وقفة مع جورج كدر

10 يوليو 2022
جورج كدر (تصوير: يوسف الجندي)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "أحببت أن أكون صحافياً لأنّه ميدان حيوي ومُشترك مع الحقول المعرفية"، يقول الباحث والصحافي السوري لـ"العربي الجديد".



■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

- ما كان يشغلني قبل ربع قرن، متى نحصل على الحرّية والكرامة؟ ما أقصدُه الحرّية في كلّ شيء، حرّية التفكير، وحرّية الاختبار، وحرّية التعبير، وحرّية الاعتقاد. ما بدأتُه قبل ربع قرن من حياتي وواصلتُ العملَ عليه ينصبُّ في هذا الإطار، حاولتُ في أعمالي البحثيّة أن أخوضَ في غِمار مواضيع شائكة في الفِكر العربي وعلى رأس ثالوثُها المحرّم الجِنس والدين، تبقى السياسة وتلك كان لي فيها كتاب "هندسة الفِتن". بكلّ الأحوال، السياسة هي مُحرّك الجنس والدين، وتشكّل قاعدة هذا الثالوث، فالسُّلطة السياسية هي التي تحدّد الحرّيات الجنسية والدينية باعتبارها أعتى أدوات السيطرة على وعي الجماهير، ولنا في النموذج السعودي المُعاصر أبرز الأمثلة الحيّة لصناعة التغيير الدراماتيكي في مجتمعاتنا العربية، ببساطة "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أصبحت "هيئة الترفيه"، هذا نموذج مهمٌّ للتغيير الذي تصنعه السلطة السياسية التي بيدها فقط إرادة التغيير في مجتمعاتنا وبكبسة زرّ.

وفي بلدٍ حضاري كسورية، رزح تحت سطوة البسطار العسكري والقبضة الأمنيّة المُخابراتية المَقيتة، لم يكن أمامي سوى خيارِ اقتحام عالمِ الجنس والدين، وهذا ما فعلتُه في مشروعي "مكتبة الجنس في حياة العرب" الذي ولجتُ من خلاله إلى التاريخ العربي، عالم خفيّ بديع بتنوّعه. وأظهرتُ في مشروعي مدى الحرّية الجنسية التي كانت سائدة فيه، وهو حقل يتداخل إلى حدٍّ مُدهش مع الدين العربي القديم الذي كان الجنس يُشكّل محوراً هامّاً فيه بصفته طاقة كونية للخلق والتجديد، لا بصفته الميكانيكية الإيروتيكية كما حاول الاستشراق تصويره في رؤيتهم عن الشرق.

هذا ما أدخلني إلى عالم الأديان المتنوّع والجميل عند العرب القدماء، بدأته في كتاب "النكتة الحمصية"، وقد تستغربون من ذلك، ولكن للأديان أيضاً علاقة بالتنكيت والتبكيت، ثم في "معجم آلهة العرب قبل الإسلام" الذي جمعت فيه ما يقارب 360 إلهاً عبدَها العرب، وفيه شرح عن كلّ منهم، وضمن هذا السياق أعمل على مواضيع فكرية مكمّلة لما بدأته وهي في طور الإنجاز.


■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟

- آخر إصداراتي كان كتاب "معجم لغة الطفولة - اللهو مع تاريخ الكلمات"، وهو عملٌ جمعت فيه الكلمات التي ينطقها الأطفال في سنتهم الأولى، وقلتُ إنّ هذه الكلمات التي تقارب مئة كلمة هي أساس لغاتنا، وهي متشابهة، وتكاد تكون لغةً عالميةً. لكنّي لم أقتصر فيه على وضع الكلمة وشرحها، وإنّما انتقلتُ بها من معناها اللفظي الظاهري إلى مضمونها المُجرّد، وكيف تسهمُ في تطوير عقل الطفل لا جهاز نطقه فقط. وحالياً أعمل مع فريق رائع من الكُتّاب السوريّين لإصدار عمل روائي جماعي يقدّم سردية الإنسان السوري، لنقفَ في مواجهة سرديات المُعارضة والنظام، بالاستفادة من الأرشيف الشفهي الذي قامت "منظّمة دولتي" بجمعه منذ عام 2016 لشهادات مئات الأبطال السوريّين.

هل أَصدق من الجنون في عالم ظاهرُه عقل وباطنه خراب؟

■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟

- إرضاءُ الناس غايةٌ لا تدرَك، ولكنّ إرضاء النفس غاية يجب أن تُدرك، لأنه في الرضا عن نفسك قناعة وفي القناعة سلاماً، سلاماً مع محيطِك وسلاماً داخلياً لكَ يقيكَ من تقلّبات الزمن، وما أشدّها وطأة عليك إن أصابتك لحظة ضعف! بهذا المعنى أنا بالتأكيد راضٍ عن إنتاجي لأنّني أصلاً أكتبُ لأعرف، أكتب لنفسي، لأستمتع بكلّ اكتشاف معرفي، هذا حصل لي عندما بدأتُ بأوّل أعمالي "تاريخ النكتة الحمصية" عام 1999 لأُجيب عن سؤال كثيراً ما تعرّضتُ له منذُ يفاعتي ولاحقني حتّى في دراستي الجامعية في "جامعة دمشق": "شو آخر نكتة حمصية؟".

هذا السؤال كلّفني أربعَ سنوات من البحث عن تاريخ النكتة الحمصية، لأنطلقَ من مجموعة نكات تُطلَق على مدينتي حمص التي يقولون إنّ لها عيداً أسبوعياً للجنون هو يوم الأربعاء، لأكتشفَ تاريخاً دينياً مُذهلاً ضارباً في القِدم حفظته ذاكرة المدينة بسلسلة أعياد شعبية لا تزال متواصلة إلى اليوم، وهي "خمساناتها" الشهيرة في الربيع بما فيها "خميس الحلاوات"، إضافة إلى قيمة يوم الأربعاء في التاريخ الديني لشعوب المنطقة، وليس لحمص فقط. كذلك حصل معي في مشروعي "مكتبة الجنس في حياة العرب" ولاحقاً "معجم آلهة العرب قبل الإسلام".

وأحبّ أن أعقّب على أوّل مؤلّفاتي، وأقصد "جذور النكتة الحمصية"، فكثيراً ما راودتني فكرةُ الخلود أيام شبابي، لا سيّما بعد أن قرأتُ "ملحمة جلجامش" التي اكتشفتُ فيها أنّ الأعمال البطولية والإنجازات الإنسانية هي التي تخلّد الإنسان، لأنّه فانٍ لا محالة. لذلك فكّرتُ أن أربطَ اسمي باسم مدينتي حمص وأبحثَ في ما خاضت فيه قلّة من الباحثين في تاريخِها، وعندما عثرت على ضالّتي، وهو موضوع الجنون، قلتُ سأترك بصمةً في هذا المجال، وهل أَصدق من الجنون في عالم ظاهره عقل وباطنه خراب؟

وهذا حدثَ لي عندما وصلتُ لاجئاً إلى هولندا وخضت صراعاتٍ وجودية في معركتي لأُصبحَ مواطناً في هذا البلد، وعندما وجدت ضالّتي في الإقليم الذي أقطن فيه، وهو إقليم ليمبورخ، وجدتُ أنّ ثمّة شبهاً بمدينتي حمص؛ فلأهله لغة خاصّة وهم يضمّون الكلمات كأهل حمص، ولهم كرنفال يحتفلون به كلّ ربيع يسوده الهرج والمرج، وهو ما كنتُ قد وجدته سابقاً في تاريخ مدينتي. فأجريتُ مقاربةً بحثية لاقت صدى لدى المُهتمّين بالتاريخ الثقافي والاجتماعي، وسيكون لي قريباً ركن صغير في "متحف ليمبورخ" يضعون فيه نبذة عن بحثي في التاريخ الشعبي لأهل البلدين وكتاب "النكتة الحمصية". وهو من البصمات المهمة والأثر الطيب الذي يمكن أن يتركه الإنسان ذكرى في موطنه القديم والحديث.


■ لو قيض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟

- كنتُ سأختار طريق الصحافة مرّة أُخرى. أحببت أن أكون صحافياً لأنّه ميدان حيوي ومُشترك مع الحقول المعرفية، أدبيةً كانت أم عِلميةً، جدّيةً كانت أم ساخرةً. لذلك كانت حياتي عبارة عن مسارات وليست مساراً واحداً، وفي كلّ مرّة خضتُ فيها في حقل معرفي، كنت أصنع لنفسي مساراً جديداً. وجدتُ في طَرق أبواب لا يجرؤ كثرٌ من الباحثين على طرقها عالماً رحباً لي، فالخروج عن السرب ممتعٌ يتيح لك رؤى جديدة متحرّرة عن السائد. 

فمثلاً، واحد من كتبي المحبّبة إلى قلبي، واسمه "سقيفة حُبَّى" بضم الحاء وفتح الباء وتشديدها، كان عن شخصية رائعة في صدر الإسلام وهي حُبّى المدنية، هذه المرأة قمتُ بإعادة توثيق حضورها في المشهد العربي القديم لأنّها مهمّة، وكان لها دورٌ في زِيجات العرب، والزواج كان أحد مراكز النفوذ والسُّلطة، وكانت لها مدرسة لتعليم فتيان وفتيات قريش فنون الحب جعلتها في سقيفة منزلها، وبهذا المعنى يخبرنا التاريخ العربي عن واحدة من أوائل المدارس التي علّمت الفتيان فنون الحب والجنس، وهو ما تتفاخر به مدارس الغرب اليوم في حديثها عن تحرّرها. 


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- أنتظر أن تنتهي معاناة الكائن البشري ويحدثَ التغيير الذي ينقله إلى العالم الإنساني الذي ينشده، لأنّ البشر، اليوم، ضائعو الهوية، فهُم بعد انفصالهم عن مملكة الحيوانات ومحاولتهم شقّ طريقٍ مختلف، ما زالوا ضائعين بين هويتين: الهوية المتوحّشة، وقانونها شريعة الغاب كما هو حالهم في عالم اليوم، وهوية منشودَة وهي الهوية الإنسانية. حتّى اليوم هم يحلمون وينظرون للإنسانية ويُهملون الإنسان حتى في الدول الأكثر تطوّراً. هم إلى اليوم لا يزالون أقرب إلى طبيعتهم المتوحّشة، لا بل هم أكثر الكائنات افتراساً على سطح الأرض، لكنّهم بالمقابل أكثر الكائنات التي تملك إرادةَ التغيير وتحلم بالحرّية والعدالة والكرامة والمساواة. بكلّ الأحوالِ، نحنُ ما زلنا شهوداً على مرحلة طفولةِ الكائن البشري التائه، هو مخاض نعيشه حروباً وصراعاتٍ وكراهية، ولكنّي رغم ذلك متفائلٌ بمستقبلٍ أفضل.

وجدتُ في إقليم ليمبورخ الهولندي شبهاً بمدينتي حمص

■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟

- جمال عبد الناصر، لأسأله كيف استطاع أن يجرّ ملايين الناس خلفه كالأغنام، كيف باعهم الهزائم على أنّها انتصارات بكلّ تلك الاحترافية المُذهلة.


■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

- "سيكولوجيا العنف - التاريخ الإجرامي للجنس البشري" لكولن ولسون. 


■ ماذا تقرأ الآن؟

- أقرأ حالياً "سلسلة الحيوانات: التاريخ الطبيعي والثقافي"، الصادر عن "هيئة أبوظبي للثقافة والفنون" (كلمة). وإجمالاً علاقتي بالكتاب علاقة بحث دائم، لا للبحث عن أجوبة بل بحثاً عن إثارة أسئلة لم تُثرها إلّا قلّة قليلة وأتمنّى أن أكون منها. أقرأُ حالياً هذه السلسلة ضمن قراءاتٍ بحثية أشتغلُ فيها على علاقة الإنسان بمملكة الحيوان وإلى أيّ حدّ انفصل عنها، وكيف روّض الحيوانُ الإنسان لخدمته وليس العكس، نجد الحيوان في التاريخ البشري حاضراً كإله و كذبيحة، حاضراً كمعلّم للإنسان وحاضراً كخادم له. ولكنّنا بكل تأكيد محكومون بهذه المملكة المذهلة.


■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟

- أحبّ كثيراً الاستماع للعزف المُنفرد على الآلات، وخاصّة آلة العود، وهي الآلة التي أعزفُ عليها وأصنعُ عليها بعض الألحان الخاصة.


بطاقة
باحث وصحافي سوري من مواليد حمص عام 1978، ويقيم حالياً في هولندا. تخرّج من قسم الصحافة في "جامعة دمشق" عام 2000، وعمل مراسلاً ومنتجاً للعديد من وسائل الإعلام العربية والأجنبية المسموعة والمرئية، وكاتب مقال في صحف ومواقع إلكترونية. من مؤلّفاته: "البحث في جذور النكتة الحمصية" (2004)، كما عمل على مشروع "مكتبة الجنس في حياة العرب" الصادرة عن "دار أطلس"، وصدر منها سبعة كتب حتى الآن: "فن النكاح في تراث شيخ الإسلام جلال الدين السيوطي" وهو من ثلاثة كتب، و"سقيفة حبى" (2011) و"نون الصريح المدفون" (2012). وله في التحقيق: "نزهة المتأمل ومرشد المتأهل في فضائل النكاح"، (2012)، و"رشف الرضاب وفاكهة الأحباب". كما ألّف أيضاً: "معجم آلهة العرب قبل الإسلام" عن دار "الساقي" (2013)، و"هندسة الفتن" (2016)، و"قصص على حائط الفيسبوك" (2020)، و"معجم لغة الطفولة" (2022).

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون