مفكرة المترجم: مع بسّام البزّاز

مفكرة المترجم: مع بسّام البزّاز

16 يونيو 2022
(بسّام البزّاز)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "كلّ عمل كان في وقته خلاصة الخِبرة" يقول المترجِم العراقي في حديثه إلى "العربي الجديد".



كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟

- بذرة الترجمة انغرست فيّ يوم بدأتُ أتعلّم الإسبانية في مدريد صيف عام 1977. فلكلِّ كلمة إسبانية وتعبير إسباني ما يقابله في العربيّة. لذلك كانت الترجمة تحصيلَ حاصل لتخصُّصي وشغفي بالعربية، ثمّ تخصُّصي وشغفي بالإسبانية، ثم انتظار الفرصة، التي لم تسنح إلّا متأخّرة. بدأتُ مع رواية "الكوخ" لـ بلاسكو إيبانيث (1993)، وبعد ذلك بسبع سنوات ترجمتُ رواية "الطريق" لـ ميغيل ديليبس. ثمّ دخلتُ في سُبات دام ستّة عشر عاماً حتّى أُتيحت لي الفرصة مع دار "المدى" لأبدأ مشواري الذي ما زلتُ في بداياته. كنتُ أتمنّى أن تبدأ الحكاية قبل هذا الزمان بزمان.


ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟

- آخر ما صدر لي ثلاث ترجمات: رواية "ابن الإنسان" لـ أغسطو روا باستوس من الباراغواي، وقد صدرت عن دار "سرد - ممدوح عدوان"، وكتاب "رأساً على عقب"، وهو كتاب في تأمّلات إدواردو غاليانو حول وضع عالمنا المُعاصِر، وقد صدر عن دار "المدى"/ أمّا الثالث فهو مجموعة من سبع عشرة قصّة للمكسيكي خوان رولفو، وعنوانها "السَّهل المُحترق"، صدرت عن دار "أثر". أوشكُ على الانتهاء من آخر رواية كتبها الكوبي ليوناردو پادورا، وعنوانها "كغبارٍ في الريح" وأعمل في الوقت نفسه على رواية "أنا الأعلى" لـ روا باستوس، وهي من روايات الدكتاتور.


ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟

- إذا ما افترضنا أنّ المترجِم الذي نتكلّم عنه مُكتمل العدّة، فإنّ أبرز عقبة تواجهه هي العثور على الناشر، وما ذلك بالأمر اليسير. إنّها صعوبة البداية وإثبات الجدارة، أمام الناشر أوَّلاً ثمّ أمام القرّاء. أرى أنّ الأصل في كلّ صعوبة هو اكتمال عدّة المترجم وأدواته. ليس الحلّ في أن نحتال لكي "نطفر" الحاجز ونظفر ببغيتنا ولمّا تكتملْ عدّتنا أو من دون تطوير قدراتنا اللغوية والمعرفية والأسلوبيّة. وإلّا وصلنا إلى ما نحن عليه: إنتاج غزير ونوعيّات متذبذبة في جودتها.

الأصل في كلّ صعوبة هو اكتمال عدّة المترجم وأدواته

هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟

- أنا أسلّم الترجمة بعد أن أكون راجعتها مراراً، وبعد أن أكون أنفقتُ عليها كلّ عنايتي وصبري، لتصل إلى يد الناشر في أقرب صورة إلى الكمال، من وجهة نظري طبعاً. ثمّ تعود إليّ الترجمة مرفقة بالنقاط التي أشكلت على المُراجِع والأخطاء التي انتبه إليها هو ولم أنتبه إليها أنا. من المهمّ جداً أن يراجِع أحدٌ ترجمتي، بل من الأهم مراجعة الترجمة مع النص الأصلي، لكنّ المعوّقات هنا تتّصل بتوفّر العدد الكافي من المراجعين وبأهليّة المراجع وموضوعيته وما يدفع له لقاء عمله. وكلّ واحدة من هذه النقاط قصّة وغصّة.   


كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟

- في العادة يأتيني التكليف من الناشر. أرى أنّ الناشر - وكلّ من أتعامل معه، والحمد لله، صيّاد ماهر للعناوين - أعلمُ من المترجِم، على الأقل منّي، بهذا الشأن. ربّما لأنّه أقربُ إلى عالم النشر وسوقه وميول القرّاء، وأكثر اطلاعاً على مستجدّاته ونجومه. أنا كلاسيكي في اهتماماتي وقراءاتي، ولا أنتمي إلى الواقع السائد والذوق الشائع هذه الأيام، وإن ترجمتُ الكثير من الأعمال وراقت لي. مع ذلك، أظلّ أتمنّى أن أتوفّر على الوقت لترجمة أعمال هي من قمم الأدب الإسباني والعالمي.  


هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟

- لم يصادف أن واجهتُ هذه الحالة. فما ترجمته لا يتطرّق مباشرة إلى السياسة. وقد يتطرّق إليها، كما نرى في حالة پادورا مع الاتحاد السوفييتي "الرجل الذي كان يحبّ الكلاب" ومع نظام كاسترو "كغبار في الريح" أو رواية "حياتي" وحالة كارپنتييه مع الدكتاتور "أسلوب المنهج" وحالة كابريرا إنفانته مع نظام كاسترو أيضاً "ثلاثة نمور حزينة"، ولكن في إطار وتوظيف درامي لا تشعر معه بأنّه سياسة. عادة ما أتوقّف عند السياسة في المقدمة التي أكتبها لهذه الأعمال، حيث أعرض وجهة نظري، ضمن توجّه إنسانيّ أكثر منه سياسياً.

ساعة الترجمة هي استنفارٌ لكلّ تجارب الحياة وخبراتها  

كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟

- إن كان المقصود العلاقة الشخصية فأنا لا أعرف أحداً منهم. أقرأ عنهم وأتسلّح بمعرفة أجوائهم وظروفهم. ولكن من بعيد. من المفارقة أنّي أعرف القدماء المتوفّين أكثر من الأحياء. لأنّي اطّلعتُ بحكم عملي الأكاديمي والبحثي على سِيَر أدباء إسبانيا في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر أو منتصف العشرين، وشغفت بأدبهم وأفكارهم. أمّا الجُدد فأعرفهم من خلال ما أُترجم لهم.


كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟

- هو نفسه، هذا يصبّ في ذاك، ومادّة هذا هي مادّة ذاك. كلّ ما في رأسي موضوع في خدمة الكِتابة والترجمة. وحين أحسّن في أسلوبي وقراءاتي ولغتي أنقل التحسينات وأعكسها على ما أترجم. كلّ معرفة تشكّل رافداً من روافد الترجمة. فكيف إذا كانت مزيج كلّ معارفك؟ بل أرى أنّ الترجمة وعاءٌ لكلّ ما درستَ وقرأتَ ورأيتَ وسمعتَ وعشتَ وشعرتَ، وأنّ كلّ ذلك مستنفرٌ ساعة الترجمة.


كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟

- كلّ الجوائز مهمّة ومفيدة شرط أن تكون موضوعيّة ومستحَقّة. وهذا الحكم ينطبق على جوائز الترجمة العربية. أرى أنّها محفّزة للمترجم العامل المبدع على ما عمل طوال سنين من حياته، على الرغم من أنّ العامل، في العادة، لا يعمل من أجل الجائزة. أكرّر أن شرط الجائزة هو الموضوعيّة والاستحقاق، وإلّا فقدت كلّ مصداقيّة، وخلطت الغثّ بالسمين.
 

الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟

- العمل المؤسّساتي مطلوب دائماً لأنّه يحظى بما لا يحظى به العمل الفردي أو العمل الخاص: فالمؤسّسة الثقافية الرسمية تحظى بالتغطية القانونية والمالية اللّازمتين، فضلاً عن الخبرة وشبكة العلاقات والتسويق، أي بكلّ إمكانيّات الدولة، هذه هي الحالة المطلوبة المثاليّة. أمّا ما ينقص مشاريع الترجمة المؤسّساتية هو بالذات الخلل في ما ذكرنا وما هو أهمّ هو المسؤول الذي يتصدّى لمسؤولية إدارة هذه المشاريع. من الضروري أن يكون أكثر من موظّف حكومي.


ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟

- هي عادات مردّها هوسي بالتدقيق. وسواس قهري يتمثّل في المراجعة والبحث والتدقيق في أدقّ المسائل، نحويّة كانت أم إملائية أم معرفيّة. أعتني أيّما اعتناء بتصميم الصفحة وقياس المسافات بين الأسطر والفقرات والفواصل والنقاط والهوامش وحجم الحرف. أقدّم هنا وأؤخر هناك. وأربط العبارة بالعبارة ثمّ أعاود قراءتها وربطها، ولطالما رأيتُ في نفسي حائكاً. أستخدم جملة من القواميس والمواقع، أعود في الصغيرة والكبيرة إليها لحلّ كلّ إشكال يعترض سبيلي. أستطيع القول بأنّ نفس الوسواس القهري الذي يجعلني مسكوناً بالترتيب والتناظر يحكم أفعالي في الترجمة.
 
    
كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟

- لأنّ المسطرة التي أطبّقها واحدة فأنا مطمئنّ إلى أنّ كلّ عمل كان في وقته جيداً. ربّما تمنّيتُ لو أنّي امتلكتُ تجربة اليوم قبل سنوات، لأنّ قوام الخِبرة الوقت، ولا خبرة بلا تراكم، ولا تراكم إلّا بالوقت. فالفارق ومقدار الرضا يكمن، إذاً، في حجم التجربة، فكلّ عمل كان في وقته خلاصة الخبرة التي كنتُ أمتلكها آنذاك. مع ذلك، هناك ترجمات لم تأخذ صداها ومداها كما كنتُ أتمنّى. فالقارئ يريد موضوعاً يستهويه وكاتباً يعرفه ومترجِماً يرضى عن ترجمته. وقد لا تجتمع كلّ هذه الشروط في العمل المترجَم.


ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟

- أتمنى أن تأخذ الترجمة مكانها الصحيح البنّاء، فالترجمة رافدٌ من روافد معرفتنا، والمترجم نافذة يطلّ منها القارئ على العالم. هو مسافر يعود إلى أهله لينقلَ صورةً صادقة عمّا رآه، فالمسؤولية كبيرة. وعلى المترجم والناشر أن يكونا على قدر تلك المسؤولية، وعلى الدولة ومؤسّساتها أن تدخل بكلّ ثقلها، هكذا نستثمر الترجمة وطاقات المترجمين على أحسن وجه. أمّا حلمي على الصعيد الخاص فهو ترجمة العديد من الأعمال الخالدة في الأدب الإسباني التي "طفرناها" في زحمة اهتماماتنا بالتيارات الجديدة؛ ميزة الكلاسيكيات على الجديد أنّها تضع القارئ في أجواء إنسانيّة عميقة نفتقد حرارتها في وقتنا الراهن البارد.



بطاقة

أكاديمي ومترجِم عراقي من مواليد (1952) حاصل على دكتوراه في اللغة الإسبانية من "جامعة غرناطة" (1988). صدرت له ترجمات عدّة منها: رواية "أزهار غرناطة" (2016) لـ خورخي فيلا سيفيل، و"طائر الليل البذيء" لـ خوسيه دونوسو (2017)، و"من ذاكرة الطفولة والشباب" لـ ميغيل دي أونامونو (2018)، و"وداعاً هيمنغواي" لـ ليوناردو بادورا، و"أسلوب المنهج" لـ أليخو كاربنتييه (2021). ومن مؤلفاته: "تدوير الزوايا: مسائل في الترجمة" (2021).

المساهمون