محمّد م. الأرناؤوط: تاريخ منسي للألبان والبشناق في حرب 1948

16 يونيو 2023
محمّد م. الأرناؤوط في جانب من المحاضرة (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)
+ الخط -

يصف المؤرِّخ السوري الكوسوفي، محمد م. الأرناؤوط، مشاركةَ ألبانٍ وبشناق في حرب 1948 بالمسكوت عنه بحثياً منذ أزيد من سبعين عاماً. وعليه، فإنّنا أمام مشروع بحث سيستغرق سنوات لفحص الأرشيفات الرسمية في البلقان وفي البلدان العربية، وفي يوميات ومذكّرات وروايات شفوية، وحتى ما يمكن الوصول إليه من أرشيف دولة الاحتلال التي نهبت الكثير من الوثائق المتعلّقة بتلك المرحلة الفاصلة.

هؤلاء ممّن لجأوا إلى بلاد الشام سيكون منهم مقاتلون ذوو خبرة سابقة، وعائلات استقرّت واندمجت في مجتمعات اللجوء الجديدة، وستَرد أوصافهم كما جرى في السيمنار الذي تحدث فيه الأرناؤوط أوّل أمس الأربعاء في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة، بأنّهم بشناق أو بوسنيون وألبان، وكذلك يوغوسلاف.

يريد المُحاضر، في مسعاه البحثي، ما قال إنّه إعطاء هؤلاء الناس حقّهم، فهم حاربوا على جبهة عربية، لكنّهم في المقابل تحوّلوا إلى كتلة هامشية عقب النكبة والتحالفات السياسية بين الأنظمة العربية وأنظمة يسارية، ومنها يوغوسلافيا، دفعت إلى طي ذِكرهم.


التأصيل

التأصيل الذي يؤسّس عليه الأرناؤوط هو الوضع الجيوستراتيجي في البلقان خلال الحرب العالمية الثانية، خصوصاً عام 1941 الذي شهد اجتياح يوغوسلافيا من قبل جيوش ألمانيا وإيطاليا وبلغاريا وتفتُّت البلاد وبروز كيانات جديدة، ومنها دولة كرواتيا المستقلّة، والتي اتّسعت لتضمّ البوسنة والهرسك، ضمن الصراع القومي بين الصرب والكروات، وكلاهما يزعم أنّ البوسنة والهرسك، وسْط البلقان، هي جزءٌ من مشروعه القومي.

يُقدِّر المُحاضِر عددهم بخمسمئة في الحدّ الأقصى

سيعرف تاريخ تلك المنطقة حدثين كبيرين؛ هُما سيطرة "الحزب الشيوعي" على يوغوسلافيا و"الحزب الشيوعي" في ألبانيا، ما أعاد صياغة الشكل السياسي للبلدين، وكلاهما أَطلق وصف "أعداء الشعب" على كلّ من ناهضهما، فنجمت عن ذلك هجرة آلاف الضبّاط والسياسيّين والوزراء والنوّاب إلى معسكرات كبيرة أُقيمت في إيطاليا المجاورة على البحر الأدرياتكي.

ويسجل الأرناؤوط، هنا، الاهتمام بهذه النخبة اللاجئة من قِبل عدّة جهات؛ من بينها الجامعة العربية التي حثّت على الاتصال بهم للاستفادة تحديداً من النخبة العسكرية.


دَور المفتي

كما أشار إلى دَور المفتي، الحاج أمين الحسيني، الذي اختار التعاون مع ألمانيا وزار ألبانيا والبوسنة وزغرب واجتمع مع القادة المسلمين وحضّهم على الانضمام إلى فرقة جديدة تُدعى "خنجر"، ومساعدة ألمانيا في حربها، لأنّها بدورها ستساعد في ما بعد العرب في حربهم ضدّ المشروع الصهيوني الذي كان يؤيّده الطرفُ الآخر؛ وهُم الحلفاء من بريطانيا وفرنسا وأميركا وسواها.

كما أسهم أحمد زوغو، ملك ألبانيا المنفي والممنوع من العودة بقرار من "الحزب الشيوعي"، بعد خسارته الحرب عام 1946، ولجوئه إلى مصر، في استقدام هذه النخبة بدعم من الدول العربية لتشكيل نواة مسلَّحة لتحرير ألبانيا من الحُكم الشيوعي.

يقف الأرناؤوط بين عدّة مشاريع تضافرت في سورية وفلسطين، لنجد أمامنا حرباً تندلع بعد قرار التقسيم الذي فرضته الأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، وضباطاً وعسكريّين يتحدّثون بلغة عربية بسيطة ضمن المقاتلين، بل في إشارات أُخرى ضمن مقاتلين نوعيّين، وضبّاط برُتب عالية، أعلى حتّى من الآمر العربي الذي يأتمرون بأوامره.


حسم الأرقام

وبما أنّه مشروع، فإنّ المُحاضر يضع بين مجالات البحث التي تنتظر الحسم الأرقام التي شاركت وغالبيتها من البشناق، فهي تتردّد بالمئات وصولاً إلى 900 ضابط وعسكري، غير أنّ تقديراته تتحدّث عن حوالي 300، وبالحدّ الأقصى 500، إذ يجري خلطٌ بين الذين قدموا من المعسكرات الإيطالية وبين الذين شاركوا بالفعل في الحرب، كما أفاد.

تطرَّق الأرناؤوط، كذلك، إلى الدوافع التي وقفت وراء قدوم هذه المجموعات، مشيراً إلى مصطفى إماموفيتش، المؤرّخ البوسني الذي رحل عام 2017، وله كتاب عن البشناق في بلاد اللجوء صدر في سراييفو عام 2006، وخصَّص فصلاً منه للضبّاط والعسكريّين الذين هاجروا وشاركوا في حرب 1948.

سيمنار الأرناؤوط
جانب من السيمنار (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)

وقال الأرناؤوط إنّها كانت المرّة الأُولى التي يُطرح فيها هذا الأمر في اللغة البوسنية، ناقلاً عن إماموفيتش ثلاثة دوافع؛ هي: إثبات أنفسهم كعسكريّين ذوي رتب عالية وخبرة، واختيار القتال الى جانب الضحية، وإظهار هويتهم بوصفهم أوروبيّين مسلمين وليسوا محايدين.

مقابل ذلك، طالع الباحث بعضاً من الدراسات الصادرة باللغات الصربية والعبرية، ومنها دراسة لباحثَين من الجامعة العبرية شكّكا في الدوافع، قائلَين إنّ هؤلاء عليهم أحكام قضائية بالسجن المؤبَّد والإعدام بعد تصنيفهم بـ"أعداء الشعب" من قبل الشيوعيّين، حالهم حال الحاج الحسيني الذي صدر عليه في يوغوسلافيا حُكم بالإعدام عام 1945.

ولفت الأرناؤوط إلى ما يُروَّج في الدراسات الإسرائيلية كهذه التي اطّلع عليها، وتربط الحسيني بالنازية، وبالتالي حكماً من أثار حميتَهم فانضووا تحت رايته، إلّا أن الباحثَين الإسرائيليَّين قالا، مع ذلك، إنّهم لربما اشتركوا في الحرب لما اعتبروه قضية إسلامية.

أمّا ما صدر باللغة العربية، فهي إشارات ذكر المحاضر عدداً منها: كتاب هاني الهندي الذي نشره عن جيش الإنقاذ عام 1983، ومذكّرات طه الهاشمي عام 1978، والكتاب الذي أصدره الباحث في "المركز العربي" بلال شلش عام 2019 بعنوان "يافا.. دم على حجر: حامية يافا وفعلها العسكري – دراسة ووثائق"؛ وهو دراسة تاريخية تحليلية مفصَّلة استفادت من أرشيف "جبهة الإنقاذ" و"الهيئة العربية العليا" الذي نهبته "إسرائيل".


حقل ألغام

في تعقيبه، قال جمال باروت المؤرّخ والباحث في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" إنّ هذا البحث "حقل ألغام، وتوجد أمامه عوائق كثيرة، وهذه هي متعة المعرفة"، لافتاً إلى كتاب المؤرّخ الفلسطيني عارف العارف "النكبة والفردوس المفقود"، وفيه أوّل إشارة إلى وجود بوسنيّين في يافا. ووفق العارف، فقد كان 34 "يوغسلافياً" من إجمالي 4976 رجلاً في الحرب.

كان من بينهم مقاتلون نوعيّون وضبّاط برُتب عالية

ولأنّها أرقام مؤقّته تنتظر الجرد، اقترح عدّة مصادر؛ منها الرواية الرسمية الإسرائيلية التي قدَّرت عددهم ما بين ستّين وسبعين رجلاً، ورواية الاستخبارات اليوغوسلافية. لكنّه نبّه، في هذا السياق، إلى وجوب إخضاع المعلومات الاستخبارية إلى القاعدة الذهبية للمدرسة النقدية الفرنسية في نقد الوثائق والمعلومات نقداً داخلياً وخارجياً، فوجهة النظر والمعلومات الشكلانية تحكم روايات الاستخبارات كلّها، لأنّها تقوم على تقارير منها افتراضات أيديولوجية لها مفهوم محدّد للعدو.

وخلص باروت إلى أنّ حضور البشناق والألبان مؤكَّد في حرب 1948، مقترحاً بين مدرّجات البحث تتبُّع وجود نخبة منهم في فرقة التدمير التي قادها فوزي قطب (خبير المتفجّرات الفلسطيني) وخاضت حرب المواصلات والمفخّخات والكمائن وربحت المعركة حتى آذار/ مارس 1948، قبل أن تستعيد عصابات "الهاغاناه" زمام المبادرة وتجعل من نيسان/ أبريل واحداً من أقسى الشهور في تاريخ الصراع العربي الصهيوني.

المساهمون