مراد أوزيلدريم.. عِقدٌ موسيقيّ لا ينقطع بين العرب والأتراك

مراد أوزيلدريم.. عِقدٌ موسيقيّ لا ينقطع بين العرب والأتراك

21 يوليو 2021
مراد أوزيلدريم
+ الخط -

يعود اهتمام الباحث والأكاديمي التركي مراد أوزيلدريم بالموسيقى العربية وتاريخها إلى أكثر من ثلاثين عاماً. خلال هذه المدّة، نشر العديد من الأبحاث والمقالات حول العلاقات الموسيقية بين الأتراك والعرب، وألقى العديد من المحاضرات حول الموضوع في تركيا ومصر وفلسطين ولبنان. كما أصدر، في 2013، كتاباً بعنوان "وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين"، وأنشأ، في العام نفسه، أوّل موقع إلكتروني مخصّص باللغة التركية لأم كلثوم، التي يعمل حالياً على إنهاء كتاب حولها، من المنتظر أن يصدر قريباً.

في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، يتحدّث الباحث التركي حول بدايات اهتمامه بالموسيقى العربية. يقول: "كنتُ طفلاً أقيم مع عائلتي في إسطنبول، وكنت أستمع إلى محطّات الراديو قبل النوم، ومن بينها الإذاعة المصرية. أعرف تلك المحطّة جيّداً، وما زلت أذكر عبارة 'من القاهرة'. جَذَبت هذه الإذاعة انتباهي إلى الأغاني التي كانت تُذاع من القاهرة، ولكنّ ما لفت انتباهي، على وجه الخصوص، كان صوتاً نسائياً جميلاً. كان ذلك، على ما أعتقد، عام 1986. في تلك الفترة، كانت أشرطة الكاسيت تُباع على الحصير أمام جامع سلطانة والدة، وبينما كنت أقلّب في أحد الأيام بين الأشرطة المعروضة، وجدت شريط 'طلع البدر علينا' لأم كلثوم".

يضيف: "كنت سمعت اسم أم كلثوم وعبد الوهاب من والدي وجدّتي، عندما كانا يتحدّثان عن الأفلام المصرية التي شاهداها في إسطنبول، أربعينيات القرن الماضي. عندما عدت إلى المنزل، وجدت أن الصوت الذي في الشريط هو صوت أم كلثوم الذي كنت أتابعه على الإذاعة المصرية. وكان من الصعب جداً الحصول على أشرطتها في تركيا آنذاك. هكذا بدأت في إنشاء أرشيفي الخاص. وبعد أن انتقلت إلى 'جامعة مرسين'، شاركتني صديقتي الأكاديمية إسما دوروجونول أرشيفها الخاص، وبعد ذلك كان تلميذي علي كوه يأتي لي بأشرطة كثيرة من سورية التي كان يتردّد عليها آنذاك. ومن هنا بدأ اهتمامي بالموسيقى العربية، وجمّعت أجمل أصوات المغنين، مثل محمد عبد الوهاب وليلى مراد وصباح فخري ووديع الصافي وناظم الغزالي وفيروز ولطفي بوشناق، إضافة إلى أم كلثوم التي فُتنتُ بصوتها".

الرابط الموسيقي بين العرب والأتراك لا يقتصر على العهد العثماني

وحول انطباعاته عن الموسيقى الكلاسيكية العربية والتركية، يقول أوزيلدريم: "إذا كان من المفترض أن نضع اسماً لهذين النوعين من الموسيقى، فإنني أُفضِّل استخدام 'الموسيقى الشرقية'. صحيحٌ أن هنالك فروقات بين هذين اللونين، ولكن ثمّة الكثير من الخصائص المشتركة بينهما. مرّت الموسيقى العربية بتحوّل كبير منذ الثلاثينيات، خصوصاً مع تدخّل المُجدِّد محمد عبد الوهاب، في رأيي. من الممكن أن تجد أوجه تشابه عديدة بين الموسيقى الكلاسيكية العربية والتركية، ولكنّ هذا ليس مجرّد تشابه في الأنماط والمقامات أو استخدام نفس الآلات والجلوس أثناء الغناء. يكفينا أن نتابع رحلات الفنانين بين إسطنبول والقاهرة لنجد الكثير ممّا يُفيدنا في هذا السياق".

وعن بدايات تجديد مسار الموسيقى العربية، يقول الباحث التركي: "أثَّر محمد عبد الوهاب على مسار الموسيقى العربية وغيّرَه. وأحبّ أن أذكر هنا شيئاً ــ ربما ليس معروفاً ــ وهو أن أمّ عبد الوهاب تركيّةٌ من بورصة، وهو ما ذكره عبد الوهاب نفسه في حوار أجراه معه المؤرّخ التركي مراد باردقجي، ونُشر في صحيفة 'حريات' التركية عام 1982. تحمل الموسيقى العربية والتركية سماتٍ مشتركةً بين المجتمعَيْن، مثل عائلة عبد الوهاب تماماً. وقد ساعد عبد الوهابَ في ذلك وجودُ أفضل الأصوات العربية في عصره، كليلى مراد وأسمهان. وفي رأيي الشخصي، أصبحت الموسيقى العربية أكثر تأثيراً بعد زيادة عدد الآلات الوترية فيها، وبعد عقود قليلة اتّبع الأتراكُ العربَ في هذا الأمر".

وفي سياق حديثه عن التفاعل الموسيقي بين الثقافتين العربية والتركية، يُشير أوزيلدريم: "أقول دائماً، نحن الأتراك والعرب من الشرق الأوسط، نحن المُلّاك الحقيقيون للشرق الأوسط. هذه الجملة التي تبدو بسيطة تتضمّن تعريفاً لمفهومٍ حضاري. هنا، تختلف وجهة نظر إلى التاريخ وطريقة التعامل مع الموسيقى عن الغرب تماماً. وسواء اعترفنا بذلك أم لا، فإن الشرق الأوسط مختلف، وله هيكل فريد خاص به. أقول 'مختلف' وأستخدمها بشكل إيجابي. هذا الاختلاف أساس فهمنا المشترك ــ كأتراك وعرب ــ للحضارة. لا شكّ في أن الأتراك والعرب عاشوا معاً لمئات السنين، ولسوء الحظ أننا نتذكّر المرحلة العثمانية فقط؛ نعم، هي تاريخنا المشترك القريب، ولكنّ معظمنا ينسى، مثلاً، حضور الأتراك في الجيش العباسي، والدولة الطولونية، ودولة المماليك في مصر، والأتراك الذين يعيشون في العراق ولبنان وفلسطين وسورية، وحتى في ليبيا والجزائر. لدينا إخوةٌ عرب، أيضاً، في المدن الجنوبية لتركيا".

كان لأغاني الأفلام المصرية تأثيرٌ على الموسيقى التركية في الأربعينيات

في كتابه "وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين"، ركّز أوزيلدريم على الدور الذي لعبته التكايا الصوفية في التفاعل بين الموسيقتَيْن. يقول إلى "العربي الجديد": "كما هو معروف، فإن التكايا الصوفية هي مراكز دينية كانت منتشرة في جميع أنحاء الدولة العثمانية تقريباً. وتنتشر المولوية، مثلاً، في منطقة جغرافية شاسعة بين قونية وإسطنبول والقاهرة وحلب ودمشق وغيرها من المدن. وكما نعلم، فإن للموسيقى مكانة كبيرة في المولوية. في الحقيقة، يمكن النظر إلى تلك التكايا باعتبارها مراكز موسيقية دينية. ويجب ألّا ننسى جمهور النخبة في التكايا من العارفين بفنون الموسيقى، لأنهم لا يقلُّون أهمّيّة عن مؤلّفي الموسيقى. بالطبع، لم يكن كلّ المستمعين في التكايا هكذا، ولكن يمكن أن نجد أمثلة كثيرة على النوعية التي أقصدها من المستمعين للموسيقى في أواخر الدولة العثمانية، بالأخص في إسطنبول والقاهرة".

وفي سياق الحديث عن العلاقات الموسيقية بين إسطنبول والمدن العربية، يقول: "كانت إسطنبول تجذب انتباه الفنانين العرب في القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين. دعونا لا ننسى أن إسطنبول ــ كعاصمة ــ هي مركز 'الذوق الإمبراطوري المشترك'. وقد غنّى الفنانون العرب والأتراك معاً في مدن مهمّة كإسطنبول وحلب والقاهرة ودمشق، وتجلّى التفاعل الموسيقي بقوّة في تلك المرحلة أيضاً من خلال إقامة بعض الفنانين الأتراك في مدن عربية لفترة من الزمن، والعكس كذلك. ويجب ألا ننسى أيضاً رحلة الملحن التركي زكايي داده أفندي إلى مصر، ورحلة عبده الحامولي ويوسف المنيلاوي إلى إسطنبول".

لكنّ العلاقة الموسيقية بين العرب والأتراك لم تتوقّف مع انهيار الدولة العثمانية، كما يُذكّر أوزيلدريم: "لم تقتصر هذه العلاقة على العهد العثماني فقط. محمد عبد الوهاب نفسه صرّح بذلك في المقابلة التي ذكرتُها سابقاً؛ يقول: إننا تعلمنا الموسيقى من الأتراك حتى العشرينيات، وقد بدأنا جميعاً بتلحين أعمال أسماء مثل جميل بك الطنبوري. وأضيف على كلام عبد الوهاب أن هناك تأثيراً للموسيقى العربية على كثير من المغنّين الأتراك، مثل بيان سعدات وغيرها. التأثير كان متبادلاً طوال الوقت". 
وحول العلاقات الموسيقية العربية التركية اليوم، يرى أوزيلدريم "أن موسيقى المجتمعات التي عاشت معاً لمئات السنين ستظل تحتفظ بهذا التأثير. لقد أثَّرت أغاني الأفلام المصرية بعمقٍ على الموسيقى التركية في أربعينيات القرن الماضي، ونلاحظ في السنوات الأخيرة انتشار المسلسلات التركية في البلاد العربية، وبعض أغاني تلك المسلسلات يُغنّى بالعربية أحياناً، وفي رأيي سيستمر هذا التفاعل ويزداد".

وأخيراً، حول كتابه الذي يعدّه عن أم كلثوم، يقول الباحث التركي: "هناك تأثيرٌ واضح للموسيقى العربية على موسيقى الأرابيسك التركية، وقد حدث ذلك بعد اقتطاع بعض أغاني أم كلثوم التي تحتوي على مقدّمات موسيقية طويلة إلى أغانٍ تركية قصيرة لتُناسب الذوق التركي. أحاول في كتابي أن أفحص هذه النماذج".

المساهمون