موريس هالبفاكس: من أجل فهم الذاكرة الجمعية

موريس هالبفاكس: من أجل فهم الذاكرة الجمعية

07 أكتوبر 2022
تجهيز بعنوان "حقول القطن" للفنان السنغالي سولي سيسيه، 2018
+ الخط -

إذا كنّا نستطيع الحديث، اليوم، عن علم اجتماع خاصّ بالذاكرة، فإننا ندين بوجود هذا الفرع، بشكل أساسيّ، إلى عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس (1877 ــ 1945)، الذي كان من أوائل مَن ركّزوا على ثيمة الذاكرة في البحث السوسيولوجي، جامعاً بذلك بين حقلين وتأثيرين أعطيا مسيرته الفكرية شكلها: بين سوسيولوجيا أستاذه إميل دوركهايم، وفلسفة الزمن والذاكرة لدى أستاذه الآخر هنري برغسون.

وبعد أبحاث في السيرة الفلسفية (حول لايبنتس) وفي البحث الميداني في أوضاع العمّال، إضافة إلى غيرها من المواضيع التي تناولها في بداياته، التفت هالبفاكس، منذ عشرينيات القرن الماضي، إلى مسألة الذاكرة، ليضع عام 1925 كتاباً بارزاً في هذا المجال، هو "الأطُر الاجتماعية للذاكرة"، وهو كتابٌ لن يُكمله إلّا في عمله الأخير، "الذاكرة الجمعية"، الذي سيصدر بعد رحيله بخمس سنوات.

عن "دار صفحة سبعة"، صدرت حديثاً النسخة العربية من كتاب هالبفاكس "الذاكرة الجمعيّة"، بترجمة لطفي عيسى، وهو العمل الذي شهد ولادة مفهوم الذاكرة الجمعية للمرة الأولى، بوصفه مصطلحاً يساعد على فهم الروابط والتمثّلات المشتركة في مجتمع ما، والنحو الذي يستعيد من خلاله أفراد هذا المجتمع بعض الأحداث المفصلية التي عاشوها أو سمعوا عنها.

الصورة
yght

ينطلق المؤلّف من القول إن الذاكرة، حتى تلك الأكثر خصوصيةً وفردية، تفترض أُطراً يوفّرها المجتمع للفرد، ومن دونها لا يمكن لهذا الأخير أن يبني ذاكرةً وماضياً خاصّين به؛ ومن هذه الأطُر: الزمان الاجتماعي (وهو مختلف عن الوقت الميكانيكي الذي تُخبرنا به الساعات)، وأماكن العيش والتفاعل مع الآخرين، إضافة إلى اللغة، والقيَم، والتواريخ والأحداث المؤسّسة في ثقافة هذا الفرد، والتي سمع عنها دون أن يشهدها بشكل مباشر.

ويُشير هالبفاكس إلى أن الذاكرة الجمعية تتشكّل من تعاضُد بين الذاكرات الفردية، ليس بمعنى أنها تتراصف أو تتراكب في ما بينها، بل بمعنى أن الذاكرة الجمعية ــ التي تحدّد شكلها الأفكار والقيَم المهيمنة في مجتمع ما خلال مرحلة تاريخية معيّنة ــ تنتقي من هذه الذاكرات الفردية وتستند إليها لتشكيل صورة عن الماضي مناسبة لقيَمها الحالية، وهو ما يتيح لهذه الذاكرة الجمعية أن تشكّل نظاماً متناسقاً يُلمّ بعدد كبير من التفاصيل التي لا يمكن لأي من الذاكرات الفردية، التي تشكّلها، أن تُلمّ بها وحدها.

ويُضيف عالم الاجتماع الفرنسي أن الذاكرة الجمعية تُشبه الكائن الحي، وهي بحاجة للعناية ولمَن يحملونها إذا ما أُريدَ لها البقاء، وهو ما تفسّره التقاليد الاجتماعية والتظاهرات الاحتفائية وغيرها من العادات التي من شأنها حفظ هذه الذاكرة. كما ينوّه هالبفاكس بدور الذاكرة الجمعية في تماسك أعضاء المجتمع، وعمل المجتمع على تناسي أو إخلاء ذاكرته الجمعية من الأحداث التي من شأنها التفريق بين هؤلاء الأعضاء.

المساهمون