محمود وهبة في "سيرة الأعرابي": أمام الخلاء المعتِم

محمود وهبة في "سيرة الأعرابي": أمام الخلاء المعتِم

16 ابريل 2022
محمود وهبة
+ الخط -

تأتي القصائد الخمس الأولى في مجموعة "سيرةُ الأعرابي" (2021)، الصادرة عن "دار النهضة العربيّة" للشاعر اللبناني محمود وهبة، على شكل نصوص موجّهة إلى أمكنة وأشخاص مُحدّدين، أصدقاءً كانوا أو أماكن مألوفة، بدءاً بالقصيدة الأولى، "الكتابة إلى لقمان سليم"، وتليها "الكتابة إلى سهل الخيام"، ثم "الكتابة إلى بول شؤول"، و"الكتابة إلى أيمن"، ثم "الكتابة إلى المربّع"... حتى أنّ قصيدة "يقولون أنّك الأنقى"، التي تأتي لاحقاً، جاءت على شكل رسالة موجّهة إلى أُنسي الحاج، وتبدأ بالعبارة المألوفة في افتتاح الرسائل الشخصيّة: "عزيزي أُنسي".

اعتماد شكل الرسائل والنّصوص المُوجّهة إلى أشخاص في القصائد يُضفي عليها حميميّة الخطاب الفنّيّ، الذي يبدو كشكل من أشكال البوح، عبر الكشف عن مَواطن خفيّة وأسرار شخصيّة. وهذا الشكل الفنّيّ من الرسائل يُوحي بوعدٍ ضمنيٍّ للقارئ بالوقوع على نصٍّ صادقٍ وحميم. لأنّها كتابة تخوض في السيرة، وتدور حول ذكريات مشتركة، وهذا ما يعني بالضرورة أنّ القصيدة انعكاس لتجربة حيّة، خاصّة وشخصيّة.

وتحديد هدف الكتابة في هذه العناوين بعبارة "الكتابة إلى"، بما أنّ الكتابة هنا موجّهة للشخص الذي كُتبتْ القصيدة لأجله، يعني استثناءً ضمنيّاً للقارئ العادي من مجال قراءة النص. لكنّ هذا بالذات هو ما يثير رغبة القارئ العادي، الذي لم يُوَجَّه له النص ولم يُكتَبْ له بالأساس، لقراءة النصّ والخوض في غماره. وهذه بالطبع تبدو كحيلةٍ فنّية، مقصودة أو غير مقصودة، من قِبَل الكاتب، لإضفاء التشويق، وإثارة الفضول، وتأجيج رغبة القارئ في فضّ شيفرات القصيدة، للإطلال على أسرار وذكريات حميمة لعلاقة خاصّة بين شخصين. وتصبح القراءة بالتالي كأنّها تلصّص على حميميّة الآخرين، وفي هذا متعة، وضمانة مسبقة للقارئ لالتقاط مشاعر ذاتيّة خالصة. وكلّ هذا يستثير في القارئ تلك الرغبة الإنسانيّة الدفينة في سماع حكاية عن أناس آخرين وملاحقة تفاصيلها.

جُمل متحرّرة من اللوازم اللغويّة ومن الترابط المنطقي

بجملٍ مُتحرِّرة من اللوازم اللغويّة، ومن العلاقات المنطقيّة بين الجمل، يصبح الكلام في النصّ هنا قفزات لا تتوقّف، قفزات في اتجاهات مختلفة. وصوَر تبدو متناثرة، تروي - بالإشارة - سيرة الشخص الذي هو موضوع القصيدة، ولغة مُشحونة بالمشاعر الخاصّة التي يحملها الشاعر تجاهه، كما نرى في هذا المقطع من قصيدته الأولى "إلى لقمان سليم":
"الحواسُّ تنفلشُ من يدي
تخرجُ على الطّاعة
قليلٌ من البؤسِ وحفلةُ شواءٍ في الخارج
تهمسُ اللقيطةُ في أذني:  
خُذِ الحقيبةَ
خُذ الألم وصغْهُ
دَعهُ ينتشرُ في الزّاوية
وقربَ الممرّ السُّفليّ".

تبدو تلك توهّجات عن تجربة حيّة، وتنطلق من مركز أو من واقعة غير مُفصح عنها بشكل واضح، الواقعة التي يأتي منها ويدور حولها النصّ، وغير المصرّح عنها علنيّاً. فبين جُمل "الخروج عن الطاعة"، و"حفلة الشواء"، و"همس اللقيطة"، تبدو الصور مُفكّكة وإنْ لم تكن كذلك في نظر الشاعر. لكنها تعود وتتماسك في المقاطع الأخيرة بدءاً من "خذ الحقيبة" إلى أن يضع الألم "قربَ الممرّ السفليّ".

هذا التفكّك في الجُمل والتحللّ من الوشائج اللغويّة المرئيّة وغير المرئيّة له بالطبع جماليّته في القصيدة الحديثة. ويبدو أكثر متعة في القراءة، فيحقّق المفاجأة، ويشي بالغموض، ويثير التساؤل. لكنّ جمع هذه العناصر معاً لا بدّ أنّ له شبكة يربط خيوطها مركز خفيّ. وفضيلة العبارات المفكّكة، أو التي تبدو كذلك، أنها تكسر الرتابة المحتملة التي هي التهديد الأخطر لأيّ نصّ أدبيّ مهما كان شكله الفنّي. وهذا التفكّك الظاهر لا يصدر هنا عن آليّة ذهنيّة، بل عن تجربة حيّة نابضة، يشعر بها القارئ المتمرّس. فحين يكون التفكّك نتاج آليّة ذهنيّة، تبدو غالباً الصور بعيدة عن بعضها البعض، إلى درجة يصعب أن نتخيّل لها مركزاً غامضاً يجمعها ويجعلها بنية شعريّة واحدة. 

يتحرّر الشاعر هنا من البلاغة التقليدية، من الجمل المرسومة بعناية، إنّه يبعثر كلماته الصادرة عن إحساس كثيف. فقصيدته للقمان سليم، الناشط السياسيّ والمدافع عن حقوق الإنسان الذي مات مقتولاً، تبدو كرثاءٍ لا يريد أن يعلن عن نفسه:
"أُحاذرُ الدخول إلى الغرفة، 
أترك للعرق حرّيته في أنّ يتصبّب من الداخل".

الصورة
غلاف

يبدو أنّه يتحدّث عن غرفة لقمان، التي رأى على طاولة فيها تذاكرَ وبرقيات تعزية، معبّراً عن حالته النفسيّة وهو يدخل هذا المشهد بترْك العرق يتصبّب كأنّه عمليّة يمكن ضبطها والتحكّم بها، هذه صورة شخصيّة غير مكرّرة، وفيها جِدَّة. يقول أيضاً في صورة بالمستوى نفسه: "كأننّي شممتُ رائحتكَ أو بعتها لحلّاق".

عادةً، حين تحملُ المجموعة الشعريّة عنواناً مأخوذاً من قصيدة مُحدّدة في المجموعة، فإنّ هذه القصيدة تأخذ اهتماماً خاصّاً، لأنّها تحمل وعداً خفيّاً للقارئ بمنحه مفتاحاً للعمل الشعريّ كلّه، كأنّها كلمة المرور التي سيستطيع من خلالها الولوج إلى عمق العمل، أو كأنّها تكثيف لروح المجموعة. فهي تبدو مثل اسم الابن البكر في تقاليدنا العربيّة، الذي يُنادَى الأب باسمه، وننتظر منه حمل طموحه.

فاختيار عنوان قصيدة بالذّات لا بدّ أنّه عائد لسبب مُحدّد أو لمعنى في قلب الشاعر. وعنوان المجموعة هنا هو "سيرةُ الأعرابيّ"، وهو مقتبس من قصيدة في الديوان بعنوان "مفاصل من سيرة الأعرابيّ". يوحي العنوان أنّ "الأعرابيّ" إشارة عن ذات الشاعر نفسه، لكنْ حين نقرأ القصيدة، نجد أنّ "الأعرابيّ" فيها هو ذاتٌ أُخرى مُفتَرضَة، ويمكن أن يكون كناية عن صديق، شكّلت موضوع القصيدة:
"في زمنٍ صار غابراً الآن
حدّثنا الأعرابيّ:
لا شيء جديد".

نجد كذلك أنّ القصيدة لا تلخّص روح العمل ولا تشي بأجواء المجموعة، وهذا خيار فنّيّ أيضاً، بما في ذلك من إرباك محتمل. أمّا بخصوص حمولة المفردة، كلمة "الأعرابيّ"، فهي تحيل، شئنا أم أبينا، إلى عادات، وطقوس البداوة، ومشاهدها، وعالمها، وهذا ما لا نجده في القصيدة. لكنّ مفردة الأعرابيّ تشير أيضاً، في أحد وجوهها، إلى الوحدة الشاسعة، تلك الوحدة التي يشعرها الأعرابيّ أمام الصحراء متناهية الأطراف. تلك الوحشة الوجوديّة أمام غياب الكائنات، والخلاء المعتم. وفي هذا الجانب بالذات من معاني المفردة ما يتقاطع مع أجواء المجموعة ككلّ:
"الأعرابيّ مشى وحيداً
بين قبور فارغة
وحده الصمت اخترق باب جسده
ودخل خلسةً.
كان يجوب المفارق
يؤرّخ للحكاية ويرتجل:
كنّا هنا".

اعتماد شكل الرسائل يوحي بالوقوع على نص صادق وحميم

تبدو بعض الصور في القصائد مُحيّرة في لامنطقيّتها، ولأنّ الشعر لا يستند إلى منطق علميّ لتفسير الظواهر، فإنّنا لا نستطيع إنكار هذه الصور، لكنّنا نتوقف عندها، متسائلين عن ماهيتها وغرابتها المُلفتة. فعبر هذا النوع من الصور، يجتهد القارئ في الوصول إلى تفسير ما، أو إلى مقاربة خياليّة ما، أو إلى محاولة التقاط إحساس واضح أو خفيّ، قريب أو بعيد، وإلّا فإنّ الصورة تصبح محدودة الفاعليّة عليه، وهذا ما يحدّده القارئ نفسه عند كلّ قراءة للنصّ:
"الذي احتضن الماء ذات مرّة
كان مجرّد غربال
والغربال أجوف
الرصيف مذ تعقّب خطوات العابرين
لم يعدْ شيئاً 
البتّة".

وقد تكون تلك إشارة إلى قصّة جمع الماء بالغربال، وهي قصّة الزوجات الخمسين في الميثولوجيا الإغريقيّة (داينادِس)، واللواتي عوقبن بذلك إلى الأبد بعد قتل أزواجهنّ. 

تأتي القصائد في مركز الصفحة، في توزيع بصريّ مقصود للنصوص على صفحات الكتاب، ويأتي ترتيب الجمل كأنّها كتل، وليست سطوراً مُمتدة على طرف الصفحة كما هي العادة. فيغلب التكثيف على القصائد رغم طول بعضها. وهنا يقوم القارئ بقراءة النصّ، نيابة عن الشخص الذي وجّهتْ له القصيدة، ولن يستطيع قراءتها لأنّه رحلَ الآن، كلقمان وأيمن، فهما لن يقويا لا على القراءة ولا على الردّ ولا على الحوار، بينما يقوم القارئ نيابة عنهما بقراءة النصّ وتأويله، فكما يقول بول ريكور: "تبدأ التأويليّة حيث ينتهي الحوار". 


* شاعر وناقد فلسطيني مقيم في باريس

وقفات
التحديثات الحية

المساهمون