مقاربات ألبانية للحرب على غزّة

مقاربات ألبانية للحرب على غزّة

20 ديسمبر 2023
من مظاهرة تضامنية مع فلسطين في العاصمة المقدونية سكوبيه، 20 أكتوبر الماضي (Getty)
+ الخط -

خصّصت المجلّة الشهرية "شِنْيا" Shënja، التي تصدر في سكوبيه، عددها الأخير لشهر كانون الأوّل/ ديسمبر الجاري بكامله للحرب في غزّة وخلفياتها ومآلاتها، بمشاركة ثلاثين مؤرّخاً وكاتباً ألبانياً من ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا الشمالية، لتشكّل بذلك مرجعاً عمّا تعنيه هذه الحرب والعلاقات الألبانية مع اليهود والفلسطينيّين في جوانبها التاريخية والعاطفية والسياسية وتشابكها مع النزاع الألباني - الصربي، ما يجعلها مادّة جديرة بالترجمة إلى العربية.


خلفيّاتٌ تاريخية

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ ألبانيا، التي كانت أوّل دولة بغالبية مُسلمة في أوروبا بعد إعلان استقلالها عن الدولة العثمانية عام 1912، عرفت خلال حُكم الملك أحمد زوغو (1928 - 1939) انفتاحاً دينياً؛ حتى إنّها رحّبت باليهود الفارّين من اضطهاد النازيّين بعد وصولهم إلى الحُكم في ألمانيا عام 1933، وهو ما طرح فكرة إقامة "وطن قومي لليهود" في ألبانيا عام 1935.

وخلال الحرب العالمية الثانية، خضعت ألبانيا للاحتلال الإيطالي الذي ألغى كيانها (1939 - 1943). ومع استسلام إيطاليا، اجتاحت القوّات الألمانية ألبانيا في أيلول/ سبتمبر 1943 وأعلنت اعترافها باستقلالها. وقد تصادف أنّ رئيس "مجلس الوصاية" (مجلس الدولة في انتظار البتّ بنظام الحُكم) كان مهدي فراشري؛ متصرّفَ القدس عام 1912، والذي أصرّ على استثناء ألبانيا من ملاحقة اليهود وإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال. ولذلك تضاعف عدد اليهود في ألبانيا عشر مرّات، نتيجة لفرارهم من الدول الأوروبية المجاورة التي كانت تحت سيطرة ألمانيا النازية.

طُرحت فكرة إقامة "وطن قومي لليهود" في ألبانيا عام 1935

وفي المقابل، شُبكت علاقة جديدة بين الألبان واليهود والفلسطينيّين بعد الحرب العالمية الثانية، بعد قرار التقسيم عام 1947 (امتنعت عن التصويت له يوغسلافيا التي تجمع النصف الآخر للألبان في كوسوفو ومقدونيا الغربية وجنوب صربيا) وإعلان قيام "إسرائيل" عام 1948؛ حيث اتّخذ النظام الشيوعي في ألبانيا، بقيادة أنور خوجا، والنظام الشيوعي في يوغسلافيا، بقيادة تيتو، سياسة داعمة للقضية الفلسطينية وصولاً إلى قطع العلاقات مع "إسرائيل" عام 1967 وفتح ممثّليّتَين- سفارتين لفلسطين في تيرانا وبلغراد، وتقديم دعم سياسي وعسكري للقضية الفلسطينية.

ولكن، بعد انهيار حكم الحزب الشيوعي هنا وهناك، تبدّلت العلاقات والأجندات وصولاً إلى فتح كوسوفو (التي أصبحت بعد استقلالها أوّل دولة أوروبية من حيث نسبة المسلمين) سفارةً في القدس المحتلّة عام 2022، ضمن "اتفاقية واشنطن" بين كوسوفو وصربيا.


بين البراغماتية والعاطفة

يتناول المؤرّخ الكوسوفي داود داووتي، في مساهمته "الألبان والصرب بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين"، ما يسمّيه "الخلطة العجيبة من الخطاب السياسي والأيديولوجي والقومي والسياسي في العلاقات مع الشعبين 'المقدَّسَين' في الشرق الأوسط"؛ حيث تبدو العلاقات متقلّبة مع نهاية الحرب الباردة والوضع الجيوسياسي الجديد في البلقان والشرق الأوسط.

ينطلق داووتي ممّا سجّله شعبان مرادي، سفير ألبانيا السابق في السويد والنرويج وغيرها، من "أنّ الموقف المعتمد من ألبانيا خلال 1948 - 1991 بدعم القضية الفلسطينية كان صائباً ومنسجماً مع المبدأ الرئيسي للعلاقات الدولية الذي كان يدعم مسألة الحرّية والاستقلال للشعوب المضطهَدة في أيّ مكان، بغضّ النظر عن الزمن والأنظمة والأيديولوجيات والائتلافات الحكومية"، ويقارن ذلك مع موقف يوغسلافيا التيتوية التي فتحت أبوابها لآلاف الطلبة الفلسطينيّين، وقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع "إسرائيل"، لتفتتح في بلغراد ممثّليةً لمنظّمة التحرير الفلسطينية، ثم سفارة لفلسطين.

تأسّست لحماية ضحايا الجنوسايد ثمّ تحوّلت إلى دولة جنوسايدية

ولكن ما يأخذه داووتي على الجانب الفلسطيني أنّه لا يميّز بين بلغراد عندما كانت عاصمة ليوغسلافيا التيتوية وبين بلغراد عاصمة صربيا التي أصبحت لها أجندة مختلفة؛ فبعد الحروب والمجازر التي صاحبت انهيار يوغسلافيا وصولاً إلى 1999 وتدخُّل حلف الناتو الذي حال دون المزيد من المجازر والتطهير العرقي، تغيَّر الوضع الجيوسياسي في البلقان، وأصبحت ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا الشمالية في صفّ الاتحاد الأوروبي والناتو، بينما بقيت صربيا بعواطفها مع روسيا ومصالحها البراغماتية مع الاتحاد الأوروبي.

وفي هذا السياق لعبت الدبلوماسية الفلسطينية دورها خلال فترة السفير الفلسطيني في بلغراد محمّد نبهان، الذي بقي حوالى عشرين سنة في منصبه وأصبحت له مصالحه الشخصية مع بلغراد (بعد أن كشفت الصحافة الصربية في 2015 متاجرته بالآثار والتأشيرات للراغبين باللجوء إلى أوروبا عبر صربيا)؛ حتى أصبح ملَكياً أكثر من الملك، بتصريحاته المعروفة التي كان يؤكّد فيها أنّ "كوسوفو جزء لا يتجزّأ من صربيا"، وهو ما كانت تستغلّه الأوساط الألبانية المؤيّدة لـ"إسرائيل" لترويج أنّ موقفه هذا يمثّل "الموقف الفلسطيني المعادي للألبان".

ومع ذلك، يخلص داووتي إلى أن الموقف الرسمي لألبانيا وكوسوفو المتماهي مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة لم يمنع المجتمع المدني من التعبير عن مواقف أُخرى، بالاستناد إلى العلاقات التاريخية والعاطفية للألبانيّين مع الفلسطينيّين.


مشروعٌ بعيد المنال

في مساهمة أُخرى لأستاذ علم الاجتماع في "جامعة تيرانا"، ينطلق أنس سولستاروفا، الذي له عدّة مؤلّفات في العلاقات بين الشرق والغرب، من "اتفاقية أوسلو" التي اعترفت بحقّ الفلسطينيّين لاحقاً بدولة تشمل الضفّة الغربية وقطاع غزّة، ولكن بعد ثلاثين سنة لم يعد هناك احتمال لتحقيقها (دون نفي ذلك في المستقبل) بسبب التغيّرات التي حصلت على الأرض وحالت دون ذلك.

يعبّر المجتمع الألباني عن مواقف مخالفة للموقف الرسمي

وفي هذا السياق، يميّز سولستاروفا بين سلوك الحجّاج اليهود الذين كانوا يزورون ويجاورون "الأماكن المقدَّسة" في فلسطين والمستوطنين اللاحقين الذين جاؤوا بمشروع تأسيس "وطن قومي" وحظوا فيه بدعم بريطانيا المنتدِبة إلى أن استقووا وشنّوا عمليات عسكرية لإرغام بريطانيا على الانسحاب من فلسطين باعتبارهم جهة "مكافحة ضدّ الكولونيالية"، وصولاً إلى قرار تقسيم فلسطين عام 1947، والذي حرم الفلسطينيين حتى من القِسم الخاصّ بهم.

بعد حرب 1967 وبروز المقاومة الفلسطينية التي أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، تغيّرَت المنطقة العربية الحاضنة من جديد وأرغمت ياسر عرفات على تقديم تنازلات مهمّة في أوسلو عام 1993، في مقدّمتها المستوطنات التي نمت حتى وصل عدد المستوطنين في الضفّة الغربية إلى حوالى 800 ألف مستوطن. وفي هذا السياق من نموّ الاستيطان وما صاحبه من توتّرات ونزاعات، برز الشعور بعدم الاستقرار لدى اليهود الليبراليين، والذي أصبح يدفعهم نحو الهجرة المعاكسة والاستقرار في دول الغرب.

ومع هذه التطوّرات، أصبح حتى مشروع الدولتين بعيد المنال، وبرز في الأفق الحديثُ عن دولة ديمقراطية واحدة لشعبَين متساويين، وهو الحلّ الذي مال إليه إدوارد سعيد في سنواته الأخيرة. ولكن سولستاروفا يرى أنّ الوضع الآن بعيدٌ عن دولة لشعبين وعن صلح بين دولتين مع النزاعات والحروب المتواصلة منذ ثمانين سنة، ويرى أنّ الأمر الآن يرتبط بتغيّر المناخ في الشرق الأوسط، لأنه "لا يمكن لجزيرة ديمقراطية فلسطينية أن توجَد في محيط استبدادي عربي"، كما أنّه لا يمكن أن يكون ذلك مع دولة يقول إنّها "تأسّست لحماية ضحايا الجنوسايد (اليهود) ثمّ تحوّلت إلى دولة جنوسايدية"، أي تمارس الإبادة العرقية على الآخرين (الفلسطينيّون).


من كوسوفو إلى غزّة وبالعكس

في أيار/ مايو 2010، شارك بعض الناشطين من كوسوفو في "أسطول الحرية" لكسر الحصار الإسرائيلي على غزة، والذي تعرّض حينئذ إلى هجوم مباغت من القوّات الإسرائيلية، وهي مشاركة عكست عقوداً من اهتمام الألبان في كوسوفو بالمصير الفلسطيني كما ظهر في الصحافة والأدب.

ولكن الآن، مع زخم الحرب الوحشية على غزّة وسؤال "اليوم التالي" المطروح بقوّة في الأوساط الدولية، يرِد ذِكر كوسوفو كنموذج لما يمكن أن يؤول إليه الحال في قطاع غزّة، في مساهمة المؤرّخ محمد موفاكو بعنوان "نظرات في النزاع الجديد في الشرق الأوسط".

في هذه المساهمة، تبرز أهمّية عودة العامل الفلسطيني مجدَّداً في خريطة الشرق الأوسط بعد أن بدا أنه تلاشى مع موجة التطبيع العربي من الخليج إلى المحيط مع "إسرائيل"، وبالتحديد أهمّية وجود دولة فلسطينية في المنطقة ضمن "حلّ الدولتين" الذي كاد أن يتآكل مع حكومات اليمين الإسرائيلي ومع صمت الغرب على التوسّع الاستيطاني في الضفّة الغربية.

وفي هذه الحالة الراهنة، يمكن مع التأييد الدولي المتزايد لـ"حلّ الدولتين" أن تكون البداية من غزّة على نمط كوسوفو بين 1999- 2008، أي تفويض دولي لحالة انتقالية تنتهي بإعلان استقلال دولة فلسطينية بحدود متّفَق عليها. ففي كوسوفو، كان هناك "جيش تحرير كوسوفو"، الذي كان يصنَّف "حركةً إرهابية" من قبل صربيا وروسيا، ولكن مع الإدارة الانتقالية جرى جمع سلاح هذا الجيش وتحوُّله إلى حزب سياسي (الحزب الكوسوفي الديمقراطي) مع حقّ أفراده بالانضمام إلى قوّة الأمن الجديدة والمشاركة في أوّل انتخابات برلمانية حرّة عام 2001، بينما تمكّن الحزب من حصد أصوات أكثر في انتخابات 2007، سمحت له بتشكيل حكومة برئاسة هاشم ثاتشي الذي أعلن استقلال كوسوفو في 2008.

وفي غضون ذلك، أُنشئت إدارات انتقالية (للتعليم والصحّة إلخ) تحوّلت إلى وزارات بعد إعلان الاستقلال، كما أنّ الحياة الديمقراطية الجديدة سمحت بتداول السلطة بين أحزاب أُخرى، كما يمكن أن يحدث في الدولة الفلسطينية الجديدة.

ولا يعني هذا بالطبع استنساخ تجربة كوسوفو، بل استلهام هذه التجربة للدولة الجديدة، التي كانت مدمَّرة في عام 1999، وأصبحت الآن مزدهرة بفضل الدياسبورا الألبانية، وهو الأمر الذي يمكن أن تقوم به أيضاً الدياسبورا الفلسطينية المنتشرة في العالم.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون