أصوات من البوسنة مع فلسطين: سراييفو في الجانب الصحيح من التاريخ

27 أكتوبر 2023
منظر جوّي للمظاهرة المؤيّدة لفلسطين في سراييفو، 22 تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري (Getty)
+ الخط -

كان ما حدث صباح السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري مفاجأةً للعالم، حينما استيقظ على أخبار عملية "طوفان الأقصى". في ذلك اليوم، ومع تتالي نشر الصور والفيديوهات عمّا جرى أخذت دولُ غرب البلقان، التي تنتظر دورها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بالتماهي مع الموقف الرسمي للاتحاد الذي أدان ما سمّاه "العملية الإرهابية"، حتى أنّ بعض حكومات بلدان، مثل ألبانيا، نشرت العلم الإسرائيلي تعبيراً عن موقفها. ونظراً للوجود اليهودي العريق في هذه البلدان، والذي أصبح رمزياً بعد 1948، فقد اتّسم اليوم التالي بإشعال الشموع من قبل شخصيات يهودية تعبيراً عن "الحزن لسقوط الضحايا المدنيّين".

ولكن الوضع أخذ يتغيّر ببطء في الأيام اللاحقة مع بدء جيش الاحتلال الإسرائيلي بقصف متواصلٍ لغزّة بالطائرات والصواريخ تمهيداً لاجتياحها. ومع وصول الصور والأفلام من داخل غزّة عن حجم الدمار وارتفاع عدد الضحايا المدنيّين، وخاصّةً الأطفال والنساء، بدأ المزاج في الشارع يتغيّر للتعبير عن الاحتجاج على هذا القصف اليومي والتضامن مع سكّان غزّة بسبب الحصار المفروض عليهم من الجو والبحر والأرض.

ويلاحَظ هنا أنّ هذا المزاج ظهر بشكل واضح في البلدان التي عانت من الحروب والحصار واستهداف المدنيّين، كما هو الحال مع كوسوفو والبوسنة. ففي يوم السبت 21 تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري، انطلقت في الشارع الرئيسي للعاصمة الكوسوفية؛ حيث تتجمّع مباني البرلمان والحكومة والوزارات، مسيرة ضمّت المئات حاملين للافتات تُعبّر عن مشاعر المشاركين مثل "الحرية لفلسطين" و"أوقفوا الإبادة الجماعية" وغيرها. ولكن هذه المسيرة الاحتجاجية، التي غاب عنها الجانب المؤسَّساتي والرسمي، غلبت عليها، فجأةً، التعبيرات الدينية باللغة العربية مثل "الله أكبر" و"لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وهو ما خلّف بعض التعليقات والانتقادات، لأنّ المسيرة بدت كأنها موجَّهة لجمهور عربي إسلامي.

نقدٌ لاذع للموقف الأوروبي إزاء جرائم الإبادة في غزّة

أمّا في البوسنة، فقد كانت مشاركة الأكاديميّين بارزةً، سواء في المنصّات الإعلامية أو في المسيرات الاحتجاجية التي جرت في سراييفو وغيرها من مدن البوسنة.


أسعد دوراكوفيتش: أخجل من أوروبيتي

أسعد دوراكوفيتش
أسعد دوراكوفيتش

وفي هذا السياق، كان الصوتَ الأبرز الأكاديميُّ أسعد دوراكوفيتش، صاحب عشرات المؤلّفات والترجمات وعضو "أكاديمية العلوم" في البوسنة ومجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وعمّان، والذي يُعتبر الآن الصوت الأكثر حضوراً في الرأي العام البوسني. وضمن اهتمامه بالأدب العربي وترجمته كان من أوائل من ترجم الشعر الفلسطيني إلى اللغة الصروكرواتية في يوغسلافيا السابقة، وأول من أصدر مجموعة مختارة من أشعار محمود درويش بعنوان "قصائد مقاومة" عام 1984.

وبعد تصاعُد القصف الإسرائيلي على غزّة، زاد نقدُه للموقف الأوروبي المؤيّد أو الصامت، ونشر في 14 تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري مقالاً في منصة "ديبو" Depo بعنوان "أخجلُ من أوروبيتي"، وَرَدَ فيه نقدٌ شديد لموقف الاتحاد الأوروبي الذي يمثّل "القارّة العجوز". ومع أنّه يبدأ مقاله بالتعبير عن خجله من قارّته "لفقدانكِ مشاعر الحق والعدل والدفاع عن الإنسانية والموقف الحضاري من العالم"، إلّا أنّه يُركّز في ما بعد على الموقف الأوروبي إزاء ما يحدث للفلسطينيّين تحت الحصار في غزّة، مقارِناً ذلك بما حدث للبوسنيّين تحت الحصار في سراييفو خلال 1992 - 1994، لينتهي إلى القول: "الآن أنا أفهم في هذه اللحظة الخجل منكِ بسبب تشجيعك لحرب الإفناء ضد الفلسطينيّين، لأنك تصرّفتِ مثل ذلك مع أبنائك البوسنيّين". ومن ناحية أُخرى، يُذكّر دوراكوفيتش بما قام به الأوروبيون من إفناء لليهود في "الهولوكست"، ليَنتهي إلى مخاطَبة قارته بالقول: "الآن تتصرفين مع اولئك الذين نفّذتِ بهم الهولوكست لكي يمارسوا حرب الإفناء ضد الآخرين (الفلسطينيين) الذين لم يكونوا مسؤولين عن ذلك".


بنيامينا لوندريتس- كاريتش: إلى جانب غزّة

بنيامينا لوندريتس- كاريتش
بنيامينا لوندريتس- كاريتش أمام نصب تذكاري يُخلّد ذكرى ضحايا مجزرة سربرنيتسا في تمّوز/ يوليو 1995

بعد أيام من التغطية الإعلامية لما يحدث في غزّة، نُظّم في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، في قلب سراييفو، تجمّع بالآلاف ضمّ الجالية الفلسطينية الصغيرة، مع مشاركة كبيرة لسكّان سراييفو والحكومة المحلّية ممثَّلةً بالأكاديمية بنيامينا كاريتش، الأستاذة في كلية الحقوق ورئيسة البلدية.

تميّز هذا التجمّع برفع اللافتات المُعبّرة التي تخصّ غزة: "أوقفوا الحرب"، وتشمل فلسطين: "الحرية لفلسطين" و"فلسطين حرّة" إلخ... مع مطالبات للولايات المتّحدة بالتدخُّل لكي "تُوقِف الحَملة الفاشية مع قصف المستشفيات والمباني السكنية والمدارس والأسواق". وكان من الواضح أنّ المشاركين في هذا التجمُّع استحضروا معهم الحصار الذي تعرّضت له سراييفو خلال 1992 - 1994؛ حيث تعرّض سكّانُها للقصف اليومي والموت البطيء، مع فقدان الغذاء والماء والمحروقات إلى أن جرى في صيف 1974 التدخُّل العسكري الغربي ضدّ القوّات الصربية المحاصِرة للمدينة.

في ذلك الحين، جرى تدخّلٌ دولي لفتح ممرّ إنساني لهجرة من يريد من يهود المدينة، حيث هاجَر بعضهم، وأصرّ بعضهم الآخر على البقاء والحياة أو الموت مع سكّان سراييفو. ومن هؤلاء اليهود الذين بقوا كانت أسرة لوندرتس Londrec التي تنتمي إليها الأكاديمية ورئيسة بلدية سراييفو، بنيامينا لوندريتس- كاريتش، التي ألقت كلمة مؤثّرةً وسط دموعها على ضحايا الجرائم الإسرائيلية في غزّة، كما ورد في نشرة "راديو سراييفو" في تغطية هذا التجمّع.

جرائم تُذكّر بما عاشته سراييفو من حصار وقصف يومي

وُلدت بنيامينا لوندريتس في سراييفو عام 1991 لأسرة يهودية امتزجت مع سكّان سراييفو الصرب والبشناق، ونشأت في أسوأ سنوات الحرب في البوسنة، بسبب وجودها تحت الحصار والقصف والتجويع بسراييفو خلال 1991 - 1994. كانت تهوى التاريخ، ولكنّها درسَت الحقوق في جامعة سراييفو لضمان فرصة عمل، وكانت رسالتها للماجستير في 2015 عن "الوضع القانوني للجماعة اليهودية في البوسنة والهرسك خلال 1918 - 1945"، بينما تخصّصت لاحقاً في القانون الروماني وعملت مدرّسة في "جامعة سراييفو".

مع شخصية كهذه، كانت الأنظار كلُّها موجَّهة إلى كلمة رئيسة البلدية بنيامينا لوندريتس- كاريتش لكونها تُمثّل الحكومة المحلّية والأسرة اليهودية المعروفة في تاريخ سراييفو. في كلمتها المؤثّرة كما وردت في النشرة الالكترونية لـ "راديو سراييفو" (23 تشرين الأوّل/ أكتوبر)، قالت: "شكراً لسراييفو الحرّة، شكراً لكلّ مواطن رفع صوته اليوم للعدالة والحقيقة. سراييفو كانت دوماً في الجانب الصحيح للتاريخ. نحن أفضل مَن يعرف ماذا يعني قتل الأطفال. سراييفو تقف بقوّة إلى جانب غزّة".


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون