً أُناوِر عبر مِدقّات تُظِلُّها أشجارٌ مَرَدة. لم أسمع بالشاعر ولا اسمِهِ الأكاديّ فكيف عرفتُ أنه كَتَبَ لأُجيزَه؟ وحين أواري يدي في جيبي لا يَصدِمُني أنها تَقبِض على فمٍ. فمٌ صحيحٌ فاغرٌ، لا وجهٌ ولا رأسٌ ولا حتى شاخصٌ شَبَحيّ. فمٌ وَحدَه بلسان وشفتين خَضِلَتين تنبِسان، صاحبه مات لكنّه يُنشد شيئاً. ما كنت أعيش لأسمَعَه.

* عبارتا "ما كنت أقيم على الجمر له" و"أنا الغابة في غابة وحدي" من قصيدة "قارئ الكتاب"، مفتتح مجموعة "حامل الفانوس في ليل الذئاب" لسركون بولص.

■■■

ليت الغَمام الذي عِندي صواعقه
يزيلهن إلى مَن عنده الدِيَم 

أربعةٌ وأربعون عاماً حتى أعرفَ أن الدِيمة هي المطر الحنون، ذلك الذي حين يَنزل لا تُصاحبه أصواتٌ مُفزعة، وأن مجيئَه متوقّف على أمزِجَةِ الغَمام. جَرّبي مَرّة أن تُكدّريه، أن تُذكّريه بمتاعبِ الحياة، ولو رأيتِ غير أهوالِ السماء اتفُلي على وجهي. معقولٌ كل هذه السنين وأنا أُكابِر؟ الصواعق التي تُحيلني شَبَحَاً مُعتذِراً يزحَف على أمل أن تَمصّه الأرض، التي تجعل المياهَ إيهاماً بالغرق والجفافَ تعذيباً بالكهرباء، وحدَه الغمام يستطيع مَنْعَها كما يُرسِل الدِيَمَ غيداءَ وشهيّةً وفرحانةً باحتوائي. أربعةٌ وأربعون عاماً حتى أراها كُراتٍ من الفِضّة تتراقص في أسرابٍ على هيئة طائرة أو حِصان، تتجسّم للقائي. فأعرِف أن الشوق ليس سوى المياهِ التي تَقطُر من أجسامنا حين يعصِرُنا الفِراق. الدِيَم عندي أنا يا حبيبتي. في جِلدة رأسي من الداخل سماءٌ أحاول أن أكون غَمامها. وحتى الأرضُ التي تحملني مجرّد حُجّة لأكتب لك. الآن يَنقعني المطر.


2- الشَرْح

أقرأ المتنبي في المترو. أضعه على موبايلي لأفعل. في الصباح آكل تفاحة خضراء وأُسرِع إلى النادي. أعوم ساعة وربما أرقد في الشمس ثم أستحم. الوقت صيف وعلي أن أذهب مبكراً. الفترة المخصّصة للأعضاء الكبار من السابعة إلى التاسعة فقط، بعد ذلك تمتلئ المياه بالأطفال والمُدَرِّبين. طول عمري شخص ليلي لكنّي الآن مستمتع بالاستيقاظ واستنشاق الهواء.

دخنّت خمساً وعشرين سنةً قبل أن أفكّر في التوقّف. الآن أَتمّ ثلاثة وأربعين وعندي ولد وبنت. بسببهما رجعتُ أتردّد على النادي. لما بدأتُ أضع علبة سجاير في جيبي كنت لا أُطيق فكرة مكان لا يُفتَح لغير أعضاء متعالين. الأجواء العائلية منفرّة. ولسنينَ ظللتُ أحس أنّ الذي يذهب إلى النادي هو الطالب المجتهد الذي أكره أن أكونه. طبعاً ما زلتُ أفضّل جلسة المقهى (الإفرنجي بالذات) لكن لولا النادي أين كنتُ لأعوم أو آخذ العيال الآن.

المحاولات الرياضية بدأت خلال أسابيع من إقلاعي عن التدخين. كنتُ أمضيتُ أربعة أشهر أُقنِع نفسي أن الحياة ممكنة بلا دخان. الالتهاب الرئوي أهلكني وأسعار السجاير في ارتفاع. أكثر من طبيب قال إنّ الوقت حان والعواقب وخيمة. في السنتين الأخيرتين أيضاً زاد وزني بدرجة لافتة. ورغم أني أتحاشى الاعتراف بحجمي، أعرف أني طالما أدخّن لن أستطيع أن أنظّم طعامي أو أغيّر إيقاع حركتي. أشتغل وأسوق وألتقي بالناس والسيجارة في فمي. آكل وأنام وأصحو بإيعاز منها. ألهث إذا طلعتُ السلّم. وطول الوقت أقرأ وأدخن. ساعات متواصلة على السرير مع الولّاعة والطفّاية وكتاب.

لا أفكّر في نفسي وأنا أضيع في دهاليز اللغة العالية

أوقاتاً يبدو لي أني لم أفعل أي شيء آخر بين السابعةَ عشرة والسابعة والثلاثين. سافرتُ وتعلمّت واشتغلت وتصعلكت. أصدرتُ كتباً وشاركتُ في احتجاجات اتُهمتُ بعدها بأني إسلاموفوبيك وبرجوازي. دخلتُ في علاقات وأنجبتُ أطفالاً وعمِلتُ انهياراتٍ عصبية. كل هذا والسيجارة في فمي.

القراءة هي التي تُشعِرني أن التوقّف مستحيل. عندي رعب من أنْ يكون الإبداع الأدبي غير ممكن بلا سجاير. لهذا كان ضرورياً أن أمرّ برحلة تداوٍ ذاتي مدتها أربعة أشهر. في البداية توقّفتُ مباشرة. لم أتعرّف على نفسي وكانت معاناة. بعد ثلاثة أيام رجعت.

الآن أعترف أن التدخين في البيت ساهم في تأزّم بنتي قسمت. سنُجري لها جراحة اللحمية بعد عام. عملتُ لنفسي مكان تدخين في البلكونة لأكون بعيداً عنها وأخيها الصغير مراد. لأول مرة في حياتي واجهت حقيقة أن الدخان غير ضروري. وبدأت أَعُد السجاير التي أُشعلها وأنا آخذ وأعطي مع نفسي. أهدهدُها. أقول لها على راحتك. أفهّمها أن الموضوع مجرد سلوك ميكانيكي مدفوع بقناعة زائفة. لا متعة ولا فائدة. وكل يوم أصدّق أكثر قليلاً أن الأشياء ممكنة بدونه.

ذات يوم في البلكونة أطفأتُ سيجارتي الأخيرة. كنت أعرف أن هذا هو اليوم مع أني لم أسجّل التاريخ. الأكيد أنه ليس قبل عيد ميلادي الأربعين بكثير. عانيت بضعة أشهر بعدها لكنها معاناة محتملة. أكثر ما يساعد على احتمالها انبهاري بكوني شخصاً لا يدخّن.

لأول مرة أنتبه إلى لياقتي وحالة أسناني وبشرتي فضلاً عن صحة رئتي. بعد عام غيّرت طريقتي في الأكل حتى بدأ وزني ينخفض. تخِفّ شوائب الجلد في وجهي. بتُ أقل عصبيّة وتوتراً بدرجة ملحوظة، بالذات بعد أن فقدتُ أول عشرة كيلوغرامات.

لاحظتُ وقتها أنّ رحلة التداوي كانت طقس تحوّل نصف واعٍ وأنها إنجاز. كانت ركبتي توجعني من محاولات الجري والتأمّل. اتفقتُ مع الشخص الذي يدرّب قسمت في حمام سباحة النادي وشيئاً فشيئاً، لأول مرة في حياتي، تعلّمت العوم.

هناك شيء أخّاذ في اللسان المضبوط المصقول على قديمه

وبينما أنا مُحبَط في الشعر المعاصر وضعتُ شرح ديوان المتنبي على موبايلي. هكذا في الطريق من النادي إلى محطة البحوث آكل كوز ذرة مشوياً ثم أركب إلى محطة الإسعاف. الشبكة في المترو ليست عظيمة. من زمان أتجنّب فيسبوك. لسنواتٍ كان هو المنتدى والمقرّ، ولما عبّرت عن قَرَفي مما يحدث بعد الثورة حصلت لي فيه مشاكل. حتى أيام الثورة لم تكن حياتي الاجتماعية صاخبة لكنْ بشكل أو آخر كان عندي حياة. بعد المشاكل التي حصلت في فيسبوك وقَرَفي الشديد مما يحدث ومن أصحابي الذين يَدَعونه يحدث أو يهلّلون لحدوثه لم يعد إلا اثنان أو ثلاثة من القريبين جداً جنب أمي وأُسرتي. ورغم أن عندي موقعاً أستضيف فيه أعمال ناس من أنحاء العالم وحساباً على تويتر أروّج للموقع من خلاله، كففتُ تماماً عن استعمال الموبايل في التواصل الاجتماعي. لا أريد لا تواصلاً ولا اجتماعيات. يكفي أن تكون هناك سِباحة وشِعر عباسي. 

ولكن قلبي - القسم الثقافي

في الطريق إلى النادي أتذكّر أني لا أكتب. لا أشعر بالحزن أو الذنب، فقط بخيبة أمل فاترة. أعرف أني لا أكتب لأني مللت الأجواء والاحتمالات. جرّبت كل شيء باللغتين ولا شيء يبشّر بمساحة أوسع أو أصدق. الرائج سيء جداً والناس تعمل بهلوانات.

ليست المسألة إحباطاً شخصياً بقدر ما هي سأم من حدود الممكن. الإحساس أن كل شيء في الدنيا ضد الشعر. بالذات وأنت هنا الآن لكن أينما كنت. الدنيا تضع أولوياتها في مكان آخر. بدأت أحس أن خيانة الشعر ليست بالضرورة في التوقف عن كتابته. ربما الأسوأ هو التصميم على الكتابة عندما لا يكون لذلك معنى. أعرف أنني آجلاً أو عاجلاً سأعود أكتب. لكن أعرف أيضاً أني مللتُ.

هكذا وذراعاي يضربان الماء أتساءل كيف أصبحتُ شاعراً في سن السابعة عشر، أيام بدأت أضع علبة سجاير في جيبي. معظم الناس تنكر علي هذه الصفة لأني أكتب روايات ومقالات. ليس عندي مشكلة في قول إني أكتب شعراً، فقط أحس كلمة شاعر هذه تبجّحاً ميلودارميا. لكن الحقيقة أني أرى الأدب كله شِعراً. ولولا الشعر ما كنت كتبتُ أي شيء.

الآن وأنا أمسك بالحافة لاهثاً لأستريح بضع ثواني بين فترتين أستعيد علاقتي بالكتابة. طول عمري عندي خرم في صدري يوجعني. وجع جسدي حقيقي مع أن الخرم فقط شعور. هذا الوجع هو الذي يجعلني أكتب. ليس لأن الكتابة تسكّنه أو تداويه، لكنها تحوّله إلى شيء جميل يمكن أن أدعو آخرين إليه. وعندما يلبّي أحد دعوتي يتحوّل الخرم الذي كان يوجعني إلى شباك يرى هو منه الدنيا بطريقة جديدة.

الشِعر يغيّر العالم. وحتى لو لم يقرأه إلا شخص واحد، يظل أثمن وأروع من المنتجات الترفيهية بما فيها الكلام الموزون المقفّى لهذا السبب.

أقرأ المتنبي واقفاً مع اهتزاز المترو ولا أشعر بالدُوار

من زمان وأنا أعرف أن الكتابة مثل الحب. تُعرّي جلدك وتُشغّل دماغك لكي تكون مع شخص آخر أو تكون شخصاً آخر. وبهذه الطريقة فعلاً تتغلّب على الموت. الفرق أن الكتابة لا تحتاج إلى علاقات ومساومات ولا تنتهي إلى خِذلان أو إحباط ولا رفاء وبنين. لأن الحب يستتبع ترتيبات ويفرض على الناس اختيارات. الكتابة لقاء غير مشروط. وهي لا تستعمل إلا الكلام. الكلام ببلاش، لا؟

لما كان عندي سبعة عشر عاماً لم يكن هناك فيسبوك ولا حتى غوغل وكانت الناس تقرأ جرائد ورقية في الصباح. لم تكن هناك قنوات فضائية ولا تليفون محمول. ومع ذلك حتى وقتها كان الجميع يعلم أن الكلام كله فارغ ولا يفيد في شيء. إن لم يكن أداة نصب أو أذى فهو مجرد ضجيج في خدمة أشياء مفروضة علينا جميعاً. وحده الشعر كان يشكّكني في لا جدوى الكلام. يقنعني باحتمال أن يكون للكلام جدوى.

«وعن تدوير ما يمتد في الدنيا إلى كلمات / وعن بسط ما يلتف في نفسي إلى كلمات»، هكذا يقول صلاح عبد الصبور الذي قرأته وقتها. أظن أني فهمتُ أن الكتابة على غير كل الاستعمالات المطروحة للّغة تضع الواقع في خدمة الكلام وليس العكس. تدعك تنظر إلى العالم بلا مصلحة أو عقيدة. وتُمكّنك من الاقتراب من آخر لتتوجعا معاً بلا احتمال استغلال. لكني توجّعتُ وكتبت سنين والدنيا تتحوّل. لا أحب ما يحبه الناس ولو حدث يكون لأسباب مختلفة. ومع أني لم أفقد إيماني بالشعر، لي شهور والسأم يُقعدني.

على شبكات التواصل أشياء بشعة حقاً. مفزع ما يحدث للقيم والعلاقات. ليس في السياسة وحدها لكن حتى في الفن. الغرام. النضال حملات إعلانية والعدالة سحل في الشوارع. بلا محاكمة. كل الأعراف والميول تُستبدل ببروتوكولات استهلاكية مستوردة في منتهى السطحية والغباء. المسئولية الشخصية. الثقة في الشريك. الجرأة. الخصوصية. أحلى ما في اتصال الناس ببعض تُبيده الإنترنت بدعم ممنهج. المادة الخام للشعر تتحول إلى ممنوعات. ومع ذلك مازال الكتّاب يقفون على رؤوسهم ويكذِبون بشكل مفضوح ليكون مَرضيّاً عنهم. مكاتب الناشرين أسواق بقالة. والنفسيات كما يقال جحيم. على كل حال لا أحد يريد أن يقرأ شعراً. ومع أني طول عمري أهرّب الشعر في أشكال أدبية أخرى، أنا أيضاً لا أريد أن أكتب.

عندما أرقد على ظهري متعباً ومبلولاً وشمس الصيف تعميني أفكّر أن الإيمان بالشعر ممكن ممارسته في القراءة وهذا الأوقع. هناك شعر عظيم مكتوب بلغة أفهمها ولا علاقة له بي. لا علاقة له بما يحصل في العالم. لأول مرة أحس أني ناضج ورائق بما يكفي لأبدّي القراءة على الكتابة فعلاً.

أقرأ المتنبي واقفاً مع اهتزاز المترو ولا أشعر بالدُوار. خمس دقائق في خمس دقائق، مع الشَرح. أقرأه بالليل لفترات أطول وأحياناً في النادي عندما أذهب لأعوم. الموضوع مختلف عن القراءة العادية لأنه بطيء ومعمَّق. أنتبه إلى الوزن والغرض. أنتظر البيت الذي يتحول فيه الكلام من غَزَل مُجَهَّل إلى مديح شخص. تعلّمت أن هذه النقلة اسمها حُسن التخلّص. تعلّمت كلمة نسيب، وكلما تكررت في أذني شعرتُ بدغدغة لذيذة.

الشِعر يغيّر العالم. وحتى لو لم يقرأه إلا شخص واحد

أقرأ الشرح كله حتى وأنا فاهم. في كل بيت تقريباً كلمة تحتاج إيضاحاً. أوقاتاً أظن أني فهمت وأنا لم أفهم. وفي كل خمسة أو عشرة أبيات بيت فعلاً كأنّه صيني. على عكس المتوقَّع عندما لا أفهم أُستثار. معي دفتر صغير أدوّن فيه أبياتاً وألفاظاً وتفعيلات. على الموبايل أيضاً كُتُب في القواعد والعَروض. ثلاثة تطبيقات مُعجمية أرجع لها. أخيراً فهمتُ الأوزان وتنوّعاتها. في بداية كل قصيدة أستخرج البحر وحدي، ثم أراجع المعلومة لأتأكد.

في كل الشعر العمودي الذي قرأته لا يشدني من خصيتي إلا بحر الطويل. الوزن الوحيد الذي يركب على نغمة صوت ياسين التهامي في قصيدة هو الحب فاسلم. هكذا أتأكّد منه عندما أتعرّف عليه بالأذن. وحتى في ديوان المتنبي، أحب البسيط والوافر والكامل لكن الطويل وحده يشدني من خصيتي.

أركّز مع الأبيات الصعبة. بعضها تَمضي أيام حتى أستوعب تركيبه. للعبارة الواحدة أكثر من إعراب محتمل. سأعرف في ما بعد أن المتنبي أحياناً يتكلف، لكن حتى في تكلفه عنده خفة تجعله أقرب إلى البحتري من المتكلف الأكبر أبي تمام. اللغة صعبة كلها. أتعلّم قواعد لا أعرفها، وأخرى أتذكرها لم تخطر ببالي من سنين. أعرف نحواً جيداً وبعض الصرف. لكن مع التشكيل أكتشف أن كل المُتعارَف عليه وارد أن يكون خطأ. ما تعرفه مكسوراً صوابه مضموم أو مفتوح، أو العكس. لكل فعل ثلاثي حدوتة. والحقيقة أن مدى ما لا أعرفه يذهلني.

الجنون ليس أننا لا نعرف. الجنون أننا لا نعترف بما نعرفه صواباً. ألف عام ولا زلنا في مساحة قُل ولا تقل. لهذا، وأنا الشاعر منذ خمسة وعشرين عاماً، أجدني للمرة الثالثة أتعلم لغة عربية.

لكن وعلى عكس المتوقّع أيضاً لا أتضايق. هناك شيء أخّاذ في اللسان المضبوط المصقول على قديمه. أتفكّر معانيَ منسيّة لأسماء بنات مثل نوال ورباب ولمى. وأتعود على اصطلاحات آسرة مثل أنثني بمعنى أعود أو بَرَى بمعنى أهلك أو ندى بمعنى عطاء. الحِصان السريع يسمى سابحاً، أما الحرب فهي الكريهة. لا أفكّر في نفسي وأنا أضيع في دهاليز اللغة العالية كما يسمّيها عارف الحجاوي. كتابتي خارج هذه القضية تماماً. وكونها كذلك أيضاً يشجّع على المجهود المبذول.

أهرب من زمني الشعري، من شروطه المُضحِكة. أهرب حتى من طموحي. أبحث عن كتابة لا تشبهني لكنها تستحق الاهتمام. أليس هكذا يكون الإنسان شاعراً بحق؟ وكل خمسة أو عشرة أبيات فعلاً أجد بيتاً يوقِف قلبي.


بطاقة

وُلد يوسف رخا في القاهرة عام 1976. شاعر وكاتب وصحافي ومصوِّر فوتوغرافي، كان أوّلُ كتبه مجموعةً قصص قصيرة بعنوان "أزهار الشمس" سنة 1999. وصدر له في الشعر: "كل أماكننا" (2010)، و"يظهر ملاك" (2011). وفي الرواية: "كتاب الطغرى" (2011)، و"التماسيح" (2013)، و"باولو" (2016). كذلك أصدر ثلاثة كتب في أدب المكان: "بيروت شي محل" (2006)، و"بورقيبة على مضض" (2008)، و"شمال القاهرة غرب الفيليبين" (2009). ومن بين ترجماته: "الشهادة" لـ جان بانفيل (2020).

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون